الجريمة المروعة التي ارتكبت صباح الاثنين الماضي في ميدان السبعين، وراح ضحيتها ما يقارب مائة جندي وأكثر من مائتي جريح، تحمل دلالات خطيرة إذا ما تأملنا في طبيعة الجريمة والجهة التي تقف وراءها وأيضا الجهة المتواطئة معها وسهلت لها مهمتها، هذا بالإضافة إلى دلالة التوقيت والمكان والضحايا. فمن حيث التوقيت، جاء ارتكاب الجريمة بعد ثلاثة أحداث رئيسية، الأول، إعلان وزارة الداخلية أن عضوا من تنظيم القاعدة يدعى "الشبواني" تسلل إلى أمانة العاصمة، واحتمال أن ينفذ عملية انتحارية ضد منشآت حكومية، ودعت الأجهزة الأمنية إلى اليقظة والحذر. والثاني، اختفاء الحراسة المشددة من مداخل ميدان السبعين قبل الجريمة بخمسة أو ستة أيام تقريبا، علما أن هذه الحراسة بدأت منذ انطلاق ثورة الشباب، وتم إغلاق الميدان نهائيا في وجه حركة السير، ثم سمح لحركة السير فيه مؤخرا مع وضع كتل إسمنتية على مداخله وانتشار أطقم عسكرية وجنود يقومون بتفتيش مختلف السيارات المارة بالميدان بما فيها باصات الأجرة، لكن هذه الحراسة المشددة اختفت قبل ارتكاب الجريمة وبعد إعلان الداخلية عن تسلل أحد عناصر القاعدة إلى أمانة العاصمة. أما الحدث الثالث، فهو الإعلان عن تدهور حالة الرئيس المخلوع "صالح"، ودخوله إلى المستشفى لإجراء عمليات صغيرة! هذه الأحداث الثلاثة المتقاربة زمنيا والتي حدثت قبل ارتكاب الجريمة بأيام قليلة، سبقتها أيضا أحداث مهمة أخرى، مثل نجاح الرئيس "هادي" في حربه على القاعدة بمحافظة أبين، وتحقيق قوات الجيش المشاركة في الحرب هناك لتقدم ميداني أربك حسابات القاعدة، كما أربك حسابات المخلوع "صالح" وعائلته، الذين أزعجهم الانتصار على "القاعدة" كون هذا الانتصار كشف تلاعبهم بورقة القاعدة وعدم جديتهم في الحرب عليها. بالإضافة إلى حدث آخر يتمثل في تصلب الموقف الدولي إزاء المخلوع "صالح" وعائلته، حيث قرر مجلس الأمن تأجيل جلسته التي كانت مقررة الخميس الماضي إلى نهاية الشهر، وذلك بهدف إفساح المجال لأطراف لتسوية السياسية لإظهار التزامهم بتنفيذ الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، والمقصود بذلك المخلوع وعائلته الذين يعرقلون التسوية السياسية. وقبل تأجيل الجلسة بيوم واحد، أصدر الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمرا تنفيذيا يخول الإدارة الأمريكية فرض عقوبات على الأفراد والكيانات التي تهدد الأمن والاستقرار في اليمن من خلال تعطيل عملية الانتقال السياسي، بل واعتبر الرئيس الأمريكي أن هذه التصرفات تتجاوز ما هو أبعد من ذلك، حيث اعتبرها تشكل تهديدا استثنائيا وغير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة. ومن دلالات التوقيت أيضا أن هذه الجريمة جاءت قبل يوم واحد من الاحتفال بعيد الوحدة لأول مرة في ظل رئيس جديد ووطن جديد بدون المخلوع "صالح"، الذي اعتاد طوال السنوات الماضية التغني بمنجز الوحدة مدعيا أنه هو من حققها وأنه هو صمام أمانها، مع أن إسهامه في الوحدة كان جزئيا، وحصد جهود الآخرين واختزلها في شخصه، بل كان هو أكثر من أساء للوحدة وأنهكها بسياساته الفاشلة. ومن دلالات التوقيت إلى دلالات المكان، فالمخلوع "صالح" وعائلته مازالوا يعتقدون أن منطقة السبعين ملكا خاصا بهم وخطا أحمر يحظر على الآخرين اجتيازه، ولذلك فهم لا يحتملون وجود رئيس آخر يخترق حصنهم الحصين، أو أن تشارك وحدات من الفرقة الأولى مدرع في العرض العسكري بمناسبة ذكرى الوحدة، أو أن يحضر قيادات في أحزاب المعارضة ويصعدوا إلى المنصة التي تعتبرها العائلة حكرا عليها، وذلك كما حدث أثناء الحملات الانتخابية الرئاسية في العام 2006م عندما مُنع مرشح اللقاء المشترك المناضل فيصل بن شملان، رحمه الله، من إقامة مهرجانه الانتخابي في أمانة العاصمة بميدان السبعين، بذريعة أن الميدان ليس مخصصا للمهرجانات الانتخابية، لكن بعد ذلك سمح لمرشح المؤتمر الشعبي بإقامة مهرجانه الانتخابي هناك. إذن، فدلالات التوقيت والمكان لا يمكن الجزم بأنها تمثل خيوطا لمعرفة من الذي ارتكب الجريمة، هل القاعدة أم إحدى الجهات الأمنية الموالية للمخلوع وعائلته، ولكنها وبكل تأكيد تثبت أن المستفيد من هذه الجريمة والمتواطئ مع منفذيها هو المخلوع "صالح" وعائلته، الذين سحبوا الحراسة من مداخل ميدان السبعين قبل ارتكابها بأيام قليلة، وأعلنوا عن تسلل أحد عناصر القاعدة إلى أمانة العاصمة، ثم أعلنوا أخيرا عن تدهور صحة المخلوع ودخوله المستشفى لتبرئته من أي تهمة توجه له بخصوص الجريمة. كما أن التواطؤ مع تنظيم القاعدة في هذا التوقيت يراد به إرباك الرئيس "هادي" وقوات الجيش التي ضيقت الخناق على التنظيم في محافظة أبين، فالمخلوع وعائلته غاضهم الانتصارات التي تحققت ضد القاعدة، فأرادوا إيهام المجتمع الدولي أن القاعدة مازالت قوية، وأنها قادرة على الوصول إلى أشد الأماكن حساسية وفي قلب العاصمة، كما أرادوا أيضا التقليل من أهمية الانتصارات على القاعدة في أبين في ظل قيادة الرئيس الجديد "هادي". أضف إلى ذلك، أن المخلوع وعائلته أرادوا صرف أنظار مجلس الأمن والولايات المتحدة عن مسار التسوية السياسية، وذلك من خلال إرباك المشهد المحلي بقضايا جانبية تثير اهتمام المجتمع الدولي وتصرفه عن محاولة فرض أي عقوبات على المخلوع وعائلته ولو مؤقتا بغرض استهلاك الوقت حتى تتمكن العائلة من إعادة ترتيب أوراقها. وهناك أيضا وقائع أخرى مثيرة للغاية، وتضع ألف علامة استفهام حول الحادث، وحول الجهة التي تقف ورائه، وأيضا حول حقيقة الحزام الناسف، وهل هو فعلا حزام ناسف أم متفجرات زرعت في المكان أم عبوة ناسفة رميت من حديقة السبعين باعتبار مكان الحادث يقع بالقرب من سور الحديقة وليس بالقرب من المنصة التي يتواجد فيها وزير الدفاع وغيره من المسؤولين الذين قالت القاعدة إنها كانت تستهدفهم بعمليتها البشعة؟ وقد ظهر أحد الجنود المشاركين في بروفة العرض العسكري في إحدى القنوات الفضائية وقال بأنهم عندما بدؤوا في البروفة كان هناك مدنيون في حديقة السبعين يصورونهم بالتلفونات من خلف سور الحديقة، وأنهم طلبوا منهم الابتعاد عن المكان والتوقف عن التصوير، وبعد ذلك بقليل وقع الانفجار. والمعلوم أن حديقة السبعين تخصص يومي الاثنين والثلاثاء من كل أسبوع للنساء فقط، وتمنع دخول الرجال إلى الحديقة في هذين اليومين، فمن أين جاء هؤلاء المدنيون إلى الحديقة؟ ولماذا سمح لهم جنود الأمن المركزي الذين يحرسون الحديقة بالدخول وأيضا التصوير؟ وهل كان هناك جنود يتولون حراسة الحديقة في هذا اليوم أم لا؟ علما أنه قبل فترة قصيرة صادر الجنود في الحديقة كاميرا أحد المواطنين عندما رأوه يصور المنصة وهي خالية من داخل الحديقة بمبرر أن ذلك ممنوع! وإذا افترضنا أن القاعدة هي من نفذت العملية بدون أي تنسيق مع الأجهزة الأمنية، وأنها تمكنت من اختراق الأمن المركزي وجندت عناصر تابعين لها العام الماضي عندما فتح باب التجنيد في الأمن المركزي بغرض قمع الثورة الشبابية، وإذا افترضنا أن القاعدة أرادت اغتيال كبار المسؤولين بمن فيهم وزير الدفاع، فلماذا لم تؤجل توقيت العملية إلى اليوم التالي، أي يوم الاحتفال بذكرى الوحدة وليس أثناء البروفة، حيث سيحضر الرئيس هادي وكبار المسئولون، ثم لماذا لم يقم منفذ العملية بالتفجير أمام المنصة المتواجد فيها وزير الدفاع وغيره من المسئولين، وفجر نفسه بالقرب من سور الحديقة رغم المسافة الطويلة بين السور والمنصة؟! كما لوحظ أن قناة "اليمن اليوم"، المملوكة لأحمد علي عبدا لله صالح، انفردت بتغطية مميزة للجريمة، وصورتها أثناء وقوعها من زوايا مختلفة، ما أعاد إلى الأذهان انفرادها بتصوير حادثة تفجير طائرة شحن في قاعدة الديلمي الجوية في شهر مارس الماضي، وما أثير حول ذلك من شكوك بخصوص الجهة المنفذة للعملية التي اتهمت القاعدة بتنفيذها. وبعد حوالي ساعة من وقوع الجريمة انتشرت في أمانة العاصمة شائعة كالنار في الهشيم، تفيد أن من نفذ العملية هو أحد جنود الأمن المركزي، وأنه ألقي القبض على جنديين آخرين يحملان أحزمة ناسفة قبل أن يقوما بتفجيرها، واللافت أن هذه الشائعة نسبت إلى ضابط في الحرس الخاص، فهل قام هذا الضابط ببث الشائعة -بصرف النظر عن مدى صحتها- بمفرده أم أن شعبة بث الشائعات التابعة لجهاز الأمن القومي هي من قامت ببثها بغرض صرف الأنظار عن مجرد التفكير في من يقف وراء العملية؟ أما بخصوص تنظيم القاعدة الذي تبنى هذه العملية، ويبحث هذه الأيام عن أي دور بطولي يعيد له كرامته التي تمرغت مؤخرا في أبين، فيلاحظ أن هناك تضاربا في التصريحات المنسوبة إليه، والتي نشرت في عدد من المواقع والمنتديات الالكترونية وصفحات الفيس بوك، فالتنظيم قال في البداية إن العملية جاءت انتقاما لشهداء الثورة الذين قتلوا على أيدي جنود الأمن المركزي، ثم قال بأن العملية الهدف منها نقل المعارك إلى خارج محافظة أبين، وأخيرا قال بأن العملية كان الغرض منها اغتيال وزير الدفاع ومسؤولين آخرين، واستثمر الحادثة مهددا بارتكاب المزيد من الجرائم في حال لم تتوقف الحرب عليه في محافظة أبين، وهذا التصريحات المختلفة للتنظيم قد يكون مصدرها جهات أخرى غير التنظيم. وأخيرا، إذا اعتبرنا أن تنظيم القاعدة هو من نفذ العملية، وخاصة إذا كانت تمت بواسطة حزام ناسف وليس بواسطة متفجرات زرعت في المكان أو عبوة ناسفة رميت من خلف سور حديقة السبعين، فالدلائل تشير إلى تواطؤ المخلوع "صالح" وعائلته مع التنظيم الذي نفذ عملية إجرامية هي الأولى من نوعها، وفي توقيت حساس للغاية، وقد حققت العملية الهدف الرئيسي من ورائها، والمتمثل بعدم إقامة الاحتفال بمناسبة ذكرى الوحدة في ميدان السبعين.