تزحف محافظة مأرب باتجاه الأمان فتعترضها فوهات البنادق.. ترنو نحو السكون فلا تأخذ منه إلا ساعات الهدوء الذي يسبق العاصفة.. وبدون مقدمات تجد ذاتها في معظم الأحيان في خضم موجة متلاطمة من لعلعة الرصاص القادم من موقع مواجهات القبائل والجيش في طريق رئيسي ، أو الناتج عن التقاء غريمين في وسط سوق أو مكان عام على خلفية ثأرات قبلية. صباح الاثنين التاسع من أغسطس عاشت مديرية مدغل المحاذية للخط الرئيسي الذي يربط بين مأربوصنعاء ساعات ملبدة بالبارود إثر اشتباكات عنيفة اندلعت بين قبائل الجدعان وقوات من الشرطة العسكرية نتيجة اعتقال الشرطة العسكرية لأحد جرحى قبيلة الجدعان أثناء تلقيه العلاج في مستشفى الرئيس العام بالمحافظة وإيداعه سجن الأمن والتحقيق معه ، وقد أسفرت تلك الاشتباكات عن مقتل فتاة في السابعة عشر من عمرها وإصابة أمها ورجل آخر أثناء مرورهم في منطقة المواجهات ، وكان الجريح الذي تم احتجازه ضمن مجموعة من أفراد قبيلة الجدعان الذين اشتبكوا مع الشرطة العسكرية يوم الخميس 5/ أغسطس الماضي بعد أن أقام أفراد القبيلة نقطة قطاع قبلي بخط صنعاءمأرب واحتجاز قاطرة غاز تابعة لتاجر من سنحان ، على خلفية خلاف على قطعة أرض قرب ميناء محافظة الحديدة، وأدت الاشتباكات السابقة مع الشرطة العسكرية إلى مقتل شخص من أفراد نقطة التقطع وهو (صالح مبخوت جميح ) وجرح ثلاثة آخرين ، بالإضافة إلى مقتل ( محمد علي الشدادي) وهو من أبناء قبائل دهم بمديرية رغوان ، وإذ قبل أولياء دم الشدادي التحكيم الذي قدمه وكيل المحافظة وهو عبارة عن أربع بنادق ومائتين ألف ريال كفن ، نظراً لكون ابنهم لم يكن ضمن أفراد نقطة القطاع.. فقد أصرت قبيلة الجدعان على عدم تمديد الهدنة المحددة بمساء الجمعة حتى يتم تسليم الجناة من أفراد الشرطة العسكرية. يشير ناصر مبروك رقيب عضو المجلس المحلي بمحافظة مأرب أن وساطة قبيلة نهم التي يقودها الشيخ / أحمد درهم الشليف تمكنت من تهدئة الأوضاع ووقف الاشتباكات في ساعاتها الأولى والأمور تبشر بخير ، حيث قدم محافظ مأرب بندقه لقبيلة الجدعان ، والتزم بتقديم كل ما يلزم بالنسبة لقتلى وجرحى المواجهات السابقة، مع قيامه بإعادة الجريح الذي تم احتجازه إلى المستشفى وتأكيده على ضمان استمرار معالجة الجرحى وعدم احتجاز أي منهم مجدداً. ويضيف رقيب وهو أحد كبار الوسطاء : أن محافظ مأرب طلب من قبيلة الجدعان تقديم (أيمان) بعدم صلتهم بقتل المدنيين أثناء أحداث الاثنين الماضي ، وقد وافقت القبيلة على الحلف بألا علاقة لها بذلك ، هذا بالإضافة إلى موافقة الجدعان أيضاً على مطالب (آل جرادان من قبيلة عبيدة) بتقديم المصفى و أيمان (22) حالف بأنهم ليسوا من قتل (أفراد أسرة الشرعبي) على اعتبار أن الشرعبي قطير آل جرادان وفقاً للعرف القبلي أي ساكن في ديارهم. ويؤكد رقيب أن مساعي الوساطة ستستمر خلال الأيام القادمة وستتواصل مع كافة الأطراف المعنية، وذلك من أجل حقن الدماء وترسيخ الأمن والاستقرار. يمكن القول أن محافظة مأرب لا يراد لها أن تخلد إلى الهدوء أو تعانق السكينة، كما يراد لملفها الأمني أن يظل محشوراً في زاوية اللاإستقرار... صحيح أن مأرب تعاني أمراضا مرتبطة بتركيبتها الاجتماعية القبلية القائمة على ثقافات معينة.. غير أن موقع القيادة والمسئولية خال كما يبدو!!.. والمؤسف حقاً أنه كلما ازدادت درجة الانفلات الأمني في المحافظة، كلما زادت درجة اللامبالاة لدى أجهزة الأمن وبالذات إدارة الأمن التي تحتفظ بسجل خال من أي إيجابية تتعلق بقضايا الأمن والاستقرار. المشكلة أن مأرب وحدها من يدفع ثمن تلك الإختلالات وذلك العجز في القيادة وتبدو كمنتحر يشنق نفسه بينما هناك من يتحسس جيوبه لنهب ثرواته المخفية، وتكمن المشكلة في أننا نبحث عن حل سحري لإيقاف ما تسميه السلطة (التجاوزات القبلية)، فيما الثورة الحقيقية التي يجب أن تحدث هي ثورة في المواقف والأفكار من داخل أبناء مأرب لتتمكن من رسم مستقبلها الغائب عن اهتمامات الدولة. الإعلام الرسمي في إطار تعاطيه مع الحادثة والقطاع القبلي التابع لقبيلة الجدعان ، قال إن اثنين من أفراد عصابة مكونة من خمس أشخاص للتقطع والنهب لقوا مصرعهم على يد قوات الشرطة العسكرية وأصيب ثلاثة آخرين مضيفاً بأنهم مجموعة من المسلحين يشكلون عصابة خطيرة للتقطع في مأرب.. ولم تشر تلك الوسائل الإعلامية الرسمية إلى أي شيء له علاقة بنقطة التقطع أو الأسباب التي كانت وراء الحادثة. تظل ظاهرة ( القطاعات القبلية ) ظاهرة منبوذة ولا ينبغي البحث عن مبررات لها حتى وإن كانت هناك مظالم ومطالب لا يمكن التوصل إلى حلها إلا بتلك الوسيلة التي يتم اللجوء إليها من باب (آخر الدواء.. الكي) ، غير أن انعكاسات ذلك العلاج تقودنا في كثير من الأحيان إلى نتيجة مفادها أن (آخر الدواء) قد يجيء ب (علل جديدة) ، كما هو الحاصل حالياً في قضية الجدعان. بالطبع.. لا ينبغي أن تأخذ الجهات الأمنية والمسئولة سلبية (القطاعات القبلية) ذريعة لتجريم (الباحثين عن الحقوق)، وشماعة تغطي بها عجزها وفشلها في إنصاف المظلومين وإيصال الحقوق إلى الناس ، حيث أن معظم (النقاط القبلية) التي نصبت في الخط الرئيسي (مأربصنعاء ) خلال الأشهر القريبة الماضية جاءت بعد حالة يأس من إمكانية الوصول إلى الحقوق عبر البوابة الرسمية والجهات المعنية التي عرضت القضايا عليها ، وحصلوا منها على توجيهات صريحة وقرارات واضحة تؤكد وقوف الحق إلى جانبهم في تلك القضايا ، لكن المماطلة وحالة اللامبالاة والتساهل تجاه حقوق الناس التي تظهر من خلال أداء أجهزة الأمن ومسئولي السلطة تضطر أولئك الأشخاص إلى ركوب الموجة بمبرر (فما حيلة المضطر إلا ركوبها) خصوصا وأن هناك حقوق عادت لأصحابها بعد لجوئهم إلى تلك الوسائل ، فيما لا تزال عدد من القضايا والحقوق المعروضة على السلطة والمحفوظة في أدراج القضاء والأمن عالقة منذ عشرات السنين ، بل إن بعضها تحول إلى خبر(كان) ، وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة إعادة النظر في طريقة التعامل مع حقوق الناس من قبل أجهزة السلطة وسرعة البت في مثل تلك القضايا من باب سد الذرائع ، كما أن المجتمع مطالب باتخاذ موقف جاد وحازم تجاه تلك الظاهرة التي تكون (الضحية) فيها دائما (مأرب).