ظهر حزب المؤتمر الشعبي العام كتتويج للمشروع السياسي الذي كان قد بدأه الرئيس الحمدي إبان فترة حكمه القصيرة, وكانت الأحزاب السياسية محظورة وقتئذ, على الرغم من أن السلطات كانت تتعامل معها كأمر واقع. وحين وصل الرئيس السابق إلى السلطة لم يكن ثمة حزب حاكم وقتها, في حين كانت الجبهة القومية وحلفاؤها في جنوب الوطن قد أعادوا تموضعهم في السلطة في صيغة حزب سياسي جديد تخطى صيغة التنظيم السياسي الموحد ليضم ائتلاف حزبي موسع حمل في منتصف عام 1978م أسم الحزب الإشتراكي اليمني. وبالتالي يمكن القول أن المؤتمر الشعبي العام نشأء في الشمال- في أحد أسبابه- كمعادل سياسي موضوعي للحزب الإشتراكي في الجنوب. في الوقت نفسه, فقد مثّل وجود حزب حاكم- في الشمال- ضرورة سياسية بالنسبة للرئيس الجديد القادم من أوساط الجيش, لإخفاء مظاهر الحكم العسكري (الإنقلابي) وإعطائه مسحة ديمقراطية وإكسابه مشروعية سياسية فيما بعد. ولأن الرجل لم يأت من وسط إجتماعي وقبلي مرموق, وهي لم تكن سبه بل ميزة, إلاّ أنه ربما رأى في الحزب حاجة ملحة لملء تلك الفجوة. مثّل المؤتمر الذي حوى لفيفا من كل الإنتماءات الحزبية مظلة سياسية للأحزاب المحظورة, وهو ما سهل على صالح التعامل معها مباشرة, بل وإشراكها- ظاهرياً- في الحكم كأعضاء في حزبه أو كنواب في مجلس الشعب, وبذلك ضمن عدم تحمل مسئولية الحكم لوحده, في حين كان هو من يُحكم قبضته على السلطة ويستفرد بها ويتدخل في أدق شؤونها وتفاصيلها حتى تركزت بشكل كلي في يده. مع انبثاق حزب المؤتمر الشعبي العام وإعلان مولده في 24 أغسطس 1982م بدأت مرحلة سياسية جديدة تميزت بالإستقرار النسبي, وبكونها أستطاعت غلق ملف الجريمة السياسية التي أطاحت بنظام الرئيس الحمدي وتقييدها ضد مجهول, في حين كان يفترض بالنظام الجديد أن يقوم بواجبه الوطني والأخلاقي والقانوني, ويشرع على الفور في فتح التحقيقات لكشف طلاسم تلك الجريمة المروعة, وإزالة ذلك الغموض الذي ظل مصاحباً لها إلى اليوم. ومهما يكن, فقد كان ذلك التخاذل, أو التواطؤ إن جاز التعبير, في القيام بالدور الوطني المأمول تجاه تلك الجريمة بمثابة أولى الجرائم السياسية لنظام صالح بحق الوطن. ولد المؤتمر في حجر السلطة كحزب جرى تفصيله على مقاس الحاكم, ليكون حزباً للحاكم لا حزباً حاكماً, وظل أداة طيعة بيد صالح لاستقطاب الوجاهات والشخصيات السياسية والإجتماعية وقادة المجتمع, وبعد أن عرفت اليمن الإنتخابات زادت تبعاً لذلك وظائف الحزب ليغدو أداة انتخابية احترافية بيد الحاكم, مهمتها جمع الأصوات بوسائلها الخاصة وإظهار حجم التأييد الشعبي له وتضخيمه لتكريس مشروعيته السياسية. وهنا تحديداً تحول حزب المؤتمر إلى شريك لصالح, لكن ليس في الحكم بل في تكريسه وشرعنته لحساب صالح عبر التلاعب بإرادة الناخبين وتمرير ما يشاؤن. جرائم الحزب جنوباً لم يكن ثمة رؤية أو استراتيجية واضحة للمؤتمر, عدا تلك التي يقررها صالح, وهي لم تكن في الواقع أكثر من تكتيكات آنية أجادها الرجل وتفنن في اللعب من خلالها فوق رؤوس الثعابين كما يحلو له القول دائماً. ونتيجة لغياب الرؤية لديه وحضور التكتيك وطغيانه على المشهد السياسي برمته, تفاقمت الأزمة السياسية عقب إعلان الوحدة وقادت إلى حرب 94م. ورغم أن الظروف الداخلية والخارجية لعبت دوراً مهماً آنذاك في دحر الإنفصال لصالح الوحدة, إلاّ أن صالح أساء تقدير الموقف فيما بعد وارتكب خطأ جسيماً حينما أطلق العنان لحاشيته وقادة حزبه وجيشه لاجتياح الجنوب وتفيّده بصورة همجية لم تشهد لها اليمن مثيلاً من قبل. وكأنه بذلك أراد محو الجنوب من الخارطة السياسية وإنهاء دوره السياسي, وبخاصة بعد ما نجح في إقصاء الإشتراكي من السلطة. وكانت تلك أكبر ضربة موجعة وجهها صالح وحزبه للوحدة اليمنية ولأبناء الجنوب على وجه خاص. وهي جريمة سياسية بامتياز تضاف إلى سجل جرائمه الزاخر. وبالنسبة للحزب فلم يتعرض خلال الحقبة الزمنية التي سبقت ثورة فبراير 2011 لهزات عنيفة أو انشقاقات وصراع أجنحة, لجهة قدرته على تلبية طموحات مراكز القوى بداخله, وإرضاء تطلعات قادته ومكوناته المختلفة وتحقيق مصالحهم الخاصة عبر تسخير مقدرات الدولة وتوظيفها لحسابهم. لكن إحدى جرائمه التي سيحاسبه عليها التاريخ, مباركته سياسة صالح في الجنوب, بعدما أطلق هذا الأخير يد رجالات حزبه ومقربيه ومتنفذي السلطة كي يستحوذوا على ثروة الجنوب, حتى أن بعضهم امتلك قطاعات نفطية بأكملها, والبعض الآخر امتلك مساحات شاسعة من الأرض تجاوز بعضعها مساحة مملكة البحرين. زلزال الثورة وجرائم صالح مثّلت الثورة الشعبية السلمية في 11 فبراير 2011 أكبر زلزال سياسي ضرب بقوة حزب المؤتمر الحاكم (سابقاً), وكادت تطوح به لولا قبوله راغماً باتفاق نقل السلطة. وهو منقسم اليوم على نفسه بين قيادات تتصارع لأجل السيطرة عليه واستخدامه كمظلة سياسية, وإن كان صالح ما يزال يحكم قبضته عليه. والواقع أن قوى دولية وإقليمية مارست ضغوطها للإبقاء عليه ضمن المعادلة السياسية التي تشكلت في أعقاب الثورة الشعبية, كما أن إصرار مؤسسه (صالح) على التشبث به كآخر خطوطه الدفاعية أسهم إلى حد كبير في منحه عمراً إضافياً. ومع ذلك, لا يمكن إنكار أن المؤتمر خسر الكثير من رصيده عقب الثورة, فمن جهة فقد التأييد القبلي في أوساط كبار قبائل اليمن التي أعلنت صراحة وقوفها إلى جانب الثورة, ومن جهة ثانية خسر الكثير من أعضاء وقيادات الحزب, سواء البرلمانية منها أو السياسية, وذهب بعضهم لتأسيس حزب جديد, كحزب العدالة والبناء الذي يقوده القيادي السابق في المؤتمر محمد أبو لحوم, فيما ذهبت بعض القيادات البرلمانية المستقيلة من كتلة الحزب إلى تأسيس تكتل خاص بها تمثل في الأئتلاف البرلماني بقيادة عبد الباري دغيش, والبعض الآخر فضل العمل في دائرة المستقلين. وبالجملة فإن تلك التصدعات التي ضربت بنية المؤتمر كانت نتيجة متوقعة لثورة الشعب ضده, وردة فعل طبيعية لإفراط صالح في استخدام القوة والعنف في مواجهة شباب الثورة وارتكابه جرائم بشعة بحقهم مثل مذبحة جمعة الكرامة بصنعاء (21 مارس 2011), وإحراق ساحة الحرية بتعز (29 مايو 2011), ومجازر أخرى ارتكبت من قبل قواته وبلاطجته بحق الثوار كمجزرة كنتاكي وقاع العلفي ومدينة الثورة الرياضية ومجلس الوزراء, وفي محافظات الحديدة وعدن والبيضاء وغيرها, وهي المجازر البشرية التي سقط فيها أكثر من 1500 شهيد, وما يربوا على 20000 ألف جريح, علاوة على مئات المختطفين والمخفيين والمعتقلين, بالإضافة إلى جرائم الحرب التي ارتكبها في أرحب والحصبة وصوفان, وضحاياها كثيرون, وخسائرها المادية جسيمة, حيث شردت عشرات الأسر من منازلها. كل ذلك سيُلقي حتماً بظلال قاتمة على مستقبل الحزب, وسيؤثر بطريقة مباشرة على وضعه السياسي والإنتخابي في الخارطة السياسية التي ستتشكل على المدى القريب, إذ حتى لو غاب صالح عن المشهد, وعلى فرض ظل المؤتمر متماسكاً, وثمة شكوك جدية حول ذلك, فستظل لعنة تلك المجازر المروعة تلاحق الحزب الذي وفر مظلة سياسية لصالح وفضل الإنحياز إليه على أن ينحاز إلى ثورة الشعب ومطالبه العادلة. والأهم من ذلك, أن المؤتمر لم يتمكن حتى اللحظة من إنتزاع قراره من يد صالح, بدليل إخفاقه في عقد مؤتمره العام الثامن نتيجة رفض صالح. وهذا ما أكده القيادي المستقيل من حزب المؤتمر محمد الجايفي بقوله: علي صالح أثبت خلال 33 عاما أنه اختطف الثورة والجمهورية والوحدة, ولم يتبق لهذا الرجل إلا أن يختطف المؤتمر الشعبي العام وهو الآن اختطفه فعلا مع شلته السبعة. ويمكن القول أن وظيفة حزب المؤتمر في ظل سيطرة صالح عليه انحصرت تحديداً في مهمتين أساسيتين, الأولى: التماهي مع مخططه في الإنتقام من ثورة الشعب, وقيادة ثورة مضادة بتواطؤ بعض أطراف خاجية. الثانية: محاولة تهيئة الأجواء والظروف السياسية لعودة عائلة صالح مجدداً إلى السلطة, عبر الانتخابات البرلمانية القادمة التي يعولون عليها كثيراً في حصد أصوات الناخبين وإقناعهم بفشل الثورة في تحقيق مطالبهم. وفي كل الأحوال, وسواء نجح المؤتمر في الانتخابات البرلمانية المقبلة في حصد الأصوات أو لم ينجح, فإن الدلائل تشير إلى أنه سيبقى جزءا من المشهد السياسي لفترة قد تطول وقد تقصر, بيد أن الأهم في الأمر هو أن غيابه عن الساحة مرتبط إلى حد كبير بغياب مؤسسه, فهو نشأ في الأصل كاستجابة ضرورية لمصالح المؤسس لا استجابه طبيعية لمصالح الشعب, بدليل نشوئه من أعلى، وتوسع قاعدته الشعبية في أوساط الهيكل الوظيفي للدولة. كما أنه يفتقر للمشروع السياسي الناظم لقوى المجتمع بدليل إخفاقه في الحفاظ على الوحدة, وتواطؤه حالياً في مشاريع مشبوهة للتآمر على ثورة الشعب تماهياً مع مشروع العائلة. ومن المتوقع أن يصمد لبعض الوقت, بعد رحيل صالح, بدافع التحدي أو لوجود تمويل من هنا أو هناك, وربما رعاية من بعض جهات خارجية قد تجد غايتها فيه, لكنه سيكون عرضة للإندثار بمجرد رحيل المؤسس الأول وغيابه عن المشهد السياسي, فمؤهلات البقاء والصمود في وجه التحديات هي أبعد ما تكون عن حزب أمضى سنواته في خدمة فرد مستغنياً به عن خدمة وطن وشعب. [email protected]