لا خلاف على أن ثمة مطالب مشروعة لأبناء محافظة حضرموت وكل المحافظات الجنوبية والشمالية على حدا سواء، وهي المطالب التي تأخر تنفيذها كثيرا بفعل عقلية العصابة التي أدارت الدولة لأكثر من ثلاثة عقود، وآن لتلك المطالب الحقوقية أن ترى النور بعد طول معاناة. والحقيقة أن ثورة فبراير السلمية حملت معها تلك المطالب كجزء من مشروع التغيير الشامل الذي بشرت به، وصولا إلى الهبة الشعبية الحضرمية التي أعلنها أبناء حضرموت في العشرين من هذا الشهر، وحرصوا على سلميتها وحذروا في بياناتهم من محاولات البعض حرفها عن مسارها السلمي لإحراز مكاسب سياسية لا علاقة بها بأهداف الهبة الشعبية ولا بمطالب أبناء حضرموت التي يعرفها الجميع والتي ابدى الرئيس هادي استجابة فورية لها. وقد حاول الحراك الانفصالي وأطراف سياسية معروفة بعدائها لثورة التغيير ركوب موجة الهبة الحضرمية وافتعال أعمال عنف ومصادمات مع القوات الحكومية، وحاولوا اسقاط بعض مؤسسات الدولة ومعسكرات الجيش للدفع بعجلة الانفصال وتكريسه كأمر واقع، لكن آمالهم تبددت وتحطمت على صخرة الوعي الشعبي الحضرمي والجنوبي، إذ يدرك أبناء الجنوب مرامي وأبعاد مخطط الفوضى والعنف الذي يراد سوقهم إليه، لذا فقد خرج أبناء حضرموت أنفسهم لحماية مدنهم من الفوضى وتأمين المنشآت الحكومية من عبث قوى التخريب، واستطاعوا إفشال مخطط اسقاط المحافظة بأيدي قوى التآمر. على أن أحداث حضرموت والمناطق الجنوبية الأخرى قد عكست مدى الحاجة لمراجعة السياسات القائمة وضرورة التفاتها لمطالب الناس وسرعة معالجتها وعدم ترحيلها من آن لآخر، فعجلة التغيير التي دفعت بها ثورة فبراير ينبغي أن تواصل تقدمها وتتغلب على العقبات التي تجهد قوى الثورة المضادة لوضعها في طريقها. ولكي يأخذ التغيير مساره الصحيح ويحقق أهدافه المنشودة فإن من الأهمية بمكان إعادة النظر في سياسة منح الثقة، وبالأخص لأولئك الذين يناط بهم مسئولية إدارة شئون البلد ورعاية مصالح الناس، وهو ما يحتم ضرورة الاستعانة بالقوى الوطنية الكفؤة والنزيهة، المخلصة والمؤمنة بثورة التغيير، المستعدة للتضحية لأجلها وفي سبيل أهدافها النبيلة وفي المقدمة منها تعزيز وحدة الشعب وبناء دولته. وفي هذا السياق، وقعّت المكونات السياسية في مؤتمر الحوار الوطني على وثيقة حلول وضمانات القضية الجنوبية، وهي الوثيقة التي تحقق أعلى قدر ممكن من التوافق، وفيها ألتزم الموقعون بحل القضية الجنوبية حلاً عادلاً في إطار دولة موحدة على أساس اتحادي وديمقراطية جديد وفق مبادئ دولة الحق والقانون والمواطنة المتساوية، وذلك عبر وضع هيكل وعقد اجتماعي جديدين يُرسيان وحدة الدولة الاتحادية الجديدة وسيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها، وسوف تمثل هذه الدولة الاتحادية قطيعة كاملة مع تاريخ الصراعات والاضطهاد وإساءة استخدام السلطة والتحكم في الثروة، مع اعتراف كامل بالأخطاء المؤلمة والمظالم التي ارتكبت في الجنوب. لقد مثّل غياب دولة المؤسسات والمواطنة المتساوية واحتكار السلطة والثروة لصالح الحكم العائلي المستبد وشبكة محسوبيته ومراكز القوى والمصالح المرتبطة به أكبر ضربة تلقتها ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وهو ما سعت ثورة فبراير السلمية لتصحيحه وتقويم اعوجاجه، بيد أن بطء عملية التغيير واختراقها في بعض الأحيان من قبل قوى الثورة المضادة التي ما فتئت تعمل ضمن أدوات الدولة العميقة على تعطيل مسار التغيير وإعاقة التحول السياسي ووضع العقبات أمام مساعي نقل السلطة وبناء الدولة والانتقال بالبلاد إلى حالة الاستقرار السياسي والرفاة الاقتصادي، وضعف الدولة في مواجهة تلك التحديات، وخضوعها لسياسة التوازنات حينا وللابتزاز حينا أخر، كل ذلك أدى في نهاية المطاف إلى خلق حالة من الاستياء والتبرم وخصوصا في المحافظات الجنوبية الأشد تضررا من ممارسات الإقصاء والتهميش والنهب المنظم من قبل رأس النظام السابق وأركان حكمه. وقد عمدت القوى المناوئة لثورة الشعب لنسج تحالفات مشبوهة داخل الوطن وخارجه في محاولة منها لاستثمار الثغرات والاختلالات على الجبهة الجنوبية وتوظيفها تاليا لتأجيج الشارع الجنوبي وجره إلى مربع العنف، وإحالة المحافظات الجنوبية إلى مسرح لعملياتها التخريبية وحقل تجارب لمخططاتها التآمرية ضد وحدة الوطن وأمنه واستقراره. وفي كل الأحوال، فإن التغيير الذي ينشده أبناء حضرموت وبقية المحافظات الجنوبية الأخرى سواء عبر الهبة الشعبية أو حركة الاحتجاجات المطلبية طويلة الأمد هو ما يطالب به اليمنيون جميعا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وهو ما يسعون إليه عبر مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وبالتالي فليس ثمة ما يستوجب النزوع نحو العنف أو الابتزاز طالما وأن الجميع متفقون على مبدأ التغيير كطريق اجباري لم يعد بالإمكان النكوص عنه.