سنكون قد جافينا الحقيقة إذا اعتبرنا أن بناء الدولة اليمنية الحديثة يمكن أن يتم بمعزل عن بناء جيش وطني متماسك, أو بوجود جيش ضعيف منقسم مشتت الولاءات ومحطم المعنويات. لابد من الاعتراف بحقيقة أن وجود جيش وطني عميق الانتماء لبلده وشعبه مؤهل التسليح عال التدريب, منضبط في أدائه ومهامه بعقيدة عسكرية ورؤية استراتيجية واضحة المعالم, يمثل أحد الضمانات الضرورية لانبعاث الدولة اليمنية الحديثة وحمايتها من التفكك, بعد تحصينها- بالطبع- بالعدل والشورى والمواطنة المتساوية وأسس الحكم الرشيد. بطبيعة الحال لا يمكننا الحديث عن أمن الوطن واستقراره واستعادة هيبة الدولة وسلطتها دون أن نشير للدور المحوري للجيش في هذا الجانب, فالجيش يتحمل مسئولية تأمين حدود الدولة وصيانتها من الاختراق الخارجي, في الوقت الذي يحميها كذلك من الاختراق الداخلي ومن الوقوع فريسة سهلة بأيدي المليشيات المسلحة وجماعات العنف التي ما فتئت تبني لنفسها دولة داخل الدولة وتؤسس لكيانات طائفية معزولة وسلطة بديلة وجيش مواز لتمرير مشاريعها الصغيرة. وحين نسمح بتمرير ثقافة العنف والمليشيا المسلحة نكون بذلك قد قبلنا بالعودة إلى ما قبل الدولة, وهو ما تنشده جماعات العنف والتطرف التي لا تجيد العمل في ساحة الدولة بقدر ما تجيده في ساحة العنف ومربع الفوضى, لذا نراها تكثف من هجماتها الإرهابية في استهداف الجيش ورجال الأمن على الجبهتين الشمالية والجنوبية حتى صار الجيش هدفا مشتركا لكلا الجبهتين, والفارق بينهما أن الإرهابيين والقتلة على الجبهة الجنوبية يقتلون ويختفون عن الأعين, بينما نظراؤهم على الجبهة الشمالية يقتلون على مرأى ومسمع, متحدين الدولة والجيش والقرارات الدولية, ومستفزين مشاعر المجتمع والرأي العام. وفي كلتا الحالتين لا ينبغي السكوت على هذا الاستهداف الممنهج لقوات الجيش والأمن من قبل تلك الجماعات الإرهابية التي احترفت القتل وأشاعت الفوضى والخراب, وحملت معها منذ نشأتها مشروع حرب لتفكيك الوطن وتدميره وتقاسمه ممزقا, وهي تُصّر على فرض مشروعها المتخلف بالقوة وتنصيبه بديلا لدولة الشعب, في تحد سافر لنضالات اليمنيين وتضحياتهم الكبيرة منذ ثورتي سبتمبر واكتوبر وحتى ثورة 11 فبراير التي جاءت تتويجا لهما وتكريسا لأهدافهما ومبادئهما. ومهما يكن, فإن محاسبة المقصرين والمخلين بواجباتهم في المؤسسة العسكرية والأمنية هو من صميم عملها المؤسسي, كي لا يسقط المزيد من الضحايا وتسيل المزيد من دماء أبناء القوات المسلحة والأمن, فاستمرار الهجمات الارهابية على ذلك النحو المريع الذي رأيناه شرقي المكلا بحضرموت وأدى إلى مقتل عشرين جنديا دفعة واحدة, واستمرار الهجمات الإرهابية كذلك في شمال الشمال وقتل الأبرياء واحتلال مناطقهم وتفجير بيوتهم ومساجدهم واستهداف النقاط الأمنية ومعسكرات الجيش وتحدي السللطة الشرعية, كل ذلك عمل إجرامي ينبغي التصدي له بحزم كي لا تضعف معنويات الجيش وتتلاشى هيبة الدولة ويتعرض وجودها للخطر. إن الجيش هو صمام أمان الوطن وحامي استقلاله وكرامته, وما لم يحظَ برعاية واهتمام القيادة السياسية من حيث تحسين مستوى المعيشة وزيادة الدخل ورفع مستوى الخدمات الطبية وتطوير المهارات القتالية ورفده بشتى أنواع الأسلحة الحديثة وفق خطط مدروسة وإدارة واعية فإن الخدمة الوطنية في صفوف الجيش ستفقد بريقها وسيضعف ولاء الأفراد لمؤسستهم العسكرية والأمنية, ما يعرض أمن البلد لتهديدات ومخاطر محتملة. إن العمل على بناء الدولة وتكريس سلطة الشعب واحترام القانون لا يمكن أن يتم بمعزل عن الممارسة الحقيقية للديمقراطية, فيما لا يمكن للديمقراطية ان تنتعش في بيئة يسودها العنف والفوضى وعدم الاستقرار, وبالتالي لا ديمقراطية بلا استقرار ولا استقرار حقيقي بلا جيش وطني قوي يؤمن بمسئوليته الوطنية تجاه شعبه, وفي المقدمة منها نزع سلاح الجماعات المسلحة وإخضاعها للقانون وسلطة الدولة كضمانة أكيده لتعزيز الأمن والاستقرار وإنعاش الحياة السياسية. تلك هي رسالة الجيش ومهمته الوطنية, لا أن يقف متفرجا بداعي الحياد فيما جماعات العنف والإرهاب تنهش الوطن وتوجه له الطعنات وتهرق الدماء على جوانبه.