منذ التئام جلسات اللجنة المشتركة (لجنة المأتين) للتهيئة والإعداد للحوار الوطني الشامل وصولاً لتنفيذ اتفاق فبراير 2009 طبقاً لبنود المحضر التنفيذي الموقع في 17 يوليو2010 بين المشترك والمؤتمر، رمى هذا الأخير- حتى الآن- بثلاث أوراق مفخخة بين يدي المشترك بقصد إحباط جهود اللجنة المشتركة وإفشال عملية الحوار. الورقة الأولى كانت محاولة إحياء دور اللجنة العليا للانتخابات منتهية الصلاحية، والثانية تمثلت في تشكيل ما ُسمى " لجنة مرجعية الحوار" من عدد من علماء اليمن والتي صدر بها مؤخراً قرار جمهوري، أما الورقة الثالثة (وليست الأخيرة) فكانت إدراج قانون الانتخابات المختلف عليه في الدورة الحالية لمجلس النواب تمهيداً لإقراره. الورقتين الأولى والثانية جرى اللعب بهما بالتزامن مع التحضيرات الدولية لمؤتمر أصدقاء اليمن في نيويورك، حيث صاحب تلك التحضيرات – على الجانب اليمني- تضخيم إعلامي متعمد للحملة العسكرية ضد عناصر القاعدة في محافظتي أبين وشبوة بصورة بدت وكأن الجيش يخوض حرباً سابعة في الجنوب بمجرد فراغه من الحرب السادسة في الشمال، في حين جاءت الورقة الثالثة عقب انتهاء اجتماع أصدقاء اليمن في نيويورك مباشرة. الأمن على حساب الديمقراطية لأسابيع مضت ذهبت السلطة تحشد أزمة العنف المتضخمة جنوباً ليكون وقعها شديداً على طاولة أصدقاء اليمن المجتمعين في نيويورك، بغية جعل الهاجس الأمني محور اهتمامهم ومرتكز نقاشاتهم، وأولوية قصوى في أجندتهم تطغى على ما عداها من القضايا وبالأخص ما يتعلق منها بقضايا الإصلاح السياسي، في ذات الوقت الذي أرادت حثهم- عبر تضخيم القاعدة- على تأمين المزيد من الأموال لمكافحة تهديدات الإرهاب المتفشي جنوباً بصورة مقلقة لهم، بعبارة أخرى، أرادت السلطة لفت أصدقاء اليمن صوب المشكلة الأمنية باعتبارها جذر المشكلة وأساسها في اليمن، وتوجيه اجتماعهم في هذا السياق بقصد التقليل من أهمية العملية السياسية والديمقراطية في اليمن كونها ليست قضية مُلحة في الوقت الراهن بحسب تصورها. في غضون ذلك، وأثناء ما كانت توقعات السلطة تذهب إلى أنها ربما تكون نجحت في توجيه سياق مؤتمر نيويورك ودفع شركائها الدوليين في الاتجاه الذي حددته، وفي ظل تلك الأجواء المفعمة بالقلق الدولي المتزايد من تنامي العنف والإرهاب جنوبي اليمن، عمدت السلطة إلى تحريك ورقة اللجنة العليا للانتخابات للضغط على المشترك، وتوقعت مساندة شركائها الدوليين لخطوتها تلك ولو من قبيل غض الطرف واعتبار الأمر شأناً خاصاً بالأحزاب، لكن وقبيل انعقاد مؤتمر نيويورك بيومين فقط أعلن الرئيس أنه من أجل ضمان نزاهة الانتخابات واكتسابها الشفافية المطلقة سيعاد تشكيل اللجنة العليا للانتخابات طبقاً للاتفاق بين المؤتمر والمشترك!! فما الذي حصل بالضبط؟ في الواقع هذا التراجع جاء كنتيجة مباشرة للقاء جمع الرئيس بنائب رئيس المعهد الديمقراطي الأمريكي لشئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا(لس كامبل)، وبما أن مؤتمر نيويورك كان على الأبواب فربما حرص الرئيس على إظهار قدر من التجاوب مع مطالب المعارضة ورغبة المانحين بتحسين شروط العملية الانتخابية التي يدعمونها. ومهما يكن الأمر، فلم تلق خطوة المؤتمر تلك- إشهار ورقة لجنة الانتخابات وإعادة إحيائها- ترحيباً من جانب الشركاء الدوليين الذين جرى ترهيبهم لوقت كاف في حرب القاعدة في الجنوب قبيل الإقدام على تلك الخطوة، لكنهم اعتبروا تلك الخطوة بمثابة عائق آخر أمام إتمام العملية الانتخابية في موعدها فرفضوها. قراءة خاطئة لمؤتمر نيويورك وفي قراءة خاطئة لنتائج اجتماع أصدقاء اليمن في نيويورك شرع الحزب الحاكم في الإيعاز لأغلبيته البرلمانية بإدراج قانون الانتخابات (المختلف عليه) في الدورة الحالية لمجلس النواب تمهيداً لإقراره، بذريعة أنه لا ينبغي الربط بين إجراء الانتخابات ومسار الحوار، وأن الانتخابات والحوار يمكن أن يمضيا معاً دون أن يؤثر أحدهما على الآخر، هذا ما فهمه المؤتمر من بيان أصدقاء اليمن الأخير، وعليه أكدت افتتاحية صحيفة الثورة (28/9) تأييد كافة المنظمات الدولية المهتمة بالشأن الديمقراطي في اليمن إجراء الانتخابات في موعدها مع استمرار الحوار في مساراته، بل إن الدكتور أحمد عبيد بن دغر الأمين العام المساعد لحزب المؤتمر أكد في مقابلة صحفية له أنه ليس أمام المؤتمر إلاّ المضي باتجاهين ومسارين متوازيين الأول مسار إجراء الانتخابات في موعدها المحدد، والمسار الثاني التمسك بالحوار، وأضاف؛ بأن هذا التوجه قد باركه اجتماع مجموعة أصدقاء اليمن في نيويورك، حيث أكد الأصدقاء- بحسب بن دغر- على إجراء الانتخابات في موعدها والمضي في ذات الوقت في عملية الحوار. لكن ومرة أخرى تتراجع السلطة عن مسلكها المتعنت هذا، ويتفق الرئيس مع أمناء عموم أحزاب المشترك على سحب قانون الانتخابات المثير للجدل من قاعة مجلس النواب وإعطاء الفرصة للجنة المشتركة كي تنجز برنامجها الحواري، ونتساءل مجدداً ما الذي حدث بالضبط ولماذا تراجعت السلطة عن تمرير القانون؟ للإجابة على هذا السؤال ربما يتعين علينا أن نتفحص بعضاً من أوراق العلاقة القائمة حالياً بين السلطة اليمنية وشركائها الدوليين، وعلى أي أساس تقوم هذه العلاقة. من حيث المبدأ أعلنت مجموعة أصدقاء اليمن في نيويورك دعمها للحوار الوطني كونها تمثل أفضل أساس لتنمية الأمن والاستقرار الدائمين، واعتبروا الحوار الوطني أكثر المنابر فعالية في المضي في الإجراءات العاجلة واللازمة لضمان إجراء انتخابات حرة وعادلة ومتعددة الأحزاب، والمتأمل في الفقرة السابقة يجد أنها اعتبرت الحوار المدخل الحقيقي للأمن والاستقرار في اليمن، بمعنى أن المعارضة صارت شريكاً فاعلاً في إرساء دعائم الأمن والاستقرار، وبالتالي لم يعد مقبولاً بل ولا ممكناً تخطيها في أية تسوية سياسية من شأنها أن تعزز أمن البلد واستقراره، وثانياً فقد طالب أصدقاء اليمن بانتخابات حرة وعادلة ومتعددة الأحزاب، فهل يمكن إجراء تلك الانتخابات وبتلك الشروط بمعزل عن مشاركة أحزاب المشترك؟ هل فهم المؤتمر من تلك العبارة أن من حقه المضي منفرداً أو بالطريقة التي يريدها صوب الانتخابات وإن بمعزل عن التوافق السياسي مع المشترك؟ ثم هل صرّح البيان بأنه يدعم فكرة مسار الانتخابات بعيداً عن مسار الحوار؟ الشيء الآخر، أن أصدقاء اليمن أكدوا على حقيقة أن الفساد (وليس الإرهاب) هو من أدى إلى تقويض التنمية والاستثمارات، وساهم في حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في اليمن. وهذه نقطة في غاية الأهمية، فالسلطة تنسب للإرهاب تقويض التنمية وزعزعة الاستقرار، فيما أصدقاء اليمن ينسبون ذلك للفساد، وبالتالي من غير السلطة تمارسه؟ ما يعني اتهاماً مباشراً لها بأنها السبب الرئيس وراء تقويض التنمية وانهيار الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلد، وأن إصلاح الأمر يقتضي إصلاح السلطة من داخلها، لأجل ذلك، ولغياب ثقة المانحين بالسلطة فقد أيدوا تأسيس مكتب لدول مجلس التعاون الخليجي في صنعاء ليساعد المانحين على تخطيط وتنسيق وتقديم المساعدات لليمن بشكل أكثر فعالية. والى جانب اهتزاز ثقة المانحين بالسلطة في النواحي المالية بالنظر إلى حجم الفساد المستشري فيها، فإن ثقتهم تراجعت كذلك بشأن مصداقية ما تطرحه السلطة بخصوص حجم الإرهاب ومخاطره، وليس أدل على ذلك من التصريح الذي نسبته شبكة CNN لمسئول يمني اشترط عدم ذكر أسمه من أن ما يجري في الجنوب من الحرب على القاعدة إنما هو لعبة بقصد استجلاب الأموال، وبصرف النظر عن صحة التصريح من عدمه، وما إذا كان حقيقياً أو تسريباً فهو في النهاية مؤشر واضح على مدى اهتزاز ثقة الولاياتالمتحدة بحليفها الذي شعرت أنه يبتزها أكثر من العادة، ونسوق هنا مثالاً آخر ُيفصح عن مقدار الاستياء الأمريكي من ابتزاز الحكومة اليمنية للأموال الأمريكية بذريعة الحرب على القاعدة ومكافحة الإرهاب، ففي مقال في مجلة " السياسة الخارجية" الأمريكية – ترجمته المصدر- قالت المجلة : يعلم الجميع ما الذي سيحصل في اليمن إن لم يحصل صالح على المزيد من الأموال المجانية من الولاياتالمتحدة، فلطالما اتخذ صالح هذا التهديد ومسئولوه كلما سنحت لهم الفرصة لطلب المساعدات الدولية، وبعد أن تعرضت المجلة لمساوئ الحكم في اليمن وعلاقته المشبوهة بالقاعدة استطردت بالقول: ولكن إذا استمر صالح في رفض ومماطلة تنفيذ الإصلاحات فيتعين على الولاياتالمتحدة وحلفائها عمل شيء لا يصدق ولا يمكن تصوره في الحرب الممكنة على الإرهاب: التراجع وجعل صالح يحس بألم اقتصاده الجاف الممتص وإحباط شعبه،بدلاً من محاولة دعم مستبد متقلب. وأضافت: كما هو الحال بأفغانستان تستطيع الولاياتالمتحدة أن تساعد بشكل أفضل بالسماح لليمنيين والقادة اليمنيين الأفضل فعلاً بأن يقولوا كلمتهم الأخيرة، على حد تعبير المجلة. وما يمكن قراءته بين السطور: لقد طفح الكيل بأصدقاء اليمن، ولم يعودوا مستعدين لبذل المزيد من أموالهم في معارك وهمية تديرها السلطة هنا وهناك بقصد استنزاف محافظهم، كما أن ثقتهم بها تنحدر نحو الأسوأ، وباتوا يستشعرون أهمية أن تشرع حكومة المؤتمر في تنفيذ التزاماتها الدولية بإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية والأمنية المطلوبة لتحسين أدائها وضمان استمرارها بفاعلية، وأول ما يتوجب عليها فعله التوافق مع المعارضة في الإصلاحات المطلوبة التي على رأسها الإصلاحات الانتخابية التي حددها اتفاق فبراير وكل الاتفاقات التي سبقته، ما لم سيجد النظام نفسه وحيداً في مواجهة أزماته الاقتصادية منها على وجه الخصوص، بل إن الشركاء الدوليين قد يذهبوا بعيداً (في معاقبة السلطة) حد إتاحة الفرصة لمناهضيها في أن يقولوا كلمتهم! على حد تعبير المجلة الأمريكية!! وهو تلميح تفهمه السلطة جيداً وتعي عواقب تجاهله. ويبدو أن السلطة استوعبت الدرس، وأعادت قراءة الرسالة الأمريكية جيداً وأدركت أنه لا طاقة لها بمناطحة الأمريكيين وحلفائهم الذي باتوا أكثر قناعة بضرورة إحداث إصلاحات شاملة في هذا البلد توفر له قدراً من الاستقرار وتدعه يأخذ فرصته في تحريك عجلة التنمية، ولكن ليست تلك التنمية التي تستثمر في مشاريع الإرهاب أو في الحروب العبثية في الشمال، بل التنمية التي تستثمر في حرية ونزاهة الانتخابات، وفي شراكة الأحزاب وقوى المجتمع في بناء وطن آمن مستقر، لذا سارعت السلطة إلى الاتفاق مع المعارضة على سحب قانون الانتخابات من مجلس النواب والعودة إلى طريق الحوار. ولا يعني ذلك قطعاً أن شركاء النظام باتوا على وشك التخلي عنه واستبداله وإن كانوا يلوحون له بذلك، لكنهم ملوا من مشاكله وابتزازه الدائم لهم، وشعروا بحاجتهم لقليل من الأمن تتوافر عليه مصالحهم التي يُعرّضها النظام للخطر ويساوم بها كلما فرغت خزينته، وربما أيضاً لم تنضج بعد خياراتهم البديلة التي يمكن أن تساعد في خلق وضع أفضل لمصالحهم وللبلد ككل.