طالما استمعنا دعاة الدولة المدنية ينادون بحماية الحريات ورعاية الحقوق العامة والخاصة، ورأيناهم يستنكرون أية انتهاكات تمس حياة الإنسان وفكره ورأيه، ويطالبون ببناء دولة النظام والقانون بعيداً عن الاستقواء بالسلاح أو الاحتماء بالعصبية القبلية أو الطائفية أو العنصرية أو المذهبية... وتظل أي دعوة مجرد أفكار نظرية تصدّقها الممارسة أو يكذّبها الواقع، وما تزال الشواهد تؤكد أن الكثير مما يقال عن الحريات وحقوق الإنسان ليست سوى شعارات سقطت في أُولىٰ امتحانات الواقع، وحتى الدول [ الديموقراطية ] بَارَكْتَ السقوط المريع لمبادئ حقوق الإنسان عندما كان الأمر متعلقاً بالعربي والمسلم؛ لكنها تغضب وتثور وقد تتدخل عسكرياً إذا كان المجني عليه من غير الجنسية العربية والإسلامية!! مثقفون ومفكرون وساسة وناشطون حقوقيون في بلادنا يصمتون صمت القبور إزاء انتهاكات حقوق الإنسان إذا كانت ضد من يختلفون معه سياسياً أو فكرياً؛ ما يجعل حديثهم عن الحريات والحقوق مجرد لهْوٍ ولعب، وضحك على البسطاء والسّذّج، وعدم احترام للعقل والمنطق، ولا عزاء للمقولة المشهورة التي يرددونها للفيلسوف الفرنسي فولتير: ( قد اختلف معك في الرأي لكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك!! )... ما حدث في عمران من اعتداءات سافرة طالت حياة المواطنين؛ وقتلهم في ديارهم وتدمير منازلهم، وتفجير لدار القرآن الكريم في الخَدَرَة التي أسسها الرئيس إبراهيم الحمدي - رحمه الله - قبل أربعين عاماً، ثم تفجير مقر الإصلاح في ذيفان، وأخيراً العدوان على السجن المركزي وإطلاق سراح القتلة والمجرمين واللصوص ومن صدرت بحقهم أحكام قضائية... تلك وغيرها من الجرائم مارستها ميليشيات مسلحة مسنودة بخطاب الكراهية والاستعلاء ودعوات الاستئصال، ولم نسمع من الناشطين ودعاة الدولة المدنية استنكاراً، ولا من رعاة المبادرة الخليجية موقفاً، ولا من الأحزاب السياسية إدانة لهذه الانتهاكات، وبحجة أن هذا صراع بين الحوثي والإصلاح ولا دخل لغيرهما به، ولا بواكي للضحايا: قتلى وجرحىٰ ومشردين طالما أنهم يناصرون فصيلاً سياسياً لا يقابل الإساءة بمثلها، ويسعىٰ للحفاظ على استقرار الوطن، ويدفعه الشعور بالمسؤولية إلى عدم الانزلاق نحو الفوضىٰ والانتقام!! لقد قبل الجميع بالحوار الوطني ومخرجاته، على مافيه من غَبْنٍ في التمثيل والإدارة والنتائج، على أمل التعاون في الخروج من دوامة الأزمات إلى آفاق الشراكة في بناء اليمن الجديد، وانتهاج التنافس الانتخابي الشريف وسيلة للتداول السلمي على السلطة، لكن ما حدث قبيل انتهاء مؤتمر الحوار الوطني وحتى اليوم من انتهاكات صارخة لحق الإنسان في الحياة والعيش بسلام والتعبير عن الرأي؛ ابتداءً بقتل السلفيين في دماج وتهجيرهم من وطنهم، ثم العدوان على قبيلة حاشد، ومروراً بثلا وهمدان، وانتهاءً بمحاولة تركيع وإذلال أبناء عمران بقوة السلاح وتحت سطوة المال والتهديد والترغيب والترهيب، كل ذلك والناشطون الحقوقيون لا يقولون شيئاً، ولا يحركون ساكناً، ولم يطرف لهم رمشٌ حُزْناً على الحقوق المنتهكة!! الذي يدعو إلى الدولة المدنية لا يقبل فرض الرأي بالمدفع والبندقية، ولا يسلِّم بأن القوة فوق القانون، وهذا ما جعل الأخ رئيس الجمهورية يرفض طلب الإصلاح بتغيير محافظ عمران قبل اندلاع الحرب الأخيرة، ولم يقبل حينها استقالة المحافظ محمد حسن دماج، حتى لا تصبح الفوضى وسيلة للتغيير، وحسناً فعل بتعيين محافظ جديد بعد تثبيت وقف إطلاق النار، وإن كنت شخصياً قد دعوت مبكراً إلى تغيير المحافظ قطعاً للذرائع الواهية، وحرصاً على الدماء اليمنية الزكية، وقبل استفحال تلك الحرب العبثية التي حشد لها الحوثي الأطفال والأغرار من عدة محافظات، وكان يغني عن ذلك السير في تنفيذ مخرجات الحوار، وإعادة النازحين إلى ديارهم، والمطالبة ببدء إعمار ما دمرته الحروب السابقة، والتوجّه نحو الاستفتاء على الدستور، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية للخروج من الوصاية الدولية، ومن ثم الانطلاق نحو البناء والتنمية في ظل التعايش والاعتراف بالآخر؛ وهو ما سيقتنع به الجميع في نهاية المطاف؛ وفي يد اليمنيين الوصول إليه اليوم قبل الغد ومن دون إراقة للدماء أو انتهاك للحقوق أو زرع للعداوات!! مرة أخرى إذا لم يكن الناشطون ودعاة الدولة المدنية موضوعيين في التعاطي مع الأحداث والمستجدات المتعلقة بالحريات والحقوق فعليهم أن يتواروا عن الأنظار، ويكفّوا عن التباكي والتذاكي على المبادئ التي صدّعوا الآذان للتبشير بها، وعلى الدولة القيام بواجباتها في بسط سلطة النظام والقانون وحماية كل المواطنين والمحافظة على حرياتهم وحقوقهم، وهو ما يجب تداركه بقوة الدستور والقانون وبسط نفوذ الدولة على كامل أراضي الجمهورية، وإلا فلا لوم ولا عتب على من يلجأ إلى السلاح أو يبحث عن عصبية ليدافع عن حريته ويحمي نفسه وماله وعرضه، ويذود عن كرامته وحقه في الحياة، وقد قيل: ( لا تعلّم الدُّبَّ لقْطَ الحجر!! ) [email protected]