يحضر في تاريخ الصراعات الفكرية عبر التاريخ نماذج شوهاء، تمثل نتوءات سخيفة، لا تسمح لها مناعة الفكر الإنساني بالبقاء إلا لفترة محدودة هي مدة افتعالها، وفترة محاولة فرضها على الواقع الفكري على أنّها عمل إنساني نسيج وحده إبداعا وسَبْقا، ثم لا تلبث أن تذهب رمادا إلى مجاهل النسيان. ولعل الصفة المشتركة لهذه النتوءات التافهة عبر التاريخ أنها لا تولد ولادة طبيعية من رحم حاجة فكرية أيٍّ كان لونها، وإنما تُسْتولد بافتعال أحمق طائش، ولأن ظروف ميلادها غير صحية فإنها تخرج إلى دنيا الناس ناقصة مشوهة، وبملامح مقرفة، وهي بذلك تحمل حيثيات اندثارها وانصراف الناس عنها، ومثلما انصرف الناس عن هرطقات مسيلمة الكذاب في التاريخ الأول، ينصرف الناس عن خزعبلات مشابهة لا تزال تطل برأسها بين الحين والآخر حتى يوم الناس هذا. الشعر العربي كان له نصيب من هذا الخزعبلات، فمع إشراقة شمس الإسلام كان شعراء قريش يكيلون قدحهم وذمهم لرسول الإسلام، سالكين في هجائه كل طريق، وكان صبر الرسول على هذه القوالب القبيحة خير رد، فقد ذهبت من ثم أدراج الرياح، وبقي الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم نبراس الإنسانية كلها. وحين ذهب الشاعر ابن هاني الأندلسي يصنع نموذجا شعريا موغلا في القبح في مدحه لأحد الملوك بقصيدة مطلعها: ماشئتَ لا ماشاءت الأقدارُ فاحكم فأنت الواحدُ القهارُ وكأنما أنتَ النبيّ محمدٌ وكأنما أنصارك الأنصارُ كانت شطحات التسوّل الممجوج هذه كافية لإشعال جدل طويل بين المؤيدين والمعارضين لها، فكيف لهذا الشاعر الشحات أن يرقى بمقام ملك زائل إلى مقام الله الواحد القهار، أو إلى مقام نبيه الكريم، لكنَّ علماء الأندلس حينذاك لم يروا في هذه القصيدة الدميمة أكثر من يدٍ جوعى مرْتعشة تتسقّط فتات الملك متأله، سيزول، وستزول معه كل عبارات التملِّق والتزلِّف.. إنها سنّة البقاء للأصلح إذن. في قصيدة صحيفة الثورة التي نشرت يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي نموذج قريب من قصيدة ابن هاني، مع اختلاف الغرضين، فتلك مدح صرف، وهذه قدح خالص، وتلك تتغيا النوال من ملك جبار، وهذه تتغيا النيل من امرأة أقل ما يمكن القول عنها أن السماء دافعت عنها حين حاول طين الأرض النيل من شرفها، ومثلما حَسُن السكوتُ هناك مع قصيدة ابن هاني؛ كان يحسُن السكوت هنا، حتى نغلق بابا يُراد له أن يُفتَح على مصراعيه في فترة نحن بأمس الحاجة إلى إغلاقه. قصيدة حمقاء في صحيفة مقعدة.. ما الذي يمكن أن تصنعه في التاريخ؟ لا شيء.. إنها ليست أكثر من حماقة غبية لشاعر نكرة، أريد له أن يفتح باب صراع فكري، بحروفه الصدئة، ومع أنَّ القصيدة في غاية من التهافت الفني والفكري؛ إلا أنَّ المؤسف أن ردود الأفعال أعطتها حجما أكبر من حجمها، فما بين استنكار المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة، واستهجان هيئة علماء اليمن، واعتراض الأزهر الشريف، دُوِّل هذا النموذج الكسيح، وتبادر إلى ذهن مَن سمع بالقصيدة ولم يقرأها أنّها فتح جديد للشعر العربي قادم من اليمن، وملحمة تمثل الذروة فنا وبلاغة وأسلوبأ، بل إن هذا الحراك الضدي من القصيدة جعلها مطلوبة في محركات البحث سواء من داخل اليمن وخارجها.. وبذلك صُنعت هالة هذه القصيدة. إن أي صراع فكري لا ينبت بين العامة، ولكنه يولد في أروقة النخبة المثقفة، وعلى العاملين في محاربة هذا الصراع التنبه إلى محاولات جرِّ الأمة إلى براثن هذا الصراع، بالصمت الواعي عن مثل هذه القصيدة الدسيسة، التي كان توقيت نشرها متعمّدا، ولا يمكن النظر إليه بعيدا عما يجري اليوم في الواقع من وقائع مختلفة، فثمّة من يريد اليوم استدعاء الصراع الفكري والمذهبي لتأجيج الخلاف بين أبناء شعب واحد، مظلمته واحدة، وهدفه واحد. ومع تسليمنا بأن هناك منابر عديدة تأخذ ميزانيتها من لقم الجوعي من أبناء هذا الشعب، وتسعى في بث روح الفرقة والتنابز، لخلخلة الصف، وبث روح التشرذم؛ إلا أنه يتعين علينا أن لا ننتقل من الصمت الإيجابي (وأعرض عن الجاهلين)، إلى مربع من الجدل المتوتر، الذي لا يهدف إلى الوصول للحقيقة البتة، بل يهدف إلى إعلاء الصوت جلبة وفوضى.. فاسكتوا.. اسكتوا يرحمكم الله.