كثيرا ما تقف المهن والتخصصات حائلا يحجب جوانب إنسانية مهمة لدى صاحبها، فيصدق فيها وصف (الغُصن الذي حجبَ الغابة)، ومثلما جهل الناس شاعرية الرئيس الراحل عبدالرحمن الإرياني بسبب طغيان نظرتهم الأحادية التي لم تتجاوز منصب الرئاسة؛ جهل الناس أيضا شاعرية فيصل بن شملان، رحمه الله، والنماذج كثيرة في هذا الصدد، فعلى سبيل المثال قليل من الناس من يعرف أن السياسي المعروف الدكتور ياسين سعيد نعمان، أديب وقاص، وأنه أصدر رواية بعنوان (جُمعة)، بل والأقل من ذلك من يعرف أن الأستاذ علي بن عبدالله الواسعي الذي ظل لما يزيد عن عقدين من الزمن يطل على قرائه عبر نافذته الأسبوعية في صحيفة الصحوة (وخز الضمير) قاص أيضاً، وأن له رواية اسمها (جزيرة العميان). وقريب من هذه النماذج يقف الدكتور عبدالرحمن بافضل، الذي اشتهر تحت قبة البرلمان وفي مناصبه الحكومية المختلفة بصرامته الحادة في مناهضة الفساد، حتى اقترن اسمه في الذهنية الشعبية بالمعارضة المسئولة، بما فيها من حدة وصرامة، ومباشرة، وألقي في روع الناس أنَّ هذا الرجل ليس لديه وقت للتطواف في جوانب إنسانية أخرى، وأنّه أبعد ما يكون عن الأدب بفنونه المختلفة، ومثل هذا الانطباع كرّستْه المرحلة التي عاشها الفقيد، واستنفرت فيه خطابه الرافض لمختلف أشكال الفساد، وبلغة تقريرية بعيدة عن التزويق والتنميق، فالأحداث المتسارعة تتطلب استجابات سريعة، غير أنها لم تستطع إلغاء جوانب مهمة في شخصية الرجل، كوّنها وعي عميق ودراية مستبصرة، وخبرة طويلة، وثقافة واسعة، وتظهر واضحة جلية لجلسائه بعيدا عن منابر الخطاب الرسمي. وأعترف أن لقاءاتي بالفقيد لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة، لكنني من خلال هذه اللقاءات الخاطفة كان يقيني يزداد بأدبية هذا الحضرمي الطيب، وأنَّ مجريات الحياة وضعته ربما في غير المكان الذي اشتهر فيه آل بافضل في حضرموت، الذين نبغ منهم علماء وشعراء وأدباء، دُوِّنت سيرهم في كتب كثيرة، لعلَّ أشهرها كتاب (صلة الأهل في مناقب آل بافضل). إنْ لم يصدق في الفقيد مصطلح أديب، فإنه لا يبتعد كثيرا عن قول الأستاذ علي أحمد باكثير رحمه الله حين قرّر: ولو ثقَّفتَ يوما حضرمياًّ لجاءكَ آيةً في النابغينا وهنا أعترف أنَّ هذا البيت اقتنصته من أحد لقاءاتي بالفقيد، وأجد نفسي هنا مجبرا من ناحية أدبية بإيراد حيثيات مقنعة عن أدبية الرجل، واحتوائه لهذا المنحى الإنساني الجميل، حتى لا يصبح الأمر مجرّد مدح فاضح، خاصة وأنَّ كثيرا من اليمنيين يصدق فيهم قول الراحل سنان أبو لحوم "مدّاحو القبور"، وآمل أن لا أكون منهم!! أبرز ما يميز شخصية الراحل تلك النكنة السياسية التي كانت ترافقه أينما حلَّ، بما فيها من سرعة بديهية، وقدرة على اختزال الأحداث بلغة بسيطة بل وقليلة، تؤدي الغرض بيسر وسهولة، وتجمع بين الانتقاد اللاذع الرافض، وبين السخرية المريرة، ومن بين فرث هذا ودم ذاك ينبجس فن الإضحاك لبنا سائغا للشاربين، ويحتفظ زملاؤه في مجلس النواب بعشرات المواقف التي أضحكهم فيها بافضل، وأوصل رسائله الرافضة بعفويته المعهودة، وأسلوبه الساخر، في الوقت الذي ظلَّ فيه أرباب المنابر ينشئون المطولات المملة والخطب الرنانة التي كثيرا ما يصدق فيها المثل اليمني (مغنّي جنب أصنج). وفي حديثه خارج الإطار الرسمي بمختلف أمور الحياة، تحضر النكتة أيضا، ويحضر المثل الحضرمي بشكل طاغ، لكنه يستحضر هذا وذاك بوعي وبحرفية فائقة، فالمثل عبارة مختزلة تفقد فاعليتها إذا استدعيت في ما لا يتناسق معها، وتصبح ثرثرة لا أكثر، لكنَّ بافضل دقيق في ذلك، يعطي لكل حادثة وواقعة مثلها المطلوب دون نقص أو زيادة، حتى ليخيل للسامع أنه إما صانع محترف يصوغ لكل حدث مثالا يليق به، أو أنه قاموس متحرك للتراث الحضرمي قصصا، وحَكماً، وأمثلة. كما يحضر في حديثه الشعر بلونيه الفصيح والعامي، فتراه يتحدث يستشهد بباكثير، وبأبي بكر بن شهاب، وحسين البار، وعبدالرحمن السقاف، وعن حافظ إبراهيم، وأحمد شوقي، وغيرهم، يورد شواهدهم بأسلوب جميل، وباستشهاد بارع، وكثيرا ما يعيب على شعراء اليوم بعدهم عن قضايا أمتهم، والغوص في وديان الغموض والطلاسم، وبسبب ذلك فلم يعد أحد يستمع إليهم. ولعل النقاء والشفافية التي كان يتمتع بهما الرجل خير دليل على انتمائه لهذا الفضاء الإنساني النبيل، وزد على ذلك قدرته -وهو الاقتصادي المتخصص الذي نال درجات علمية رفيعة- على الاحتفاظ بتلك العفوية المحبّبة، التي ميّزت المبدع الحضرمي في مختلف مجالات الإبداع.