كان صباحا جميلا مشرقا بالشعر..جعلت من مركز الدراسات والبحوث بصنعاء مكانا استثنائيا لتكريم قامة شعرية استثنائية في يوم استثنائي باذخ الفرحة تقاطر إليه الشعراء والأدباء اليمنيون من كل حدب وصوب ليشهدوا تكريم وطن في إنسان حمل هذا الوطن حلما نبيلا رسمه الشعر وأنضجته المعاناة، فصار مسكونا به حد التماهي عاشقا له حد الوله. ومع إيماني العميق أنَّ فاعلية العطاء الثقافي لا تحقق تجلياتها وآفاقها المبدعة إلا في فضاءات من العفوية والصدق بعيدا عن الأضواء وعدسات التصوير إلا أن هذا التكريم للأديب الإنسان الدكتور عبدالعزيز المقالح جعلني أتراجع عن هذا الإيمان وهذا اليقين إلى اعتقاد آخر أكثر موضوعية، وهو أن للشعر أقطابا ومجددين سما بهم عشقهم للكلمة وإدراكهم لعظمتها إلى حالة من استمرارية العطاء، وديمومة البذل في مختلف الظروف والأحوال، كيف لا وهذا المحتفى به جاء ليحتفي نفسه هو بالشعر، متمتما بكلمات وقورة معلنا على رأس أهله ومحبيه وأبنائه من عشاق الكلمة عن تخصيص شطر من الجائزة لهذا الكائن المحلق في فضاء الله.. الشعر. السبت الماضي إذا كان يوما صادقا احتضنته صنعاء في احتفائية تكريمية صادقة خيم على مرتاديها شعور صادق بالفخر والاعتزاز، وبالفرحة في أن يوما من هذا الزمن الردئ جاء ليصنع الفرحة هنا بتكريم قامة من حقها التكريم، ومن حقها أن يُعترف بفضلها على الأفق الإبداعي ممارسة وتنظيرا، وكان الدكتور المقالح كعادته يوزّع ابتسامته الوقورة على كل الحاضرين في أبوة حنوة صادقة، وسط تهامس الكثيرين من الحضور في أن هذا التكريم لهذا الأديب الإنسان هو أيضا شرف للجائزة وللقائمين عليها في زمن ترصد فيه عشرات الجوائز الأخرى لفزاعات أدبية لم تبلغ معشار ما بلغه هذا الربيع الأخضر من العطاء والإبداع. لماذا المقالح رحلة طويلة في أضواء الكلمة تزيد عن نصف قرن، وتجربة ثرية في ظلال الهمس الشعري أنضجها وعي مسكون بالحب لكل مشرق جميل في الأفق الإنساني عامة، والعربي والإسلامي بوجه خاص، ولعل من أجمل خصائص هذه التجربة أنها لا تزال في اخضرار دائم لم يصبها اليباس، ولا خريف العمر، لأن الفنان الصادق لا يشيخ، ولا تهرم في مسارح وجدانه شجر القصيدة، ولقد وجد المقالح في آفاق الروح وسبحات الإيمان بعثا دائما لتجربته الشعرية، فمضى يحلق بأجنحة الشعر في فضاءات النور حيث تلتقي تجليات ابن الفارض وتأملات المعري، وإنسانيات ابن عربي، ووثبات فريد الدين العطار، في وقت شاخت فيه تجارب العديد من الشعراء من مجايليه، وتحولت إلى دمى مغضَّنة محدودبة تتأوه تارة وتسعل أخرى، وتأوي إلى كهوف من تذكار الزمن الجميل. لقد استحق المقالح هذه الجائزة عن جدارة واستحقاق، فهو شاعر ناقد مسكون بجمالية اللغة، يدور مع الجمال حيث دار، ويحتفي بالإبداع أيا كان مصدره، معتبرا أن كل نص جميل وراءه شاعرية مشرقة لا ينبغي للفرز الفكري والسياسي أن يحد من انطلاقتها، ومن ثم فهو أب للجميع، ويشهد على ذلك دأبه المستمر في تقديم المواهب الشابة من مختلف المشارب الأدبية والفكرية دون كلل ولا ملل. العويس..لا بد من صنعاء في كلمته التي ألقاها بذات المناسبة عبر الأستاذ (عبد الحميد أحمد) أمين عام مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية عن سروره بهذا التكريم مشيرا إلى أن اليمن حظي للمرة الثانية بمقعد في نادي الفائزين بجائزة العويس في مجال الشعر، بعد فوز الشاعر الر احل ( عبد الله البردوني) بها في دورة المؤسسة الثالثة، متمنيا أن يزداد عدد الفائزين اليمنيين في المستقبل القريب بالجائزة بما يتناسب وحضور اليمن في العطاء الشعري على مستوى العالم العربي، واصفا الدكتور المقالح ب(الشاعر المرموق) على المستوى العربي، وبأنه (مفكر صلب، وناشط ثقافي يشار إليه بالبنان)، مؤكدا إنه قدم طوال مسيرته الإبداعية إسهامات تحظى بالتقدير والاحترام، ليس على مستوى اليمن فحسب، وإنما على مستوى الوطن العربي ككل. ومن جهته عبر الدكتور عبدالعزيز المقالح عن شكره لمؤسسة العويس على الجائزة التي منحته وفاز بها في مجال الشعر، قائلا: إن تلك المبادرات الثقافية تحمل في جوهرها ودلالاتها تقديرا للشعر ذاته، باعتباره فن العرب الأول، مما يجعل الشعر وهو في تلك المكانة يعود إلى الصدارة في الثقافة العربية ويقوم بدوره الطليعي في خدمة قضايا المجتمع والأمة العربية، مشيرا إلى أن هذا التقدير الذي يناله اليوم هو تقدير لليمن، «بلدي الذي رعاني وسكنني وسكنته وتمتمتُ بالشعر في وديانه وجباله وقراه ونضجتُ على نار أحداثه وقضاياه ومنه انطلقتُ إلى أفق عربي واسعٍ اعتز بأنه موجود في شعري كما هو موجود في نثري بل في حياتي الفكرية كلها». تكريم في التكريم ولم يفت المقالح وهو في هذا الموقف الإنساني أن يعترف لأهل الفضل بحقهم، فأعلن عن إهداء نصف الجائزة إلى عائلته لتحملها انشغالاته وانصرافه إلى القصيدة وقضاياها، كما لم ينس صديقه الأثيري الجميل الذي رافقه تأملاته لحظة بلحظة وأفضى إليه بمكونات نفسه وذوب وجدانه (الشعر) فرصد له نصف الجائز التي حصل عليها، ولم يعط في ذلك تصريحات مستعجلة ليسنى لهاته الفكرة أن تولد مكتملة ناضجة ولتكون باعثا فعالا في الوسط الأدبي، مثلها مثل غيرها من الجوائز المعتبرة.