تتبلور مطالب الشعوب العربية التي رزحت تحت الأنظمة الدكتاتورية القمعية ردحا من الزمن في التخلص من ذاك الكابوس الرهيب وغدا نشيدها وشعارها الذي انتشر في الشعوب انتشار النار في الهشيم، وحتى صار هتافها المفضل موحدا في قولهم: «الشعب يريد إسقاط النظام» وهم يعنون نظام القهر والتسلط، نظام الاستبداد والنهب والاغتصاب، نظام العصابات التي استباحت الأديان والدماء والأموال والأعراض وكل المحرمات.. وأصبح هدير الشعوب وزمجرتها وتوحدها وتصميمها في مطالبها قدرا مقدورا، لا مفر للطغاة والمستكبرين أمام ذلك سوى الرحيل والاختفاء، أو السقوط المخزي المذل: «ومن يهن الله فماله من مكرم». بيد أن من واجب الشباب وهم وقود ورموز هذا التغيير أن يرسموا لهم برامجا وأهدافا واضحة المعالم تغطي الفراغ وتعالج الانحراف وتبين ما هدمه وخربه المجرمون، فالتركة ثقيلة والمسئولية جسيمة، والبناء يحتاج إلى عزيمة وتصميم، فما العمل؟ ومن أين يبدأ المصلحون، وما هي الأولويات في التغيير والبناء؟ في تقديري بأن هناك مجموعة من الأمور جديرة بأن تتصدر وتعطى أولوية يجتمع الناس حولها كما جمعتهم المطالبة برحيل الأنظمة الطاغوتية القهرية، ويمكن أن أجمل تلك الأمور فيما يلي: ليكن أول مطلب من المطالب إزالة الظلم، وإقامة العدل الشامل الذي يشمل الجميع، وللعدل مكانة وأهمية لا تخفى، بالعدل قامت السموات والأرض، وإنما تنهض الأمم وتستقيم حياتها بقدر ما تتمتع به من العدل. وهذا يعني إيجاد وبناء قضاء قوي ومستقل ونزيه، يختار له قضاة متمرسون من ذوي القوة والأمانة، ممن يخافون الله ويتقونه، من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. الحرص على لم الشمل وجمع الصف وتوحيد القلوب وإنهاء ما زرعه المستبدون من شقاق ونزاع، وتفرقة وتمزيق، وما بثوه من نعرات وعصبيات بين الأمة الواحدة، ففرقت بذلك بين القبائل، وحرشت بين الأحزاب والتنظيمات وعملت على تمزيق النقابات، ولم تدع شيئا إلا فعلته لإثارة الفتن وتأجيج الصراعات والانقسامات بهدف إشغال الجميع وضرب بعضهم ببعض، حتى يضعفوا جميعا أمام الطاغية، وهذه سياسة قديمة أسسها فرعون وسار عليها أتباعه ووضعوا لها مصطلح «فرق تسد» قال الله عن فرعون: (وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) القصص. فتوحيد الجبهة الداخلية وإقامة علاقات المجتمع ببعضه على أسس راسخة من التآلف والتسامح والتآخي من أهم الأمور، وبذلك تفوت الفرصة على المتربصين والمراهنين على الاحتراب والاقتتال والصوملة والتجزئة والافتراق. العمل الدءوب على تحقيق الأمن والاستقرار وإشاعة الطمأنينة والسكينة في أرجاء البلاد، حتى يعيش الجميع في أمن وأمان، فإن الأمن من أعظم النعم التي يبحث عنها الناس وينشدونها، فالأمن بالنسبة لهم من أهم المقومات والأسس لبقائهم وحياتهم، ولذا نجد أن الله تعالى يذكر نعمة الأمن التي أولاها لقريش وفرع على ذلك بعبادته كما قال سبحانه: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) قريش. وقد قيل في المأثور من الحكم: ثلاثة أشياء يحتاج إليها جميع الناس الأمن والعدل والخصب، بالأمن تطمئن النفوس وتستقر البلاد، وبالعدل تصان الحقوق، وبالخصب يقضى على الفقر والعوز. ولا يتحقق أمن شامل إلا بتحقيق الإيمان الكامل كما قال الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأنعام. فمن كان له الإيمان الكامل كان له الأمن التام، فإذا نقص الإيمان نقص الأمن ولابد، فالأمن والإيمان متلازمان، ولهذا نجد الجرائم إنما تكثر وتزداد إذا ضعف الإيمان.. فالسارق لا يسرق وهو مؤمن، والزاني لا يزني وهو مؤمن، والناهب والقاتل والمؤذي لا يفعلون الجرائم حين يفعلونها وهم مؤمنون!! وإذا فقد الإيمان اختل الأمن وانعدم، وحل الخوف والجزع وبعض الدول تنفق أكثر من 65% من ميزانياتها لتحقيق الأمن، ولو صرفت 5% من ذلك في تحقيق الإيمان لتحقق الأمن لها ولشعوبها، وإذا تحقق الأمن بتحقق الاستقرار تحصل التنمية، ويعم الرخاء وتزدهر التجارة والعمران. 4. الاهتمام بالعلم وتحريره من قبضة الجهلاء والدخلاء، ومن الحزبية والتجهيل.. وجعل العلم أمرا مقدسا ومحترما يخضع الجميع لسلطاته، ويسعى الجميع لحمايته ورعايته وتطويره، وإنما تنهض الأمم وتبني حضارتها بالعلم والتعليم.. العلم يبني بيوتا لا أساس لها والجهل يهدم بيت العز والشرف وآفة الجهل خطيرة على حاضر الأمة ومستقبلها، ولقد أحسن من قال إذا ما الجهل خيم في بلاد رأيت أسودها مسخت قرودا إننا بحاجة إلى نهضة علمية شاملة في كافة المجالات والميادين، نزيل بها تخلفنا، ونقضي على أميتنا، ونصنع نهضتنا ونبني مجدنا ونعوض ما فاتنا، نحن بحاجة إلى أن نبذل جهودا جبارة من أجل أن نجعل العلم والتعليم رسالة وليس وظيفة يتعيش بها الدهماء والبسطاء من أدعياء العلم والمتسلقين إليه المتشبعين بما لم يعطوا. لابد من التركيز والاهتمام على إتقان العملية التعليمية بأبعادها ومحاورها المختلفة بدءا بإيجاد المعلم الكفء، ووضع المناهج العلمية الرصينة، وإعداد الطلاب بحسن تعليمهم وتربيتهم وتوجيههم ورعايتهم وتكريم المتفوقين والمبدعين منهم. 5. إيجاد مشاريع إستراتيجية مدروسة، زراعية وصناعية وتجارية وعمرانية، وضخ الأموال الاستثمارية في صناديق وشركات يساهم فيها الجميع وبرأس مال وطني وأجنبي، فهذا كفيل بإيجاد فرص عمل للقضاء على البطالة والفراغ، وتشغيل الطاقات الشابة في البناء والعمران وسائر المجالات الأخرى. إذا توجهت الأمة بطاقاتها في هذا الاتجاه ففي فترة وجيزة سوف نحقق نقلة نوعية وسريعة- تتحسن فيها حالات الناس، وتتحول ظروفهم المعيشية الصعبة، وسيخرجون من دائرة الفقر والعوز.. والأرض الطيبة مليئة برزق الله، والأمر يحتاج إلى إرادة وعزيمة وعمل وانطلاق، فالأرض قد أودع الله فيها الأرزاق وهيأها للأنام، وسخرها لهم، وذللها فما عليهم إلا بذل الأسباب ليأكلوا من رزق الله وفضله قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) الملك. 6. بعد رحيل أو سقوط حكم الحزب الواحد والفرد الواحد والرأي الواحد.. لابد من إيجاد صيغة توافقية لكل القوى والفعاليات الموجودة على الساحة، لإدارة البلاد إدارة سلمية وآمنة وفق أسس صحيحة وشرعية وعادلة، إذ يصعب على أي حزب أو جهة أن تحكم البلاد منفردة مع إقصاء الآخرين وتهميشهم، بل لابد من إعطاء الجميع فرصة الإسهام في البناء والتغيير نحو الأفضل ما دام أن الشخص يتمتع بالأهلية والصدق والكفاءة والنصح للأمة ممن عرف بين المجتمع بذلك من خلال سيرته واستقامته ليكون المعيار لكل وظيفة هو: الأهلية والقوة والأمانة. بهذه القيم يمكن أن ترسو اليمن على بر الأمان ويكتب لها الرفعة والنجاح والفلاح، وتكون بحق يمن الفقه والحكمة، يمن الأمن والإيمان، وعسى أن يكون ذلك قريبا. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف.