- يكفي يا علي..كأنك ستكون وحيد العصر..أردت أن تكون معنا يا ذا يمن، حتى تدون هذه اللحظات..أخبرني أولاً عن أولادك، وأحفادك. - حفظ الله مولانا. محسن كما عهده مولانا، يسكن في بيتنا القديم، قريب من السوق، حفيدي حسن، يساعد والده، ويساعدني في الكتابة، خطه أجمل من خطي..رزق حسن بولد وبنت، مثل أبيه وجده: أسعد ست سنوات، وكاتبة أربع سنوات. حميدة تزوجت من معيض، أحد أعيان صنعاء، ورزقت بولد أُسمي (محسن)، ثلاث سنوات وبنت أُسميت بلقيس سنة واحدة.. - ماذا ستقول عن عهدي؟ - أصلحت ما أفسده العلفي. - بل والدي، لم يحسن الاختيار، ولم أصلح، فلماذا لم أصلح؟ - بل أصلحت. - أصلحت، ولم أصلح، أنت تجاملني، لم أستطع، ولا أدري لماذا لم أستطع؟..ألبركة فيك يا عبد الله، هي لك يا عبد الله من بعدي، ولعلي هذا من بعدك، أحسبه وحيد زمانه..هذا أنت يا يحيى، أين أولادك؟، أين محمد..كيف حاله، وزوجته؟ - بخير..بخير، المهم أنتم. - وأنت يا حسن، كيف حال أبنك عبد الله وزوجته؟ - بخير يا مولاي. - أوصيكم خيراً بيمن، وأوصيكم أن لا تختلفوا..الآن أخرجوا، أريد يمن وبناتها. قالت يمن:كنا واقفات أمام جسمه المسجى، أنا لا أدري ما أقول، فاطمة تحضن أبنتها، وزينب الحامل، وعينه تجول علينا..قال (أخيراً) : -لماذا لم أستطع أن أقيم دولة تستعيد تهامة، وتخضع القبائل فلا تقوم لهم قائمة؟..لا تردي يا يمن..فكري في الإجابة ما حييت، وإن حصلت عليها أعطيها لأبيك ليدونها للتاريخ..أوصيت أن يكون هذا البيت لك وملكك..مازلت جميلة يا يمن، بل ما أجملك، فارق كبير بيننا، أنت في السابعة والثلاثين وأنا في الواحدة والستين، وأنت يا فاطمة كيف حالك؟: - بخير..بخير. - وأنت يا زينب ..لم يسمع رد زينب، كان قد فارق الحياة. * * * * انتهت فترة العزاء. لم تأذن لنا يمن بالعودة إلى بيتنا، أنا ورشا. دارها كبير، سوف تضيق به، لن تضيق ونحن معها. كان حفيدي حسن، وزوجته مريم بنت الشيخ الحيمي، وولديه: فردوس وكاتبة يعيشون معنا. ترك محسن وسكن معي، وتركني حسن وسكن ببيتي. وافقت بشرط أن يحضر لمساعدتي في الكتابة. أصبحت قريباً من يمن وبعيداً عن الإمام. تفاءلت بعد زيارة الإمام الجديد ليمن، المهدي عبد الله. مات المتوكل أحمد، وخلفه المهدي عبد الله. ذلك توكل على الله وهذا يهديه الله. ليس لهم من الألقاب إلا اسمها. أرادوا أن يخدعوا الناس. أراد أن تبايعه سراً، المرأة لا تبايع ووعدها أن يزورها من آن إلى آخر..قالت له: - أبايعك بعد أن بايعك قاضي القضاة الشوكاني، فمن أنا إلى جواره، وأنا امرأة، المرأة لا تبايع؟ - أنت من أأنس إليها وسوف أستأنس برأيك . - العفو يا مولاي، أنا طوع أمرك متى أردت؟..قلت لها (فخوراً أناطح السماء): - ليتك كنت رجلاً..ردت: - كنت أبيع الحبوب في السوق.
كانت زيارة المهدي عبد الله الأولى للروضة، أقام حفلاً كبيراً، أستعرض الأجناد، القادة والفرسان. يومان، يوزع القطع: ذهب وفضة. لم يعجب وزيره الأول، حسن بن علي بن عبد الواسع، أعتبره تبذيراً. اشتكاه ليمن..قالت: - (فتح جدك ثغرة الفساد. فقدت الدولة هيبتها، وحاول والدك، وتعب، من أجل سدها، حتى توفى)، وأريدك أن تكمل سيرة والدك، فقد يكون سدها على يديك، فتستعيد الدولة هيبتها. - حدثتك عن الوزير، طلباً لرأيك فحدثتني عن جدي، وأبي. - كان والدك (شديد، وصاحب سطوه، حاول وجاهد، وفادي بما وصل إليه من الأموال والذخائر)، ولكن كيف كانت المحاولة، وجدك كما قلت؟ - أي أن الوزير لم يكن على حق. - لا بأس أن يبدي رأياً، إن أعجبك أخذت به، وإن لم يعجبك تركته، وعليك أن تفادي بذكاء ومقدرة، فلا تزيد فيطمعوا، ولا تقل فيهربوا، فتحافظ على أموال الدولة، والرجال، وأن تكون وبطانتك القدوة، فتستعيد هيبة الدولة..رد (منفعلاً): - لم يكن على حق..هذا ما يهمني..قالت لي (يمن): - استشفيت منذ الساعة، أن المهدي عبد الله يضمر لوزيره شراً، طبعاً، سوف ينفذه على رجاله، أخاف عليه، وعلى البلاد، والعباد من طبعه. أراد أن يستأنس برأيها، إذا وافق رأيه. لم يخنها ظنها. أمر المهدي، فتاه الحبشي بالقبض على وزيره. أودعه السجن وصادر أمواله. إذا أراد الإمام أفتعل لخصمه جرماً. المستبد، من خالفه الرأي، أصبح خصماً. ما أسهل على الحكام أن يفتعل على خصمه جرماً، وما أرخص الرجال، وهم كما أراد الحاكم. أثاروا الأكوع، كان عامل صهبان. أدعى أنه، يوم أن كان، سجنه وصادر أمواله. ووزيره عثمان. قبل أن يأكل القط الفأر يلاعبه. لاعب المهدي الوزير الحربة في الصباح، وأمر عبده فيروز بالقبض عليه في المساء..قالت (يمن): - وقفت أمامي زوجة الوزير عثمان، باكية، كانت في حالة ترثى لها، لم يكن حينها، قد وصلني الخبر. أخرستني المفاجأة، للحظات. عرفتها بشوشة، ضاحكة، ثم قلت (دهشة): - ماذا حل بك؟..ردت (جاهشة بالبكاء): - أخرجنا المهدي من بيتنا، وأمر بنهبه, وقبض على شقيق عثمان، سمر بيوت آل فارع في صنعاء وجبلة وذي السفال..ردت (مستغربة): - لماذا؟..لم ترد المرأة، لم تستطع أن ترد. ولم تستطع يمن أن تنفعها. عرفت طبعه، إن نصحته، خالفها. وسؤال من كلمة واحدة، لماذا؟. خير الكلام ما قل ودل، وأعقد السؤال، ما كان من كلمة واحدة. عقدة لها أكثر من حل، ولعله أحد الحلول. وزير جده (العلفي) عينه خلفا لفارع. كنت عائداً من السوق، وكانت يمن متجهمة، على غير عادتها..قالت: - زارني اليوم المهدي، أخبرني( متشفياً )، كان على عينه، لم استطع أن أنكرها): بأن عامل المخاء، قد قتل نفسه، بلع فص ومات، قبل أن يصله العبد فيروز. خاف أن أفعل به، ما فعلت بالوزيرين. وكان قد بلغني بأنه يتبادل الرسائل مع الأعداء. استجمعت قوتها، لم تبد خيبتها..قالت: - كأنك، تنتقم من والدك، فعلت بالوزيرين ما فعلت، ولتأكيد انتقامك، عينت من كان يكرهه والدك، وفاسداً في عهد جدك. - ذلك شأني, - وأنا ما شأني تخبرني. - لقد كنت زوجة أبي المقربة. - وكأنك تريد أن تنتقم مني. - ربما، ولكني لن أخرجك من البيت، ولن أقطع زياراتي لك..أم أنك تمانعين؟ - أمنع مولاي من الزيارة..لا والله، ولو استطعت.. تأكد ليمن، ولي، مزاجه المتقلب، وفتح إذنيه للوشايات، يصدقها مزاجه المتقلب. من أثاروه ضد وزيريه، كانا وزيري والده. أثاروه ضد زوجة أبيه. لكنه أستمر في سياسة والده، تبادل الرسائل والهدايا مع والي مصر، محمد علي. أرسل للمهدي فيلا، وأعاده معتذراً..قال: - (أرض اليمن فقيرة، لا تستطيع إطعام فيل يحتاج إلى أكل كثير!). ولا أخاف من مزاجه المتقلب، إن خفت، فلن أكتب. خاف الشريف علي الجوفي. أمره بالانضمام إلى عامل المخاء الجديد، تظاهر بالموافقة، لكنه هرب، ورجاله إلى أرضه وحصنه في ذهبان. كان المتوكل قد أقطعه إياها. رشوة. الإمام يرشي، من أجل ولائهم. برهن على سقوط هيبة الدولة. لم يقبل المهدي شفاعة القبائل، نهم، وقضاة برط. أصروا على عودته للحبس، وأغلظ القول على أحمد بن علي الجوفي. أحد قادة الحرس. أراد أن يتوسط مثلهم. خاف من مزاج المهدي. هرب. أنضم إليه في الحصن. أخرج المهدي قواته. أحاطوا بذهبان، وضُرب الحصن. هرب على الجوفي، ولم يهرب أحمد، بل سلم نفسه، لم يكن لوحده، ورجال الهارب. أحسنوا الظن بالمهدي، متشفعاً بحنش، قائد الحملة. لم يحسن الظن، وهرب، وأحسن الظن، وسلم نفسه. لم يغلظ عليه القول ثانية. أمر بسلبه، ونهبه، ثم نهايته..كانت نهايته هكذا: - (تم ضربه أشواطاً كثيرة، ووطئه الخدم بأرجلهم، فشاهد الموت عياناً، ثم أقيم فلم يقم، فحمل على رجل أسود، وضربت عليه الطبول، وطيف به ببئر العزب، فمات في السايلة من صنعاء، وجيئ به إلى باب الإمام فأمر بدفنه). نهاية، أرعبت رشا..قالت: - أعوذ بالله، إلى أين وصلنا؟..رديت : - أفعال اعتاد عل فعلها الطغاة..ردت (يمن) : - لم يفعل المتوكل، كان يعفو، ربما من قبله، إلا أني أشم رائحة نتنة، لعلها الفوضى، كانت هنا، وهناك، وهي الآن تقول: انتظروا، أوشكت أن أعم. أطرقت، واحترت، ورشا، ما نقول..ثم قالت: - تعامل الخدم معه، بقسوة، لعله حقد دفين، يوم كان أميراً عليهم. إنها عبرة للإحسان للخدم، فهل يعتبر المهدي عبد الله؟ * * * * أحتفل المهدي بنصره على حاشد. انتصب أمامه ثمانية عشر رأساً من رؤوس القبائل مقيدين. جاءوا بهم من عمران، والجنات. لم تتم الفرحة لقائد الحملة حسين حنش. عزله المهدي، أنفق مالاً أكثر من اللازم. هكذا أراد المهدي، لم يرد أن يحسب له النصر. إلا العلفي الوزير أعتزل الوزارة، لم يعزله المهدي. أدرك العلفي. لم يكن مرغوباً فيه..قالت (يمن) : - ألم أقل، أراد المهدي النكاية بي.. يتبع