عقله. تذكر، كأنها سطور يدونها على الورق.انتهت الثالثة انشغل المنصور ابن على بإقامة القصور، واحتفالات الزواج، إذا انتهى من عرس أقام عرساً. (هدم وبناء، وتكرار زواج). سفه وإنفاق. وأبنه الأكبر، أحمد، يقتفي أثر والده. يزاحمه وينافسه. تزوج في عام واحد: اثنتين. إذا فسد الرأس، فسد الجسد. تفسد السمكة من رأسها، وإذا حل الفساد، حلت الفوضى، ما نحن عليه، فكيف المستقبل، وأحمد يقتفي خطى والده. لم تحرك رشا ساكناً، تعرف طبعه، سوف يعود إليها، بعد لحظات، إن كانت قصيرة فهي طويلة على رشا..رفع رأسه..قال: - الله يحفظ ويستر ابنتي..ليس لنا إلا أن نوافق. * * * * حولي يقول: سفه وإسراف. وزير,بطانة فاسدة، لم تر يا ذو يمن من الفوضى إلا رأسها. لم تسلم تهامة زحف الجيش الوهابي بقيادة أبي نقطة. النقطة هزم الشريف حمود، نائب المنصور على تهامة. أنتهز حمود الفرصة، هناك، كأنها الفوضى. عرض من السعوديين أن يكون نائباً لهم. أضمر منفعة. وافق أن يكون نائباً، أغرته الفوضى، وقادته طبيعته النفعية. قويت شوكته. تمرد على السعوديين، بعد أن خان المنصور. ليس كل متمرد خائن، وكل خائن متمرد. أصبح الحاكم الفعلي لتهامة. ضاقت به تهامة. صعد الجبال. صعّده ضعف المنصور. وأعاده قصور تفكيره. استعان بحاشد، وأستعان المنصور ببكيل، خافت حاشد أن تنتصر بكيل، سيكون لها الفضل، عادت عن نصرتها. كانت مناوشات، وكان تراجع حمود إلى تهامة. لم تستمر، بعد وصول قوات أخرى من صنعاء. اكتفى المنصور، بتراجعه. لم يكن قادراً على تعقبه إلى تهامة، (حملات فاشلة في حراز، ومشاكل سياسية واقتصادية في صنعاء)، (اضطربت أحوال التجار في اليمن كله. الصرف في كل يوم ينمو. ولم يقض الإمام للناس وطراً، غير أنه تركهم يتعاملون فيها كيف شاءوا). * * * * 1222ه: (حمود، في تهامة يعيش أوقات عصيبة)، (والمنصور، في صنعاء يعاني من أزمات حادة). سوف أستريح قليلاً من رواية التاريخ، وأروي عن نفسي، وأهل بيتي. قلت بأني سأكتفي بذكر السنة التي بدأت فيها بالكتابة، والسنة التي سأنتهي منها. إلا أن الموت، لن يخبرني بتاريخه. كم هو رحيم بنا، كنا نحيا بقلق، نعد الأيام المتبقية لنا. أو مطمئنين، كنا قد أعدينا له عدته. سوف أعد له، وأذكر من آن إلى آخر، السنة، ولو أن محسنا سوف يواصل من بعدي، إلا أني أخاف أن أنهمك في الكتابة، فأنسى عمري، فلولا أني كتبت، كنت نسيت. عمري الآن سبعة وأربعون عاماً. سأكتفي بعمري، وأحكي عن يمن، لعلكم مشتاقون لحكايتها. لا أصدق أن عمرها ثمانية وعشرين عاماً. نصدقه على أنفسنا، ولا نصدقه على أولادنا. طفولتهم مطبوعة في ذاكرتنا، كأنهم صغار مهما كبروا. كان لها أن تتزوج من ابن الإمام كرهاَ، أم طواعية. كان لها موقفاً، ما أذكاها في ذلك العمر، اثنا عشر عاماً، أن تخوض التجربة. شعرت حينذاك بالطمأنينة، لم تخيب شعوري. زفت إليه بعد ستة أشهر، انتقلت بعدها إلى الثالثة عشرة، وإلى داره في بئر العزب. أقام وليمة كبيرة. أقتفى خطى والده. (عندما نزلت يمن في المساء إلى الدار، خرج من الاحتفال، وأمر بإلهاب المشاعل، أوقد بين يديه ثلاث مئة، وأمر بإيقاد الشموع، وخرج في عالم الخيل والرجال). كان الاحتفال مثارا للاستغراب، ليست شريفة، أو ابنة قاض علاَّمة، أو شيخ يخشى جانبه. إلا أن للجمال مكانة أقوى. كان جمال ابنتي مثار الدهشة، وفيما بعد، ذكاؤها، كانت دهشته أكبر. لم تترد في أن تحكي لي عن حياتها في الدار. لازالت تعرف شغفي بالكتابة. حكت، ربما أسرارا، أحرجتني بعضها. استأذنتها، أكتب كل شيء، ردت: شريطة أن تحتفظ بها في مكان آمن إن ظهرت، في يوماً، بعد موتنا، فلن تكون أسرارً. إن متنا لن تحرجنا، وأولادنا في حل عنها، نظنها أسرارا، لكنها في كل بيت. عنق الزجاجة، الليلة الأولى. دخل عليها بكامل هيئته.كما كان، والناس، والجند تزفه. ابنة ذي يمن، من العامة، هل حدث؟..لا أذكر. لم يتردد، رفع عن وجهها القناع، كان شفافاً. رفعه على عجل، لعله أراد، إن كان ما رآه من وراء القناع حقيقة. تسمرت عينه على وجهها لم يستطع أن يكتم..قال : - سبحان الله!..لم ترعيني مثل هذا..هيا.كان يرفع وجهها، من ذقنها، إلا عينها، كانت على أنفها. رفعت عينها، هيا، أي هيا هذه. لم تنطق، نطقت عينها. أدرك ما تعنيه، كانت عينها قد لمحته بطرفها..قال: - هيا..انزعي ما عليك من ملابسك. - ليس هكذا يا مولاي. - كيف ؟ - دعها تنزل من نفسها. - كيف؟ - أو لا تدري كيف؟ - (بانفعال) قلت كيف ؟ - لملمني إلى صدرك، تصير ملابسي واسعة، لا يحتملها جسمي، فتنزل من نفسها. خرجت من عنق الزجاجة، أكاد لا أصدق، وفي ذلك العمر تقول، ما لم تقله، من كانت أكبر، أو لا تقوله أبداً. أصبحت زوجته المدللة، وموضع أسراره. أسرار لم تخفها عني. يشكو لها همومه، ويبدي لها حبه..قال لها مرة: - إن عدلت بين زوجاتي، فلن يعدل قلبي..أحبك أكثر. ويستشيرها، كانت في العشرين، بعد أن أنجبت أبنتها الأولى (فاطمة)..قال: - لا يصدق أبي إلا وزيره العلفي..وزير فاسد، لا تهمه إلا مصالحه. أمسكته من كتفيه، ثم قالت (وعينها بعينه) : - هل أقول ؟ - قولي . - والفوضى قد عمت البلاد، فلك أن تخمدها، وإلا فماذا سيقول عنكم التاريخ؟..لا تعجبني وأنت تقتفي خطى والدك، في البذخ والإسراف..اليمن أهم.. - أخشى أن يترك لي إرثاً ثقيلاً، لا أدري إن كنت قادر على معالجته..والآن الوزير. - أبعده عن الحكم. - وأبي. - أبعده..رد (دهشاً): - كيف..كيف؟..قلت لها: - وماذا رد . - لم يرد. أخر ما سمعته منها، ذهب إلى حراز. أنجبت زينب، أصغر من فاطمة بسنتين. فاطمة في الثامنة، وزينب في السادسة. لم تنجب غيرهما إلا أن له ذكورا من غيرها، أكبرهم عبدالله. ومحسن مثلها، إلا أنهما: ولد وبنت. (حسن: اثنا عشر عاماً، وحميدة: عشرة أعوام). عاد محسن إلى مكان أبي، لم أتخل عنه إن تخليت عنه، افتقدت تاريخ ورائحة أبي. يبيع الحبوب، كما كان أبي، لكنه أذكى، وإن أردت أن يساعدني في الكتابة لا يتردد.كما كنت أفعل، يفعل حسن مع أبيه، كأن التاريخ يكرر نفسه، ولا أريد أن يكرر نفسه. خط حسن جميل أستشرف حبه لكتابة التاريخ إلا حميدة، أظهرت كرهاً للتعليم. رشا، رشا. لولا السنين التي (خربشت) وجهها. إن شاهدها غيري، فلن أشاهدها أنا، وأنا أقول: بأن رشا هي رشا. لم أتزوج عليها. لم أرد أن أجرح السنين التي عشتها معها. * * * * أعود إلى كتابة التاريخ. (أستبشر الناس خيراً)، أستطاع محمد ابن المنصور والي ذمار، والمناطق الوسطى أن يقبض على القوسي والبخيتي، قاما بشغب وخطف، وقطع الطريق. هي الفوضى، لا تلبث أن تعود. إلا أن سيف الإسلام أحمد المنصور، كان غاضباً، يوم عاد من حراز. (سوى أموراً، وأنهى مشكلات). كان طموحه أكبر، وهو الذهاب إلى تهامة لاستعادتها من حمود، لم يستطع، أخر الوزير العلفي المؤن والمال والرجال كعادته. أوعز إلى المنصور، بعودته إلى عمران، مباشرة، والياً عليها. خاف من جرمه. ويعرف مايكنه، من كراهية.كان تحدياً، غير ظاهر بين الوزير وأحمد، لم يعد، أصبح سافراً. أقتنع المنصور، ورفض أحمد التعيين. وأصر المنصور، سطوة الوزير على المنصور، نقلت التحدي، بين الأب والابن. واصل المسير، لم يكن إلى عمران، كان إلى صنعاء. العلفي يدفع المنصور، والتحدي يدفع ابنه. فإذا كانت صنعاء أقرب، توافدت إليه قبائل سنحان، همدان، وبني الحارث.كأنه سيدخلها، إن أصر والده، على التحدي لن يكون حبيس الأنفس، سيكون على مسرح الحرب. إن بلغ التحدي ذروته، لن تسقطه فروض الطاعة. كانت السفارة بين الابن وأبيه تحاول أن تسقط التحدي. إن كانت السفارة، كان المتحديان، أيديهما على مقبض السيف. وصلت إلى طريق مسدود. أجتمع الوزراء بالمنصور. تحدث عنهم حنش، والآنسي. شعر العلفي بالخطر لن يستطيع أن يحول، أصبح خارج عن يده. أقتنع المنصور. زادت من قناعته أفواج الناس. كانوا يتدفقون على سيف الإسلام..قال (مخاطباً العلفي): - ما رأيك؟..رد (يائسا): - الرأي ما يراه مولاي..فأذن له بالدخول. خاب الظن، ظني وظن الناس. الفوضى، تعددت أشكالها. بعد دخول سيف الإسلام أحمد صنعاء. ثلاثون سنة من حكم المنصور، نهايتها، فوضى لم يكن مثلها. نسبة الفضة تقل، كلما قلت الفضة زاد النحاس، فإذا زاد قلت قيمة الريال. زادت شكوى الناس، والتجار. خسر الناس ما تحت أيديهم من نقد، وعوض الجشع خسارة التجار. يستغني الناس، ولا يستغنوا عن الحبوب، تجاره أكثر جشعاً، محسن واحد منهم. أراد مثلهم أن يستعيض خسارته. مع الجماعة مخطئ ولا وحدك مصيب. وتأخرت مرتبات الجنود. أراد المنصور أن يكحلها أعماها. ضرب عملة جديدة، أسهل الحلول، ما دامت تضرب بأمره، لا بأمر الخبير. زاد التدهور. الجنود طالبت بمرتباتها المتأخرة. وجع الناس والجنود، لم تخف على أولاد الإمام. خافوا من الخروج، لم تمنعهم صلاة الجمعة من الخوف. لزموا بيوتهم. أسقط الخوف صلاة الجمعة، وأسقط الجوع هيبة الدولة. زحف الجند على دار الضرب، أرادوا فتحه. قُتل رجل من أصحاب عبد الله بن الإمام. تدخل العقلاء. وعدوهم إلى الليل، وإلا عادوا، وتحملت الدولة دية القتيل. كان الجوع أقوى من الدولة. من ضيع الحزم في أوقاته ندمَ. جاء قرار المنصور متأخراً. أمر بسجن تجار الحبوب، وضرب على ِرجل اليهودي القيد، المناط به دار الضرب. قال له: شكا الناس لعبك بالضربة وكثرة النحاس الذي بها. مسكين اليهودي، جعله كبش فداء. لا أجرؤ أن أقول للمنصور، سوف أقوله للتاريخ: جعله كبش فداء، هكذا المستبدون، يجعلون من غيرهم كبش فداء، وهم من يأمرون، وينهون. كأنه لا يعرف، ما يفعله اليهودي. وإذا لم يعرف، عرفت بطانته، ليته جعلهم الكبش. ولم أجرؤ أن أسأل عن محسن، ولو كان تاجراً صغيراً. من يحكم السوق، التجار الكبار، أصدقاء البطانة. وجهان لعملة واحدة. الفساد، كباش مدلله، لم تذبح، الفداء، عندما يكون تمثيلية، لم يصدقها الناس، وصدقها. كانت فرصة لابتزازهم، ولو كانوا أصدقاء. مساكين الناس، لم ترحم قبائل ذي محمد معاناتهم. حاصرتهم، أصبحت المعاناة اثنتان: جوع، وخوف. لم يستطع المنصور أن يطعمهم، ويؤمنهم.. يتبع