ذو يمن بن محسن. لا أدري أين ينتهي نسبي، لكن أبي قد أخبرني بأنه ينتهي بهذه الأرض، لم يأت من الخارج. لن أذكر شيخي، فليس لهم ذكر. إن وصلكم كتابي، فأنا ذو يمن، مادامت اليمن، ذلك يكفي. لم يخطئ والدي عندما سماني، ما كان يريده قد وقع، إن لم يرد كما كان، فقد وقع، كما أريد، وأنا أروي التاريخ كما أريد، لا كما يريد الإمام. إن وقع تحت أيديكم، كما يريده الإمام، أعذروني، وكما قلت لزوجتي رشا. صدقوا ما أريده، لا ما يريد الإمام، يريد أن أروي الأحداث، سنة بسنة، ذلك شأنه، وشأني أن أروي التاريخ، ما عشته دفعة واحدة. ومن أجل تخليد أبي، فسوف أبدأ من السنة التي قتل فيها أبي، ألف ومئة واثنين وتسعين هجرية. كيف قتل؟، لا أريد أن أكتبه، لأني لا أريد أن أذكر. سوف أبدأ من بعد قتل أبي. لن أخفي، متشفيا. من بعد أبي، كأنها الفوضى، أطلت برأسها. واصل من قتل أبي سيرتهم، يختطفون المسافرين، وينهبون القرى القريبة من بيت الفقيه، والزيدية. يلتقون بقبائل منهم، وغيرهم. كانوا بقيادة السيد حسين بن علي صاحب صعده، إلا أن عامل حجة السيد يحيى بن محسن المتوكل كان لهم بالمرصاد، أجبرهم مع قائدهم بالعودة إلى ديارهم. وانتصر فيروز المهدي، من أرسله المنصور، على قبائل خولان، فعلوا مثلهم، لكن في بلاد أنس،كر وفر، هنا وهناك، فر السيد حسين بن علي الصعدي، وعاد مرة أخرى. عاد إلى حتفه. إذا ضعف الإمام قويت القبيلة، وطمع في الإمامة من بيت الإمام، أو من بيت ثان. هم بيوت، تفرعت من البيت الأول. خرج على المنصور بن علي، رأس بيت إسحاق.كان قد بايعه، ومدحه. ابن إسحاق، عالماً، وأديباً، وكريماً، ومجلسه يحفه العلماء، والأدباء. خرج إلى قبيلة أرحب القوية. اختلفوا عن سبب خروجه. قررت اللحاق به. قبلت محسن، يقترب من الثانية، وتوشك على الوضع. لم تكن قبلة عادية، لفتت انتباه رشا..قالت (متعجبة) : - كأنك مقبل على أمر هام. - نعم، سوف ألحق بابن إسحاق في أرحب..ردت (منفعلة): - وأنا ومحسن، وبطني..لم تعمل حسابهم. قبلتها، ثم قلت: سوف أعود، من كان مثلي يكتب التاريخ، فلابد أن يعود. لم يكن الوصول إليه سهلاً، مثلت دور الزاهد، من يضرب مشياً على الأقدام، كنت أقول: أبحث عن أرض أموت فيها، لن أنتظره في أرض ولدت فيها. وأدعو إلى طاعة الله، والعمل بما أمر، وترك ما أمر.كان ابن إسحاق جالساً تحت شجرة، والقبائل تلتف من حوله. من يطلب الإمامة، ومن تطلب المال. لم يشعر، أحد بي..سمعته يقول: - الخروج على الحاكم الظالم، أوجبه المذهب، ولهذا فقد قررت خلعه..ما قلتم..رد أحدهم، كأنه شيخهم: - منجز، ونجاز. - منجز، ونجاز..كيف؟. - الإمامة لك، ولنا الفائدة. - معلوم..معلوم..قلت بأعلى صوتي: - السلام عليكم..منهم من حرف رأسه. كان منهم ابن إسحاق، ومنهم من رفع رأسه. ردوا السلام بملل، ملل الدهشة. شرحت لهم، سبب مجيئي، شرحاً مطولاً.كأن كلامي قد أثر بابن إسحاق. دعاني إلى جواره..قال (ماسكاً على ذقنه، وعينه ترصدني): - لعلك جاسوساً بعثه المنصور. - بل كما قلت. - ومن يضمن لي ذلك. - لا أفارقك، إلا إذا أمرتني، أو أذنت لي. - لماذا قدمت إلى هنا؟. - كانت صدفة، فأنا في كل أرض أهيم، فهل تأذن لي بالرحيل؟. - بل تبقى حتى أأذن لك. يمضي اليوم، كأنه سنة، مترقباً الفرصة السانحة. سنحت بعد ثلاثة أيام، كانت كافية، أن أحوز على ثقته. لم أعرف قدر نفسي إلا معه. مقدرتي على إيقاع الفريسة، حتى ولو كان في مقام ابن إسحاق. كنت في حجرته لوحدنا..قلت (مطرقاً، ممثلاً الحرج والخجل..اكتشفت بأني لي مقدرة كبيرة على التمثيل): - هل يأذن لي مولاي بسؤال؟ - أسأل..ما أحوجني إلى الأسئلة، ليس مثل السؤال ما ينعش الذاكرة، ومنها ما يشرح الصدر. - هل تأمن شر القبائل؟. - لا والله، فهم معي مادامت معي. - فلماذا خرجت إليهم؟ - خرجت على الإمام الظالم، إليهم.فمن ينصرني عليه؟. - عفواً يا مولاي، إذا أردت أن أكف، أو أردت أن أسأل ما بدا لي، والله أنه الفضول يدفعني. - وفضولك يعجبني..هات ما عندك. - منهم من قال أنك خرجت، لأن عامل حيس، قد زاد من ضرائب الأرض التي تملكها هناك، وآخر قال: خرجت، لأنك احتجبت طويلاً عن مقابلة الإمام..نظر إليّ للحظات، ثم أخذ يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً، للحظات أخرى، بعدها قال (اتسعت عينه، كأنها على وشك أن تملئ وجهه كله): - ابن إسحاق، وهو من هو، لا يضاهيه أحد من أولاد القاسم، يُفعل بي، ما فعلوه بي..رددت (مطرقاً): - العفو يا مولاي..يبدو أني نكأت الجرح. - دعه يخرج، علني أستريح قليلاً. ما أريده وصلت إليه. لم يخرج على الظالم للبلاد والعباد، بل على الظالم له، لأنه أهلاً للإمامة، ولأن الضعف بدأ على الظالم للبلاد والعباد، فخرج عليه. الخروج على الظالم، ما أجلّه، لكنهم يستخدمونه طلباً للإمامة، لا طلباً للعدالة. والقبائل تنتظر خروج الخارج، من أجل السلب والنهب. هي تنهب بدون إمام، وحجتهم أقوى عند خروج الإمام.كأن اليمن الأسفل، تهامة، وصنعاء موعودون بمن هبط من الخارج، وبمن زحف من الداخل، فإذا التقيا التقى المذهب والسيف.كان اليوم كأنه سنة، وبعد أن وصلت إليه أخذت أرتقب الفرصة للعودة إلى صنعاء..قال(مبتهجاً): - قتلت خولان عامل حيس. أرسله المدعو المنصور لقتال خولان، أعلنت عصيانها، لأن الظالم قد قطع المصاريف عليهم. شرعت تنهب في أنس، وتخيف المسافر وتقطع السبل. لكنها قتلت عامل حيس، كان يريد المنصور أن يرسله على رأس حملة لقتالي، والله (لو أنه فارق صنعاء لفارق الحياة)، كنت أقول هكذا، وصدق قولي، ولكن، يا أسفاً، على يد خولان..هكذا الحال، إذا كان الإمام ظالماً وضعيفاً. أنهى خطبته وتركني لوحدي. نسي بأن يقول: وقد خرجت عليه. ونسيت ما أنا عليه، كيف أعود إلى صنعاء؟. لم يكن أمامي إلا سبيلاً واحداً، الهروب في جنح الظلام. كان متاحاً، بعد أن أنجزت المهمة. خفت، وعندما استنفذت السبل، هربت في جنح الظلام. تركته ينتظر مصيره، وعدت بعد شهر ونيف، كانت كافية لأن تضع رشا بنتاً، أسمتها يمن، فإذا مت كانت: يمن بنت ذي يمن، وإذا عدت كان اسمها. فرحت بالاسم، وبهروبي في الوقت المناسب. هاجم جيش المنصور ابن إسحاق. لم يحقق نصراً، كانت مناوشات، انتهت بهم إلى هدنة، لم يتفقوا عليها. لالتقاط الأنفاس، والفرصة المناسبة. كانت لابن إسحاق. وصلت قبائل برط إلى الرحبة، لا تبعد عن صنعاء كثيراً. أرسل إليهم المنصور، المال والمؤن. طلب منهم البقاء هناك، خاف أن يجتاحوا صنعاء. ووصل إليهم ابن إسحاق، طلب منهم المساعدة للعبور إلى وصاب، أملاكه هناك، وعدوه خيراً، والمنصور شراً. هددوا المنصور به، ودفعهم للهجوم على القرى القريبة. خاف المنصور من تحالفهم مع ابن إسحاق. بعث إليهم مالاً واسعاً، أرغمهم بالمال، لا بالسيف. عادوا إلى بلادهم. وترك أمر ابن إسحاق معلقاً. ما أذكاهم، لكن للسلب والنهب، بحاجة إلى تعليم حتى يكون للعطاء والبناء. لا تريد مشايخهم. تريدهم غارقين بالجهل، حتى يظلوا جنود مجنده للنهب والسلب، والتقطع، وتخويف المسافرين. الفتات لهم، والغنيمة للمشايخ..(تعللوا لابن إسحاق بعلل، ولم يرفعوا له رأساً!)، لا لا، ولا نعم. أرادوه لوقت الحاجة. والحاجة دائماً، المال. عادوا إلى الرحبة. أنفقوا ما أعطاهم المنصور، قائدهم عبد الله العنسي. أغراهم المال السابق، فعادوا طلباً لمال أوسع. وابن إسحاق المعلق، لا يريدونه أن ينزل أو يصعد. إن نزل وقع بين يدي المنصور، وإن صعد ينزل تحت يده. عاد إليهم ابن إسحاق، جره إليهم حبل ألتف على خصره. أراد منهم الهجوم على صنعاء، غايتهم المال. أهملهم المنصور. ومعهم من تنطبق عليه شروط الإمامة. زحفوا على صنعاء، تتقدمهم الوسيلة. فشلوا في الهجوم على صنعاء، كانوا لهم بالمرصاد. هربوا جنوباً، إلى اليمن الأسفل، يبدأ من يريم. لا يكتفون بالهروب، مادام النهب والسلب عند غياب الدولة. كانت الحاضرة الغائبة، فشلت في قتل عبد الله العنسي، قائدهم، ومعه ابن إسحاق. يحتاجه إماماً للصلاة والحكم. بحث عن المكان المناسب. نقيل سمارة لا يصلح مكاناً، إلا أن على جانبيه قرى صالحة للنهب. ولا إب، ليست مكاناً آمناً. جبل بعدان المكان الصالح للإقامة، والانطلاق. محاولات للهجوم، لم تنجح على مناطق، لكنها نجحت في ترك ضحايا، زراع وأهالي. ابن إسحاق من يطمح للإمامة، نفذ صبره. دماء، سفكها قبائل العنسي، ونصر بعيد، وإمامة أبعد، ما أبعد صنعاء. لو كان حريصاً على الدماء ما خرج. حزن للدماء، يوم، يأس من الإمامة..قال للعنسي: - يكفي سفك دماء..رد (منفعلاً): - فلماذا خرجت معي؟ عجز عن الرد كان مذنباً..هكذا كان يرد العنسي، فإذا أتت الجمعة، أبدى له فروض الولاء والطاعة..يخاطبه قائلاً (مبتسماً): - أنت اليوم إمام الجمعة. سؤال العنسي، دفعه، بعد ثلاث سنوات، لمراسلة المنصور. طلب منه الإذن في العودة إلى صنعاء..كتب له: - قررت المصالحة و (الإذن من الخلاص من وعثاء الفساد). أين كان قبل ثلاث سنوات، لم يكن الفساد، كان يأسه. لم يُخيب المنصور طلبه، عاد إلى صنعاء معززاً مكرماً، أراد أن يكفيه شره، ولو بعد. عاد بشروط، كانت عودة الند. الندية التي فرضتها ضعف الحاكم، لا قوة المتمرد. فعاد عودة المنتصر. وضع ذو يمن القلم، تعانقت يداه في الهواء. فرد ظهره على الوسادة، إلا أن محسن أفسدها، رمى بنفسه على صدره، كان يعرف متى يفعل، عندما يضع القلم..قال ذو يمن (مبتسماً): - اقتربت من السابعة، يوم عاد ابن إسحاق..نادى: أين أنت رشا، ويمن؟. دخلت رشا ممسكة بيمن. حررت يدها. أسرعت. رمت نفسها فوق أخيها..قال ذو يمن (مبتسماً): - وأنت تقتربين من الخامسة..لمح بطن رشا..واصل (ضاحكاً): - والقادم يقترب من الشهر الخامس..ردت رشا (متعبة): - بإذن الله يعيش، فقد مات بعد ذي يمن ويمن اثنان. - الغيب بإذن الله، المهم الحاضر، أنت الحاضر والولدان.. والمستقبل..هل تستشرفينه؟ - وهو بإذن الله. - وبإذنك..تعدين لنا العشاء. ويوم غد سوف أقوم بزيارة ابن إسحاق في منزله..فما رأيك بمنزلنا الجديد، في (بئر العزب)؟ يتبع