أمنهم رمضان، أحترم عقلاء ذي محمد رمضان، عادوا إلى ديارهم. خرج بعدهم الجند، لم يخرجوا لمطاردتهم، لم يدحروهم، حتى يطاردوهم. الجوع الذي منعهم من دحرهم، أخرجهم بعدهم. حلوا محلهم. أحلهم تأخر مرتباتهم، كان الوعد خدعة. كانوا خارج المدينة، من كان عليه ذو محمد. يفعلون مثلهم. قطعوا الطرق المؤدية إلى المدينة. وسلبوا المسافرين. يومان، كانت أبواب المدينة موصدة، وفي اليوم الثالث كانت مفتوحة. لم ندر عن سر فتحها، وعرفنا سبب فتحها. التقى القاضي محمد الشوكاني، وآخرين، بسيف الإسلام أحمد. ماذا دار في الاجتماع، كان السر..سألت، يمن، عن السر..ردت (سارحة): - وسألت نفسي، كيف يلتقي الوزير العلفي بزوجي الأمير أحمد، رغم كره الأمير له؟. أدخلتني في سر آخر، لم تمهلني، أسأل..واصلت، (بعد لحظات، كنت فيها، في شرك المفاجأة، وكانت فيها مترددة): - سألت الأمير، أجاب: لم يستطع أن يرد وساطة الشوكاني، كان الوضع خطيراً، أخطر من كراهية العلفي. أعفتني من سؤال آخر..قلت: - وماذا دار في الاجتماع؟ - أستطاع الأمير أحمد أن يقنع الجند بفك الحصار، له سيطرة واحترام في نفوس الجند. * * * * جاء ذو محمد في رمضان لحصار صنعاء، وجاء القاضي البرطي يحيى بن عبد الله العنسي في شوال لمقابلة المنصور. برط: ذو محمد، وذو حسين. جناحا برط، تطير بهما، وإذا أراد أحدهما، طار لوحده. نكثت صنعاء الجرح، كراهية البرطي للعلفي. المقابلة من أجل الانتقام. ينتظر المقابلة. أنتظر عشرة أيام لمقابلة الإمام، كانت كافية، أصبح الانتقام أقوى من المقابلة. وقف في ساحة دار المنصور، انتظاراً للمقابلة، خرج عليه العلفي. ضاع عقله. عاجلة بطعنتين. لم تهمه العواقب. برط، تنهب، تسلب، وتقتل، لا تهمها العواقب. لا ترحم مثل أرضها، لم ترحمها، فلم ترحم. العلفي إن كان فاسداً، كان البرطي مثله. فاسد يقتل فاسد، لم يقتله، لم تكن قاتلتان. دخل العلفي على المنصور، مضرجاً بالدماء. وهرب البرطي، لم يهرب من صنعاء، اختفى في بيت يسكنه برطي. أهدر المنصور دماء قبائل العنسي، والعنسي، ذو حسين. لم تتردد العامة، حاصرتهم وسلبتهم. أينما وجدتهم قتلتهم، في الشوارع والأزقة. ثمانية عشر من وجدتهم. ووجد الأمير أحمد البيت، حاصره ورجاله. رفض القاضي الاستسلام، ووافق على الاستسلام. هدد الأمير بنسف البيت. لكن بشرط، يسلم نفسه بوجه الأمير. وافق الأمير على الشرط، لكنه لم يعفه من السجن. احترت في البرطي وتعبت من التفكير فيه، والكتابة. أردت من أتحاور معه. محسن في السوق، ورشا مشغولة في أعمال البيت. لم أجد غير يمن، ومناسبة لزيارتها. سوف تكون لوحدها، لن تكون مشغولة مثل رشا، لديها من يساعدها. لم أجدها كعادتها في مثل هذا الوقت من الصباح، جالسة، تقرأ كتاباً، أو تحيك ثوباً، تهوى القراءة والحياكة..قالت الخادمة: تفضلوا بالجلوس، وسوف أبلغ سيدتي. انتظرت كما لم أنتظر من قبل، لكنها دخلت في نهاية المطاف. لم يستطع الماء أن يمحو عن وجهها أثار النوم..بادرت بالقول: - العفو يا أبي، كنت نائمة، جاء من أيقظ الأمير عند الفجر، فأيقظني معه، ذهب الأمير إلى الخارج.. (مبتسمة)، وعدت أنا إلى النوم. - لا عليك يا بنيتي..ردت: - لا تأتي في مثل هذا الوقت، إلا ووراءك أسئلة، وخبر..لعله البرطي. - نعم..أحترت في أمره، حاول أن يقتل وزير الإمام، كيف ما كان الوزير، وهو داخل صنعاء، لم يفكر بالعاقبة، وقد كانت وخيمة على أصحابه، وعليه..أطلقت تنهيدة عميقة، ثم قالت: - والعاقبة لم تنته بعد..أنتظر يا أبي. - لماذا لم يحسب للعاقبة؟..ردت (بسخرية مكتومة) : - ومتى حسبوا؟..همست: الجاهل والمستبد، لا يحسب. أرهفنا السمع، كانت جلبة، سرعان ما كانت خطوات، وقف على أثرها الأمير على عتبة الباب، لم يعرني اهتمامه، كأني غير موجود..قال (غاضباً): - قطع أبي فجر اليوم، رؤوس: القاضي يحيى العنسي، وأبنه صالح، وعمه يحيى بن حسن، دون التشاور معي، بعد أن أعطيت القاضي الأمان..لعله تدبير العلفي..حسناً، لكل حدث حديث، بعد الانتهاء من تمرد آل الكبسي في الروضة..لم ينقصنا إلا هم. لم يجانبه الصواب. منذ مقتل جدهم، الإمام حمزة بن أبي هاشم الحسني في أرحب سنة 458ه، لم يتحرك واحد من أحفاده طلباً للإمامة، ولو كان فيهم عالما توفرت فيه شروط الإمامة. كان تحركهم مثاراً للدهشة، وكان مرشحهم حسين الكبسي، قاضي الروضة، وإمام الجامع.كادت دهشتي أن تركلني إليه، شوقاً لمعرفة خبره. هيهات، دهشتي مثلي، ضعيفة، لم تركلني، ذهب الشباب. بعثت عيناً من عيوني، عاد مسرعاً..قال: - سمعت أقاويل كثيرة:(غضبة للحق ضد المنصور، أو طموحاً للمناصب، أو نفضاً لغبار الخمول). بل هو الصراع، على الإمامة. من أرادوا أن تكون فيهم، ومن أقنعوا أنها لهم. ضاق به الجامع، فأراد أن يكون إماماً على اليمن. أغرته الفوضى، وهم هكذا من عنّ له، منح نفسه لقباً وخرج يدعو لنفسه. تزداد خطورته إذا كان قريباً من صنعاء. آزر الكبسي أهل الروضة، وقبائل الكبس في خولان. وصلوا الروضة، كانت نفوسهم مفتوحة للنهب. دار المنصور، وبيوت أهل صنعاء، من يذهبوا إلى الروضة في الصيف، للتمتع بعنبها.كانت مغلقة، طردوا عامل المنصور، وأرسل رسائل الدعوة، لم ينس القاضي عبدالله العنسي البرطي. قام الأمير أحمد باستدعاء القبائل القريبة من صنعاء. لم يكن جنده كافياً. لن تكون دولتهم، حتى يكون جندها كافياً. عسكر في الجراف، منتصف المسافة بين صنعاء والروضة. مسافة كافية لمحاصرتهم. أيام قليلة، كانت كافية. أستسلم آل الكبسي، ومن معهم. ذكر الكبسي جده، فتحرك، والذكرى لا تقيم إماما. كان يستطيع عبدالله العنسي. لم يلب دعوته، لم يأبه بها. كان مشغولاً، يعد عدته، ورجاله للثأر لأبنه يحيى. أعماه الثأر عن دعوة الكبسي. أراده لوحده. كان سيثأر وأمامه إمام.كان النصر محتملاً. صدقت (يمن)، العاقبة لم تنته، ما كانت تقصده، وأقصده. عبدالله العنسي يتقدم قبائل ذي حسين، أحكم الحصار على صنعاء، وصنعاء منهارة من الداخل. الانتصار على آل الكبسي، أفسده المنصور والعلفي. احتجب المنصور عن الناس، وخاف العلفي من الناس، (يقابل رؤوسا القبائل من نافذة مرتفعة وضع على خارجها سياج من حديد)، من الخارج محاصرة، لا داخل يدخل، ولا خارج يخرج. العنسي، طلباً للثأر، وهروباً من القحط والجفاف.كانت تحاصرها ذو محمد قبل عدة أشهر طلباً للنهب.كانت صدفة، أن يجتمع الاثنان: (الثأر والقحط)، انتظرت ذو حسين خارج صنعاء، انتظارا للثأر. لم تنتظر متفرجة. مارست كل أنواع النهب، والاعتداء والقتل. حرقة الانتظار، أرادت أن تحرقه، لم تقدر، لن تحرقه إلا داخل صنعاء. ما فعله المنصور، تحرقه ذو حسين على القرى المجاورة، شمالاً وجنوباً. وسكان صنعاء، بلغت بهم محنة الجوع أن أكلوا الميتة. لم أأكلها، وأهل بيتي. نخزن الحبوب، احتياطا لحصار صنعاء. صنعاء محاصرة، ومن الداخل يحاصرها العلفي، يؤخر مرتبات الجنود، كعادته، الاستبداد طبع، فإن اجتمع مع البخل كان الهلاك. (هلك بصنعاء من هلك، ولم يقدر أحد أن يخرج الأموات إلى المقبرة، وظن الظان أن ما بصنعاء إلا النسوان). كان تحدياً بين أحمد والوزير على دخول صنعاء، أصبح الآن من أجل إنقاذ صنعاء. هانت طاعة أبيه أمام إنقاذ صنعاء. لم يعد أمامه من خيار، والجند تريد مرتباتها. أمر جنده باعتقال العلفي، وبعضاً من أقاربه، وباستدعاء خدم أبيه وحراسه. أحل محلهم، عبيده وخيالة من عنده. أحاطوا بدار المنصور، ومنعوا المرور من أمامه، والاقتراب منه. انقلاب فرضه الواجب، الواجب عندما يكون أوجب من طاعة الوالد. منعه من مغادرة القصر، لكنه وافق على طلبه، الالتقاء بكبار الأعيان. تحدِ أراده المنصور، فقبله أحمد. تقدمهم أكبرهم، مقاماً، وليس سناً. الشوكاني..بادرهم المنصور (منفعلاً): - أرأيتم، ما فعله ابني العاق..رد الشوكاني (بعظمة العلماء، وحكمة المتميزين): - (إن راجعت رأيت ما تكره، وقد فعل أمراً يحمده الخاص والعام، والرأي إمضاؤك لفعله، واتخاذك له وزيراً ومدبراً، وإلا فالأمر خطير). أطرق المنصور للحظات..رفع رأسه، وقع نظره على ابنه الواقف على عتبة الباب. كان أحمد قد وقف للتو، في اللحظة المناسبة. أرادها القدر. ما أعجب الصدفة عندما تكون قدراً، كانت البداية والنهاية. تسمرت عينه على ابنه، ولسانه على شفته. لحظات، كان لها أن ترسم عجباً على عيون الأعيان. من نظر إلى يمينه، أم شماله. زال العجب، ونطق المنصور..قال: - رضيت ولكن بشرط..رد أحمد (واثقاً): - اشرط، إن كان مقبولاً. - (حقوق بلاد يريم، وعلى أن الخطبة والسكة وأبهة الخلافة غير متحولة عني)..رد أحمد: - (ليس المراد إلا حفظ المملكة والذب عن ضعفاء الناس) ..أطلق المنصور تنهيدة عميقة، ثم قال (مسلماً): - الآن رضيت، أقترب مني..همس بأذنه..رد أحمد (مبتسماً): غالي والطلب رخيص..قلت (ليمن): - وماذا همس؟ - لم أسأل مولاي. * * * * سعيد بإقصاء المنصور، وحزين، كأن مهمتي قد انتهت. كنت أوافي المنصور، ما كتبته أول بأول. أحداث لا تنتهي، كأنها لا تريد أن تنام أبداً، فإذا نام المنصور، فماذا أكتب؟. ما يخصه، أنا المكلف بكتابة تاريخه، وما يخصني، فالأحداث لن تنتهي. الفوضى، وعهد المنصور، وكأنها لا تريد أن تنتهي في عهد أبنه. بوادرها في الأفق. أصبحت مدمنا على الكتابة، إن كانت تخصني، ذلك بمقدوري، قد بكون لها قيمة بعد موتي، ولن يكون لي قيمة، وأنا لا أكتب ما يخص الإمام، والإمام لم يعد إماماً. إماماً صورياً، فماذا أكتب عنه؟. نام الإمام، استيقظ الإمام. قررت أن أزوره، حملت معي أوراقاً. انتهيت فيها ما انتهى إليها المنصور. حاولت جاهداً أن أكتب ما يرضي المنصور. اختلفت الزيارة، كنت أزوره جالساً في مجلس الحكم، وزرته جالساً في مجلس الراحة. كان ممدداً، حوله جاريتان. إحداهما استقبلت ساقه اليمنى على حجرها، والأخرى ساقه اليسرى، مثلها. تدلكان..قال (مبتسماً..ابتسامة، أفقدها العمر عنفوانها، والملك بريقها): - لا تكتب ما رأيت. - لن أفعل يا مولاي. كذبت عليه. وكم كذبت عليه، وأنا أكتب ما ليس فيه. وكم كنت منافقاً، وأنا أنقل له ما ليس في الواقع. لعلي ساهمت في صناعة مستبد، وظالم، وفوضى، وفساد، يصطلي بنارها المساكين. فماذا سيقول عني المستقبل، إذا قرأ ما يخصه، وهل سيغفر لي إذا قرأ ما يخصني؟. أخشى أن يصله ما يخصه، فلا يعذرني، وأن أصل الحاضر بما يخصني. لن يرحمني الإمام، ولن يهب لنجدتي الناس. الحاضر ضعيف لا ينجد، والتاريخ قوي لا يرحم. صاحب وجهين، منافق، لن أكون كما أريد، إلا إذا كان من حولي، كما أريد، أحراراً.فمتى؟، وهل يعذرني التاريخ، وأبي؟. كان مسترخياً تحت ضربات الأيادي الناعمة، وكنت متعباً تحت ضربات سوط ضميري..يتبع