لا أخفيكم بأني ولأول مرة تمنيت لو أنّي كنت شاعراً ومنذ اللحظات الأولى التي توفي والدي فيها يرحمه الله، من فجر يوم الإثنين الموافق 9 يونيو 2014م، 11 شعبان 1435 هجرية بعد عراك مع المرض سنين، كي أقول معلقة أرثي بها والدي علني أروي ضمئي، لأني وجدت ما أكتبه من كلمات مهما بلغت بلاغتها وحصافتها لا ترقى أن تصل إلى هامته المضيئة ولن تُهوّن هول الفجيعة في أعماق أعماقي.. والدي الذي حينما كنت أنظر إلى بياض شعر رأسه أجد كل شعرة بيضاء تحكي لي قصة كفاح طويلة مضنية وشاقة عاناها والدي داخل الوطن وخارجه في تربيتنا حتى أوصلنا جميعاً إلى ما نحن عليه، فمن الله أسأل أن يجزيه خير الجزاء وأن يتقبله بقبول حسن.. حينما عجزت كلماتي عن كل ذلك بدأت البحث هنا وهناك في كتب الشعر والانترنت عن أي مرثية لأي شاعر رثى أباه، فوجدت مرثيات كُثر في الأحباب والعشاق والأصدقاء والأبناء..الخ، وهناك القليل جداً من رثا والديه أو أحدهما.. فوقع ناظري على القصيدة التالية التي تروي بعض الشيء في نفسي لرثاء والدي ناجي إسماعيل الدعيس وكفاحه مع الحياة، ووقع وفاته علي وإخوتي والوالدة أطال الله بقائها، وهذه المرثية لم أعرف تحديداً من قائلها ولكن يرجح أنها لسعدون أحمد بن علاوة، والتمس العذر من الشاعر إن كانت لغيره.. والتي يقول فيها راثياً أباه ويصف حاله وهو حالي بعد أبي كما أنه حال أي إنسان فقد والده : ما الصبرُ يمسحُ دمعةَ الوجدانِ ... لا الدهرُ يرسمُ وجهةَ السلوانِ لا العمرُ بعدكَ في مُضِيِّهِ مُوغِلٌ ... لولا الرِّضا بمشيئةِ الرحمنِ أبتي لساني في رثائِك خانَنِي ... ما طاوعَ القلبَ الجريحَ لساني لو طاوعَ النفسَ اليراعُ لمَلَّني ... بحرُ المِداد وتاه في شُطآني ماذا أقولُ وهل كلامي مُنصِفٌ ... في حقِّ قُطبٍ راسخٍ رَبَّاني لو قلتُ دهرًا ثم دهرًا لم أكُن ... أنصفتُ مِنه لقاءَ ما رَبَّاني أبتي تَمَزَّقًت القلوبُ وقَطَّعَت ... أوصالَنا طاحونةُ الأشجانِ وتَفَرَّقَ الشملُ اللفيفُ إذ اختفى ... نُورُ الأُبُوَّةِ في دُجى الأكفانِ غاب الهناءُ وغادرَ الأمنُ الذي ... بك كان يَحيى هانِئًا بأمانِ أمَّا الحنانُ فقد رأيتُه عند قبرِكَ ... باكيًا يرجوكَ بعضَ حَنانِ كُنهُ المروؤةِ والرجولةِ والشهامةِ ... والشجاعةِ بعد موتِك فانِ ويحَ الوجودِ بلا وجودِك يا أبي ... ويلٌ لهذي الأرضِ كَم سَتُعاني لا لا تُعَزُّوني وعَزُّوا هذه الدُّنيا ... التي خَسِرَت عَظيمَ الشانِ خَسِرَت إمامًا كان طُولَ حياتِه ... وَرِعًا تَقِيًّا خالِصَ الإيمانِ ما أَمَّ يومًا في المساجدِ إنما ... أَمَّ العُقولَ بِموكبِ العِرفانِ رَجُلٌ كِتابُ اللهِ في جَنَبَاتِه ... ورَحيبُ صَدره فاضَ بالقرآنِ والخيرُ منه يُشِعُّ دون مشقَّةٍ ... لِسُؤالِه فتُجيبكَ العينانِ ما كان يُطمَعُ قَبلَه في غَيرِه ... لا بَعدَه يُخشى مِن الخُسرانِ ******** ما دمتُ حَيًّا لستُ أنسى عند ما ... أقصاكَ ليلُ القبرِ عن أحضاني إنْ كنتُ لا أقوى لِبُعدِكَ ليلةً ... كيف السبيلُ لِمُقبِلِ الأزمانِ أو كنتُ في الأكتافُ أَمسَحُ دمعَتي ... إنْ ضَمَّني لِصُدورِهم خِلاَّني مَن لِلقُلَيبِ إذا أُصيبَ يَضُمُّهُ ... مَن ذا يُكفكِفُ أَدمُعَ الشريانِ أبتي وحيدًا صِرتَ تحت التُّربِ ... في قبرٍ بعيدٍ ضائِعِ العنوانِ أبدًا فقد جاورتَ رَبًّا شاكِرا ... يَجزيكَ رَوضًا مِن رِياضِ جِنانِ وأنا الوحيدُ هُنا وفوقَ التُّربِ ... لا سَنَدٌ يُعينُ ولا أَنبسٌ دانِ رُحماك ربِّي ليس غيرُك عاضِدي ... في مِحنتي بِمهامِهِ الأحزانِ رَحَلَ الذي يَبكي بِلا دَمعٍ إذا سَمِعَ ... الأنينَ يجولُ في وجداني رَحَلَ الذي يَفدي يُضَحِّي يَرتمي ... في النارِ إنْ وَجَعُ الدنا أضناني رَحَلَ الذي لا يَغمَضُ الجفنً الكَليلُ ... له إذا دَمَعَت أَسًى أجفاني رَحَلَ الذي كانت له الدنيا ... بلا خَيرٍ حطامٌ زَائِلٌ مُتَفانِ لم يمَضِ يومٌ في حياتِه دون ... مَعروفٍ له يُوليه للإنسانِ وكأنما المعروفُ عندكَ سادسُ ... الصلواتِ أو رُكنٌ مِن الأركانِ ********* بجوارِ قَبرِكَ يا أبي كُلُّ القبورِ ... تَآنَسَت بالخير والإحسانِ أمَّا المنازلُ يا أبي فتَحَوَّلَتْ ... قبرًا بِفَقدِك عَاليَ الجُدرانِ هُوَ ذا فُؤادي قبرُ روحِك يا أبي ... وَدَعِ الترابَ يَلُفُّ بالجُثمانِ فالجسمُ يبَلى والخلودُ لِرُوحِ ... مَنْ رَبَّى بِروحي بَذرةَ الإيمانِ وإذا بِصَوتٍ هامِسٍ يجتاحُني ... ويَصُبُّ في كَبِدي شَذى الريحانِ أَسكِنْ بِقلبِكَ حُبَّ أُمِّكَ وَادْعُ لي ... إني رَضيتُ بِجيرةِ الرحمنِ ******* مَرثِيَّةُ اليومِ الأخيرِ كَتبتُها ... تروي حياةَ كِفاحِ مَن رَبَّاني إنْ كُنتَ تَعجَبُ مِن كَواكبَ غُيِّبَتْ ... في لَحدِها مَلفوفةَ الأكفانِ فَاعجبْ معي أَنَّى ثَوى تحتَ الثرَى ... مَلَكٌ وأَنَّى زَارَهُ المَلَكَان كان أبي ملازماً بحق لكتاب الله ابتغاء مرضاته لا غير ذلك، وكثيراً ما نقد هذا الواقع المتأزم العربي عموماً واليمني على وجه الخصوص نقداً بناءً، الذي طغت فيه ممارسة الغالب من الناس لقيم الرذيلة على حساب قيم الفضيلة، فأسلي نفسي بأنه قد ارتاح من هذا الواقع الأليم، كان بالنسبة لي يمثل قِبلة القيم الفضيلة التي كنت ولازلت أحج إليها بين الفينة والأخرى، حتى صدق فيه القول "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، وبرغم قلّة تواصلي معه في حياته إلا أنني كنت أشعر بتواصلي معه من نوع آخر، ولا أبالغ في شعوري بأن رحيله عن الدنيا انقطع عني أهم تواصل واتصال وجداني وروحي وتربوي..الخ، الذي لا يستغني عنه الفرد مهما تقدم به العمر، وأقرُّ بأني قصرت في حقك أبي كثيراً وأنت من كنت تستحق كل كتاباتي وأفعالي وتجاهلت حيناً - ليس عمداً - بأن رضاك من رضا ربي فمن الله أسأل أن يجتبيك بواسع رحمته ويسكنك الجنة.. اللهم آمين.. ومن القارئ الكريم الطلب الدعاء للوالد ولكل فقيد أسرة.. [email protected]