الآن في عدن ، صار الغش حديث الساعة ،وسيد الساحة ، علا صوته وذاع صيته ، وصار له سوق ووكلاء ،كبضاعة كاسدة تباع بالجملة على ارصفة الجهل والخيبة والأسى ، موسم ربح وحصاد وتصفية حساب لذوي النفوس الضعيفة ،وعبيد السياسة ،على أرصفة الشوارع يعرض على شكل كتيبات صغيرة صناعة يمنية بامتياز ،وفي المكتبات يباع (عيني عينك ) جنبا إلى جنب مع كتب الدين والعلم والأدب والأخلاق كذلك اختراع حصري ،ناهيك عن مواقع التصوير المزدحمة ،وطرق الغش المستحدثة ،والمماحكات السياسية التي ماتركت مجال الا وعبثت فيه وفسدت ،فلا القضايا المصيرية المشتركة شفعت ولا الخوف من العاقبة منع ،هكذا عندما تتخلخل القيم ،ويتسيس التعليم ،وتغيب الدولة بأجهزتها ،يحدث كل ذلك ، تندثر القيم ، وتموت الاحلام قبل ان ترى النور. الآن في عدن يحدث كل ذلك ! منذ صبيحة أول يوم امتحاني ، حيث الأمل على أسوار المدارس وساحاتها وقاعاتها الامتحانية تكسر كفخار ، وأمام أعين الجميع انهار كمبنى من رمل ، وكان فاتحة لصباحات حزينة تسقط تباعا كما تسقط أحجار (الدومينو) المرصوصة بعناية التي ما أن تهوي واحدة تتبعها الأخريات على ايقاع الدهشة ، والحسرة ، والألم . كل شيء كان هادئا،الجميع كان يكسوه الحماس ،التلاميذ ،الملاحظين ،المراقبين واشراقة شمس الصباح ،والأمل يحدو الجميع بيوم امتحاني احتفالي ، يعيد لعدن المكانة والدور ، ولكن !! بعد ساعة تغير الأمر وتبدل !! أطل الغول براسه وفاسه ،مجاميع هائجة أمتلئ المركز بهم ،الساحة والممرات والشعب الامتحانية ( آباء وأمهات وأقارب وأطفال وشباب وبلطجية وعسكر ) صوت اندفاعهم كان يملئ المكان ويرجَه، ومعه ترتَج صور كثيرة في المخيلة ، وتسقط في الفوضى ، جميعهم دخلوا مزهوين !! ليرسموا صورة بائسة لمستقبل مجدب ، ويشيعوا جنازة لما تبقى من قيم . تزاحمت الأسئلة وضربنا كفا بكف ، هل يُعقل هذا؟ ونحن نشاهد تلك الجموع تلهث وتعبث في سمعة عدن وجيلها ، كانوا كالمعتوهين يهرولون ،فرحين ومختالين كلا يصوب سهمه ويحمل سيفه!! هل هناك من يفعل ذلك ويرفع أشارة النصر كذلك !! هجم الحزن على القلب دفعة واحدة ، الانتصار !!على من ؟!! لا نعرف ، فالكل كان غريق وتائه . كان إحساس غريب ،ومشهد مريب ،ما أثقله من أحساس ،وما أصعبه من أمر . ولكن هناك شئ بقى في المشهد كان يضئ كالأنجم وكاشراقة بشارة تربت على الأكتاف ، مجموعة من التلاميذ يطلبون ان نسمح لهم تكملة الامتحان في (المكتب) بعيدا عن المقتحمين والفوضى والغش ، نموذج من الشباب ،هم فرسان الرهان ،هم رهان الامتحان.. ما أروعهم من فتية ، بهم ثمة أمل كان يتجدد ،بهم ثمة أفق كان يضئ .