أسماه جدي: صاحب أسعد- وهو والد صاحبتي (فاطمة)- الجاهل بالحقيقة أو إغفالها لسبب ما، فإذا خرجت على صفحات الكتب أو على ألسنة الناس كانت مشوهة مثل تاريخنا، أو صاحب أسعد. سوف يظل اسمه: صاحب أسعد مجرد اسم أردته مثلاً. الحقيقة المشوهة، عندما تمسخ وصاحب أسعد لم يمسخ مجرد أسم. مثل فاطمة ذكرت أسمها لأول مرة، قد يكون لها دلالة، خرجت بها من حواري الطويل مع يمن. كان أطول حوار معها. دفعني أن أبعث له سؤالاً مع فاطمة: لماذا كان وصفك عنيفاً لهجوم الأتراك على حراز؟. - لأن من كان فيها يام (الباطنية)، قد هزمت سيدي محسنا المتوكل. - وصف الحرب عليهم بأنه جهاد..لماذا وهم مسلمون؟ - لا تنفع المراسلة للإجابة على السؤال. - وهم سوف يقولون مثلكم. - وإن قالوا نحن لا. - وهم سيقولون مثلكم، لن يستقيم الحال إلا إذا قبل كل مذهب بالآخر. - كأنك باطنية. سألته( متجاهلة لكنه أكد تعصبه، لا يعترف إلا بمذهبه، الاعتراف الذي شرذمنا الواقع شاهد..لن يستقيم حالنا إلا بدولة عادلة، دولة خارج وفوق المذاهب): - وإذا دخل الأتراك صنعاء بمذهب غير مذهبنا، ومحتلين، سوف يقضون على محسن المتوكل، والإمامة برمتها..فكيف تصف ذلك الوصف وهم قد يفعلون كما قلت أنا؟. - المهم بأنهم قد دحروا الباطنيين عن حراز، أما الأتراك فحسابهم فيما بعد. إذا حاورت يمن حاورت عقلاً متفتحاً، وغير متعصب. يبحث عن الحقيقة فإذا وجدها أقتنع بها، وإذا لم يقتنع لا يخاصم أو يحقر، ولا يزال الاحترام. وإذا حاورت صاحب أسعد حاورت عقلاً منغلقاً، نهايته: معي، أو ضدي. اكتفيت بحوار لم أرد أن أصل إلى نهايته. لا أريد أن أخسر فاطمة، أحببتها، وحرصاً على ما تحمله معها..قلت لها: - أتعبتك تذهبين وتعودين. - ما الجديد، أنا أذهب وأعود دائماً. - هي رغبة والدك أما حواري معه فقد كانت رغبتي. - وأنت صاحبتي وبعد أيام أنساب..رديت (مستغربة): - كيف؟ - وافقنا على خطبة ابنتي (رشا) على ذي يمن..تمالكت نفسي، احتضنتها، خوفاً من أن تفضحني عيني، ثم قلت: - خير ما فعلتم، وقلت في سري: - حسابك فيما بعد يا أسعد لم تخبرني.
لم أهدأ. طلبت أسعد. عاتبته كنت قاسية قسوة المحب، فهما: حفيدي وابنة صاحبتي. لم أقبل كل الأعذار لكني سامحته. أخبرني أن الزواج لن يتم، إلا بعد استقرار الأوضاع. الأتراك في الحيمة. استقرار الأوضاع يعني وضع معيض، خرج عن يده أصبح بيد الأتراك. وافقني وأضاف: وضع اليمن كلها..سمعنا هدى (من خارج الغرفة): مبروك أخي أسعد أخبرتنا خالتي كاتبه..كانت مفاجأة حد العجز..قمت بعدها..أسرعت، وقفت على عتبة الباب كانت اختفت..قلت (في سري): - وهل ستغير رأيها بزوجها؟..قال أسعد: - هل أخرج لتحيتها أم أنها لا تريد أن تراني؟..حرفت رأسي، كان واقفاً ورائي..قلت: - لك أن تغادر فقد غادرت. - بلغيها سلامي، وأن الهادي غالب سيدخل صنعاء من الروضة بعد غد، وصلته وأبي رسائل من أحمد مختار باشا. لم أسأله عن محتواها إلا أن دخول الهادي يعني أن الباشا قد أمر بدخوله. هما، لا ثالث لهما، فلمن ستكون الحظوة عند الباشا. من سيحسن التصرف سوف تكون له. تاريخهما يقول: أن معيض أذكى، نجح في السيطرة على صنعاء، حفظها ودحر الأئمة منها. وأن الهادي غالب لن ينجح. جرب الإمامة مرتين وفشل في المرتين. أوصله إرثه ولم يصله ذكائه. وقبل أن يدخل الهادي أراد ابن معيض أن يقول للباشا، قبل أن يدخل الباشا، أنا الأجدر. أوعز من ينشر خبراً-على مشائخ البلدان المجاورة لصنعاء-..قال: الأتراك دخلت الحيمة بعد حراز، ما عجز عنه محسن المتوكل فعله الأتراك، وسوف تدخل عاجلاً صنعاء شئتم أم أبيتم وخير لكم أن يكون ابن معيض الواسطة من أن يكون السيف. خافت من الباشا بلغهم ما فعله بحراز: (ذهب الداعي بمملكته، وصار من الوجود إلى العدم، فكأنما لا غدا ولا راح ولا بقي للكبش في البطاح نِطاح!)، وبلغهم أن الحيمة سلمت طائعة. أراد مشائخها أن يبرهنوا على الولاء والطاعة للباشا. طلبوا أجناداً لاحتلال الحصون والمعاقل. استجاب لطلبهم ومن أحتل الحصون أحتل السهول..وصلت ابن معيض..قال مندوبهم: - نريدك يا شيخ محسن أن تكون الواسطة بيننا وبين الباشا. - بشرط. -وما هو؟ - الولاء والطاعة للباشا. - موافقين. إلا العذري والدفعي، كما هما مصران على التمرد والبغي والفساد..قالت يمن: - ومحسن المتوكل. حدقت في وجهها. لأول مرة ترسم تجاعيده في ذاكرتي سنوات عمرها، تقترب من المئة عام إلا ستتين. مازالت حواسها تعمل كأنها أنا وذاكرتها كأنها ذاكرتي وفي هذه المرة أحسست فيها الوهن..واصلت (مستغربة): - لماذا لم تردي؟..أسعفتني بديهتي..قلت: - كنت عند المتوكل ما عساه يفعل. في بيت سبطان، لم يستجب له إلا العذري كرهاً لابن معيض، وحباً للفوضى لا حباً فيه. - يريد المتوكل أن يقاوم الترك. - لم يستطع هزيمة الباطنية بالقبائل التي كانت معه، فكيف يستطيع بالعذري؟ - والهادي غالب. - سوف يدخل غداً صنعاء من الروضة، لعل الترك قد أوهموه بأن الأمر والنهي سيكون له. - كل شيء جائز إلا الإمامة لن يعيدوها له هكذا أتوقع. إذا دخل الباشا دخل ليحكم اليمن فهي صنعاء عاصمة اليمن..وأولاد شرف الدين في كوكبان. - فيما بينهم يتنازعون عليها. يحكمها الآن أحدهم، لا أتوقع أنه سيستجيب للباشا إذا دخل..واصلت (ضاحكة): - وغيرهم: (طوى عنها كشحا، وأضرب صفحاً.). - شر البلية ما يضحك. والبعيد من صنعاء يحكمها مشائخها وعقالها..الفوضى مزقت اليمن، فماذا سيعمل الباشا؟. * * * * بأمر الباشا دخل الهادي غالب صنعاء. وبأمر الباشا وافق محسن، لعل، كنت محقة أم لا، لم يحن الوقت، الباشا لم يدخل بعد ولو وصل الناس الهادي. مشائخ، أعيان، وعامة. منهم من يتقرب، ومنهم من يطلب حاجة، ومنهم من يطلب العفو. ومحسن معيض جاء إلى بابه تنفيذاً لطلبه، أطاعه مثله غيره. لم يكن بحاجة للبيعة إمام سابق وابن إمام، طلبهم مثل أبيه إلا أن الحال غير الحال.كان أبوه إماماً في صنعاء وكان الهادي خارج صنعاء. من كان فيها قُتل ومن كان خارجها دخل. للأول الفضل لكنهم فشلوا، أما الثاني فللباشا الفضل، فهل سيفشل؟..كان مع معيض ذي يمن، اختاره ولم يختر أسعد..قال ذو يمن: - عندما وصل جدي وأنا إلى بابه أدخلنا واختلى بنا. تحدث عن أحقيته في الخلافة، الأتراك تعرف ذلك وعلى جدي أن يعترف. أظهر له جدي غير ما بطن، كدت أنفجر بالضحك، كان يسأله (والعذبتان تتدليان على ظهره، والمظلة تدور فوق رأسه): - من أنا يا معيض؟ - مولاي الإمام الهادي ابن الإمام المتوكل..رد (فرحاً أسقط المظلة): - وأنت من؟ - كما يريدني مولاي. ألتقط المظلة، عادت تتحرك فوق رأسه. ذرع الغرفة ذهاباً وإياباً..وقف، ثم قال (متكبراً): - ليس الآن..ليس الآن..رمقني بنظرة فوقية، ثم قال: - ومن هذا؟ - حفيدي ذي يمن..رد (ضاحكاً): - من كنت تريد أن أزوجه بابنتي، بلغت بك الوقاحة أن تطلب ابنة الإمام هل نسيت نفسك؟ - لم أنس..فهل كنت ستوافق؟ - بعثت بموافقتي لعلي المهدي، كنت أعرف بأنه لن يوافق. أردت أن أغيظه فأغاظني. ماتت ابنتي معه، قتل أبي وابنتي. انتصر حياً وميتاً..نظر إلى أبي للحظات، ثم قال: - وانتصر عليك. - كنت ستوافق إذن..رد (منفعلاً): - أوافق..هل جننت أم أنك بائع البن الوقح!؟..رد أبي (ساخراً..كان هادئاً، هدوء الواثق): - لكنك قلت: انتصر عليّ. - قطع عنك الأمل ولو لبضعة أيام. قام أبي، أستأذن بالانصراف، كأنه إمام..وقف على عتبة الباب..نظر إليه للحظات، ثم قال: - توافق على دخول الأجنبي عاصمتك من أجل اللقب، ولا توافق على زواج ابنتك ولو من أجل اللقب. - تلك ابنتي، وهذه..لم يكمل، ولم يلح أبي، كان وكنت أعرف ما بين النقاط. كان ابن معيض، وحفيده يعرفان ما بين النقاط. لم أسأله، عرفت مثلهما. لن أكتب ما بين النقاط، للمعرفة أوجه كثيرة. اختلف الاثنان، ابن معيض والهادي، لكنهما اتفقا على دخول الأتراك. جرت العادة، وكذلك يحكي التاريخ: إذا اختلف اثنان يستعين أحدهما، أو كلاهما بالأجنبي، لكنه ينصر أحدهما ضد الآخر. والتاريخ عِبَر، منذ سيف بن ذي يزن قتله الفرس. لا يتعظون من التاريخ كراهية في الخصم. حقد العربي على العربي مثل الجمل العربي، فهل يحكمنا أجنبي ونستريح؟. إلا أن التاريخ يقول: لا يرضى العربي بالأجنبي، فإذا خرج عادوا للحقد فيما بينهم وعاد الحال كل يريد أن يحكم ويستبد. الهادي وابن معيض حالة استثنائية فكيف ستكون نهايتهما؟. * * * * يتبع