بارعة في مسار الجنون الجماعي من يحكم يمن اليوم؟ انه النظام "السابق" بكامل أجنحته التي تتحكم بالبلاد بذات الأدوات والأساليب والسياسات، وتمارس نفوذها الطاغي على المجال العام بعنفوان متفلت ومتوحش، وتدير الفوضى والخراب بحرفية سحرية، وهي من يتقاسم النفوذ على قطاعات الخدمات الحيوية وخاصة في مجالات الطاقة النفطية والكهرباء، ويتقاسم المنافذ البرية والبحرية والجوية، وتوكيلات الشركات الأجنبية، وبيع الحماية ونزعها عن من لا يدفع. هي من يتقاسم معظم "تنظيم القاعدة" والنسخة اليمنية الداعشية بالاستناد إلى خبرة عقود من احتضان "المجاهدين" تارة ضد الماركسيين والملاحدة في جنوب البلاد، وأخرى للجهاد في أفغانستان، وثالثة لدعم المجاهدين في بلاد الرافدين، ورابعة لتحشيد وتصدير المقاتلين لدعم الجهاد في سوريا، وخامسة للانخراط في الجائحة الداعشية التي صارت تعصف بكل الأرجاء من اليمن إلى لبنان، وتؤشر إلى مهندسين جهنميين لخارطة سايكس –داعش بدلا من سايكس بيكو، وهي خارطة يبدو أنها سوف ترسم الحدود القادمة بنواعير وانهار كثيرة من الدماء بما يعني "انتهاء مرحلة سايكس- بيكو" أو نهاية الجغرافية السياسية للمنطقة العربية ولليمن والتوجه إلى المزيد من التقسيم والتفتيت. أجنحة السلطة النافذة في هذه البلاد كانت ومازالت تشكل النظام وجلها تورطت وانخرطت في تمويل ورش تعميل "المجاهدين" والمتطرفين وصناعتهم وتصديرهم ثم استيرادهم مجددا وفتح كافة المنافذ والمطارات لدخولهم معززين مكرمين والمزاوجة بين أجيالهم وأطوارهم، كما بين الإرهاب والتهريب وشيوخ القبيلة ومشائخ الدين،.....الخ. في هذه البلاد كل شيء يتداخل من شدة تعفن النظام ومكابرته على الاستمرار في حكم فقد كل شروط الصلاحية وأسباب البقاء، وأضحى يقف وراء كل ما نشهد من انهيارات بعد أن جير كل شيء لمصلحته وألحق مؤسسات الدولة بأجهزة السلطة إلى أن تماهت الدولة بالسلطة المطلقة، وغدت الدولة هي السلطة والسلطة هي الدولة، ولم يكن بغريب انه عندما تصدعت أركان هذا النظام وانشرخ بنيانه في زلزلة 2011؛ كانت التوابع ومازالت هي كل هذه الانهيارات العنيفة التي نشهد، وتكاد أن تكون رأس جبل الثلج الذي لم نر بعد كامل أركانه وأضلاعه وجذوعه. إن هذه الانهيارات التي تطوح بما تبقى من بنيان الدولة ناتجة بالأساس عن احتلال الطارئ – السلطة- لمكان الثابت: الدولة. وتاليا تظل هذه الانهيارات العنيفة على صلة وثيقة بتحويل كافة المؤسسات إلى ضياع يمتلكها "الزعيم" والاتباع بما في ذلك تحويله للجيش والأمن والإعلام إلى أسلاك تنعقد ضفيرتها لتكون بحجم قبضته ولتدين له بالولاء المطلق. ولكن.. ما إن تهتكت وتقطعت هذه الأسلاك بفعل عوامل تعرية الزمن والتاريخ والفعل الإنساني، وانفرط عنقودها بسبب التكالب والتنازع على مغانم السلطة، وانخلع رأس هذه السلطة حتى تبدى انه ليس من السهل التحرر من أثقال الإرث والقطع مع آليات وأدوات وسياسات النظام "السابق" التي احتفظت بكامل طاقاتها القائمة والكامنة، وتربصت بالحاكم الجديد –عبدربه إن شئتم التفصيح- الذي صار مطالبا باسترضاء الذين يعتقدون بأنهم أوصلوه إلى الكرسي أولا ولم يكن بمقدوره ولا بميسوره الحيلولة دون نشوء وتبلور الدوائر الضيقة التي التفت على عنق الحاكم السابق وكتمت أنفاسه بالعلاقات الزبونية والمحاباة والصهارة والعلاقات العائلية والقبلية والجهوية ثانيا، كما لم يكن وليس بمقدوره حتى الآن على الأقل، التنصل من واقع بأن الجميع على انشقاقهم وافتراقهم الظاهري أو المضمر أوصلوه إلى الكرسي وكان كل طرف يريد أن يتحكم بالكرسي ومن يجلس عليها غير أن لمنطق دورة المكر بين "البدوي" و"القبيلي" شأن آخر. ولئن بدا الأمر في ظاهره سياسة فإنه أبعد ما يكون عن ذلك لأنه ينتمي لعالم ما قبل السياسة، ولأنه، أيضا، أقرب ما يكون إلى حالة العصابة المافوية النهابة للمال العام، بالأمس والآن وفي عالم العصابة أو العصابات يصعب الإمساك بتلابيب الأشباح والشبيحة الجوالين أو القابعين في الأقبية والأنفاق. من باب النهب تحولت العصابة إلى قوة اقتصادية داخل النظام نفسه، بعد تحويلها للدولة إلى مجرد قوقعة فارغة أو فزاعة يتم بها تخويف المعارضين المنتفضين.. "ويحدث، طبعا ان تختلف أجنحة النظام، فتطفو بعض الفقاعات إلى الخارج، وكل جهة تتهم الأخرى، وتفضح ممارساتها جزئيا مع الحفاظ على خط رجعة يضمن الحفاظ على المصالح المشتركة، ولا يصمت الطرفان إلا بعودة الترتيبات الجديدة الضامنة لطرفي الصراع في الأموال المتراكمة داخل الجهاز الحاكم، أغلبها متأتية من الريع، من النهب المنظم" –بحسب الروائي الجزائري واسيني الأعرج. في كل الأحوال إن جماعة الحكم التي تحالفت على تفريغ الدولة من معناها ومبناها، وتجويف المؤسسات وتحويل الجيش إلى مليشيات تتنازعها الولاءات، والأمن إلى أذرع حمائية للحاكم الفاسد، والبلاد إلى ضيعة ومزرعة يتناهشها الحاكم وأفراد حاشيته واتباعه وضباعه من العشيرة والقبيلة، والمزاوجة بين العصبية القبلية والعصبية الاسلاموية-السلاح الكيماوي الأخطر لهذا النظام بحسب أستاذنا القدير عبدالباري طاهر- والاستناد على هذا العنصر الكيماوي لم يدر بخلدها- أي جماعة السلطة- ولا بمخيالها العصابي احتمال انشطار عنصر الكيمياء الذي اعتمدت عليه كركيزة ايديولوجية أداتية، ولم تتفكر في واقع أنها أصبحت جماعة خطرة على البلاد وساكنتها وعلى نفسها، بعد أن نهبت وابتلعت من الخيرات والموارد ما يتجاوز حدود الشبع والبشم، وما يدفع بالأجهزة التي تتعكز عليها إلى حالة مزرية من العجز والانحطاط والاضمحلال، وما يطوح بكل أدوات الحكامة، رقابة، مساءلة ومحاسبة وغيره. صحيح ان هذه الجماعة أخضعت معظم "النخبة" اليمنية لمنظومة الاستزلام وشراء الذمم والتوسطات والتقاسم والتوزيع اللصوصي لثروة البلاد، وجمعت شتى الأفاكين المنغمسين في خط حياكة الدسائس والأباطيل، والمأهولين بالنكوص والرداءة والموبوءين بالعقم وما إلى ذلك من الكائنات التي يتوجب علينا مساعدتها على المضي قدما نحو أفولها المفرح حتما لقادم الأجيال. وصحيح ان هذه السلطة تمادت في نشر الرثاثة والرداءة والسفه والبلاهة على كل المستويات، وعملت على تجريف الساحة من السياسة والسياسيين واستنساخ الأحزاب وتفريخها، وتعويم الساحة الإعلامية بنشرات –يقال عنها صحف- تعبوية تمجد التفاهة والحمق والفساد والانحطاط والعربدة، وتؤطر كبار الفسدة في برواز "الشطار" وأصحاب السوابق والقتلة في إطار "الثوار" وصناع الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية وما إلى ذلك من العناوين التي جرى السطو عليها ونهبها كما نهبت البلاد إنسانا وأرضا وجرى استنفادها من كل معنى وبريق بمنهجية تقصدت اعتمادها ك"سوابق" لا ينتفع بها ولا يستثمرها كما لا يستفيد من تفعيل رصيدها غير "أصحاب السوابق".. ولكم أن تتفكروا وتجيلوا النظر في أكبر المستفيدين من "الجمهورية" و"الثورة" و"الوحدة" وغير ذلك من سردياتنا الكبرى التي تحولت إلى أكاذيب مسلحة بفضل هذه: الجماعة. والصحيح، أيضا، ان المعترضين على كل هذا البلاء والابتلاء كانوا في غيبة طويلة وعطالة متطاولة حتى انهم لم يكونوا هنا! على ذلك كان أصحاب السوابق هؤلاء أسبق من غيرهم إلى امتلاك الصحف والمواقع الالكترونية والقنوات الفضائية، والى شراء الكبار و"الكبيرات" من الطارئات والطارئين على حقل الإعلام والصحافة والمتلاعبين بالتاريخ والفكر والصور وشتى مقاصد الخدمة العمومية. لعل مرد ذلك يكمن في واقع احتلال الدولة من قبل سلطة تشتمل على توليفة شعثاء من النهابين الهجامين الذين لا يرون في المال العام والمجال العام أكثر من غنيمة أو مسرح ل"برع" اللصوص، الأمر الذي عنى ويعني الدفع بالشعب والبلاد إلى مهلكة دمار الألفة الإنسانية والوطنية الجامعة ثم إلى التحلل وافتقاد المناعة، على خلفية فسح المجال للنهب المنظم والسمسرة في الخدمات، والتهافت على عمولات المشاريع الكبرى والصغرى من قبل أفراد هذه العصابة –السلطة إن شئتم- التي لا يجمعها أي شيء أكثر من نهب المال والتدبيرات المافوية لنهب المزيد منه، والتلفع باسم "النظام" عبر الاستعانة أو الاستئجار لشرذمة من البواقين الوقحين والسفهاء المستعدين على القول بأن الفأر أسد وان رأس سلطة الفساد هو "النظام الخالد" ورمز الانجاز والمنجزات. وحين جاءت الهزة وأزيح رأس النظام -يروق لبعض الثائرين والثائرات القول ب"سقوط النظام"- كان الانهيار المهول للدولة الهشة أو لبقاياها يتجاوز حدود المعقول، وقد تكفل بوضع اليمن خارج مجال العقل تماما. وجاءت مجموعة الحكم الجديدة –هي لا تشبه تماما مجموعة الدم الجديدة التي تتحكم بمعظم مقاليد مقديشو وجلها من الإخوان المسلمين- لتبرهن على أنها مؤهلة بامتياز على السباحة في بحر الفساد المعمم، ابتداء من مظاهر التسيب الفاضحة التي اكتنفت بداياتها وتجلت في إطلاقها للوعود والتصريح بأي شيء مهما كانت خطورته وانتهاء بما آلت إليه من انكشاف وانحدار وتهلهل وفضيحة. مرة ثانية يجوز التكرار بأن الحالة اليمنية بفضل هذه المجموعة الجديدة صارت خارج مجال العقل، وقد تضافرت جهود عناصر "الفرقة" –لا نقصد الفرقة الأولى مدرع أو الحرس الجمهوري أو فرقاء الستين والسبعين في صنعاء فقط- في اتجاه تحويل الميادين والساحات إلى بؤر لانتشار الدهما والغوغاء ولرفع النعال على الرؤوس وتوسيع دوائر الخندقة والبندقة والهيجان والهذيان؛ حتى غدت الكيفية التي يدار بها الشأن العام من المؤشرات الأهم إلى المسار الذي يتشكل به الجنون الجماعي في اليمن. إن السلطة التي تبتلع الدولة تمارس الحكم بأجهزة تقوم على مركزه، وتركيز الحكم وشخصنته لحساب طرد الكثير من الكفاءة والجدارة والخيال والذكاء الاجتماعي والفكري والسياسي والإنساني، وفي اتجاه ترصيع أشباه الأميين والجهلة بألقاب "الدكتوراه". وهي "سلطة تجعل من الجميع لصوصا يترصدون فرصتهم للنهب والسطو" وتحول الأكاديميين إلى مزهريات وديكورات زينة، والجامعات إلى واجهات احتفالية زجاجية ملونة لا علاقة لها بصناعة العلم والمعرفة بقدر ما تتكرس لمضاعفة أمية أشباه المتعلمين، وصناعة الإرهاب وتمجيد التفاهة والغياب والخرافة. هي سلطة لا تقنع بأقل من تبخيس وظيفة الإعلام وتتفيهه وتحويله إلى ماكنة نميمة عمومية كبرى، علاوة على تحويل الإعلاميين إلى مهرجين وهتيفه وسماسرة ومتسولين على أبواب "المشائخ" و"الأسياد". إنها سلطة لا تقبل من الإعلامي إلا أن يكون مؤهلا لتغطية حفلات الرقص في أعراس اللصوص، وتبييض وجوه زعامات العصابات المسلحة والإرهابيين والمجرمين عبر تعضيدهم بأنساب وألقاب وضمائر لا علاقة لها بأي ضمير أخلاقي أو إنساني أو وطني. سلطة لا تتعامل إلا مع الانتهازيين في الأحزاب، ومع الإعلاميين الطارئين على الإعلام والمستعدين للتحايل على الرأي العام وتشويشهه وتضبيبه وتشظيته والحيلولة دون تنميته وبلورته، والاندفاع في منحى "التبييض السياسي" للمليشيات والعصابات وشيوخ التكفير والتكبير لذبح البشر والاستباحة والتنكيل والتقتيل. بفضل هذه السلطة صارت اليمن تتحلل إلى عناصرها الأولية وآلت إلى صحراء مجدبة من السياسة ومخصبة لاحتفالات وولائم الذئاب والذباب والجوارح، تفوح برائحة الدماء الفاتحة لشهية المزيد من الجزارين، وصار الكثير من ساكنة هذه البلاد أشبه بالفراخ والأرانب المذعورة، كما صار الكثير من الأغرار الصغار متاحين للبيع كالنعاج إلى تجار الدين وتجار الحرب، وانزرعت الفخاخ في كل مكان وتفخخ ما تبقى من شرايين الدولة بالتطرف والمتطرفين، بالإرهاب والمهربين، ومفجري أنابيب النفط ومحطات الكهرباء، وتجار السلاح والمخدرات. صارت البلاد حافلة بالطوابير ومواكب التشييع الجنائزية، ومزدهرة في استثمار الاستضحاء و"الشهادة" وغدت قائمة "الشهداء" هي الأكبر، كما غدا الاستثمار في "الشهداء" وظيفة من لا وظيفة له وذات عوائد كبرى تنتفع بها نخبة ابتليت بالاستحواذ على الموتى والمنابر والمقابر، وتصفحت وجوهها بالنحاس، ولم تعد تكترث، بل ليس في مقدورها أن تعي ما يعنيه أمر فقدان الإنسان لحقه في الحياة وهو في زهرة العمر بسبب ما تقوم به الكثير من الجوامع والجامعات والمعاهد والجمعيات التي تستثمر في الدين ولا تنفك عن تأكيد وتكرار القول بأن مستقبل الشباب على هذه الأرض هو الآخرة فقط.