لعل من سؤ حظنا -في اليمن السعيد- اننا شعب متيم بالثورات حد الوله ، نحن شعب يتوارث جينات الثورة جيلا بعد جيل ،نعيش حالة ثورية متواصلة لم تنته ولن تخمد شعلتها وستظل متقدة الى ما شاء الله، وكنتيجة حتمية لهذه الروح الثورية الوثابة التي يسري غليانها في دمائنا ، كنا وما زلنا في حالة استنفار وتأهب دائمين لخوض معارك وصراعات عبثية ضد بعضنا البعض. ومما يدعو الى العجب اننا شعب فرضت عليه حياة البؤس والشقاء، تلازمه المتاعب والمحن كظله منذ ولادته ، اعتاد على التعايش مع الفقر والجوع والحرمان بقناعة ورضا وطول بال يحسد عليه، شعب ابتلي بنخب وقادة ورموز جعلوا منه أداة لتحقيق اهدافهم واطماعهم في السلطة والنفوذ والجاه والمال، لذا قد لا يستغرب المرأ منا النفسيات والسلوكيات الغير سوية والمخالفة للطبيعة البشرية لتلك النخب والقوى ، اذ لا يهنأ لها العيش الا في ظل لا دولة او دولة ضعيفة مهترئة تستطيع فيها ممارسة حياة الفوضى والعبث للحصول على مكاسب ومغانم بأبسط الطرق واقل التكاليف والشعب هو من يدفع الثمن ، وبالتالي يخطئ من يعتقد انه - في ظل وجود هذه القوى- يمكن لنا التكيف مع دولة قوية يسودها نظام وقانون ومبادئ العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية ، دولة تستطيع بسط نفوذها على كل شبر او جزء من اجزاء الوطن وفرض هيبتها على الجميع دون استثناء ومن ثم تحقيق الآمال التطلعات في النماء والازدهار والاستقرار المنشود ، ذلك حلم بعيد المنال طالما بقيت تلك القوى الماضوية هي الفاعلة والمتحكمة بحاضر الوطن ومستقبله. خمسون عاما وازيد ونحن ندور في ذات الدائرة الثورية ، لم يشهد الوطن شماله او جنوبه أي حالة من الأمن والاستقرار والسلام والبناء الاقتصادي والتنموي ، اذ لم تمض اشهر قليلة على انطلاق ثورتي سبتمبر واكتوبر حتى بدا الجميع – حلفاء الامس اعداء اليوم – يعد العدة لثورات ودورات عنف جديدة بدعاوي الحفاظ على منجز الثورة ومجابهة تحديات الثورات الارتدادية المضادة، وهكذا عاش الوطن خلال الفترة الماضية زخم ثوري تخللته دورات حروب وصراعات متتالية ذهب ضحيتها الآلاف من ابنائه الأبرياء. قبل اربعة اعوام عشنا زخم ثورة احتشدت فيها كل القوى والاحزاب والتوجهات كنا نعتقد حينها انها ستكون مسك خاتمة الثورات المجيدة في حياة الشعب اليمني نظرا للشعارات الثورية البراقة التي رفعتها كل تلك القوى والاطياف , ليتضح بعد فترة انها لم تكن الخاتمة بل مفتتح لصراعات وثورات اخرى اكثر قوة واشد عنفوان من سابقاتها وهو ما نشهده اليوم من مسيرات وحشود جماهيرية تتبناها تحالفات ثورة 11 فبراير 2011م وبذات الترتيب والسيناريوهات السابقة لينقلب السحر على الساحر ويصبح رفقاء الأمس اعداء اليوم . وبالعودة الى ثورة 11 فبراير -التي ظلت القوى الاسلامية والتقدمية واليسارية تتغنى بها وتتحدث عن انجازات جبارة تحققت خلال المرحلة الماضية لنكتشف ان تلك الانجازات لم تكن سوى فشل مخزي وإدارة عبثية فاضحة لأجهزة ومؤسسات الدولة عاش الشعب اليمني اربع سنوات حالكة السواد متجرعا مراراتها وعلى كل الاصعدة . - ولاننا في زمن مليء بالتفاهات وفي ظل غياب شبه كامل للقيم والمبادئ والاخلاقيات المتعارف عليها فقد تصدر المشهد الثوري 2011م عدد من الوصوليين والانتهازيين يمكن تقسيمهم الى فريقين. - الفريق الاول هم من قربهم النظام السابق ووضع ثقته فيهم ومنحهم اعلى المناصب رغم معرفته بانتهازيتهم وملفاتهم المتخمة بالفساد ربما بهدف استمالتهم لصفه وشراء مواقفهم وذممهم– خرست تلك الاصوت بمجرد حصولهم على امتيازات وحظوة لم تكن في الحسبان ومعروف ان هؤلاء كانوا ابرز من تصدروا جوقة التطبيل والتسبيح بحمد النظام حينها- وما ان بدأت احداث 11 فبراير 2011م و بمجرد شعورهم ببدء العد التنازلي للنظام وفقدانهم مصالحهم التي اعتادوها قرروا القفز من على السفينة الوشيكة الغرق والنجاة بأنفسهم، انقلبوا عليه بإعلان ثوريتهم والهروب للطرف الآخر والأمر والأدهى من ذلك ان البعض منهم خرج يتفاخر ويتباهى بانه استطاع خداع النظام السابق طوال فترة التحول ، مؤكدا على ايمانه العميق بتوجهات ومعتقدات وسياسات حزبه الرئيس الذي كان قدخرج عليه سابقا. - الفريق الثاني من اولئك الانتهازيين هم ممن وجدوا صعوبة في ترميم الشرخ الذي كان قد اتسع عمقه بينهم وبين النظام السابق فما يعتمل في النفوس من الحقد والغل كان من الصعب تجاوزه واقوى من ان يعيد اليهم صوابهم وبدأت مرحلة الاستعداد للثأر والانتقام ،ومع ذلك لم يظهروا للعلن بداية الازمة اذ ظلوا قابعين في بدرومات منازلهم طوال فترة الغليان حتى حان وقت ظهورهم في نهاية المطاف لينعموا على انفسهم بأنواط ونياشين الشجاعة والبطولة والنضال الثوري. وما من شك في ان احداث العام 2011م عرت الكثير من الوجوه واسقطت العديد من الاقنعة الزائفة لأناس كنا نتمثلهم رموزا وهامات وطنية سامقة ،نتحمس لرؤاهم واطروحاتهم ونحاول انتهاج واستلهام طرق واساليب تفكيرهم وسلوكياتهم في الوطنية والنزاهة والاعتداد بالنفس، الا ان وقع الصدمة كان شديدا حين رأينا تقزم هؤلاء ، كم بدوا صغارا امام الفتات من وليمة التقاسم والمحاصصة ،وليت الامر يقف عند هذا الحد فقد فاق هؤلاء نظرائهم السابقين في الكذب والتزلف وخداع البسطاء من الناس واستهبالهم لاماني وطموحات وتطلعات الشعب الذي خرج ليصعد هؤلاء ،تخيلوا احد هؤلاء الجهابذه ممن كان يشار اليه بالبنان -حصل على منصب ثانوي غير ذي اهمية -خرج في لقاء متلفز مدافعا منافحا عن حكومة الفساد والإفساد ليؤكد نزاهة وكفاءة هذه الحكومة نافيا عجزها او فشلها وعندما طلب منه المذيع ان يذكر أي انجاز لها قال ان اكبر انجاز للحكومة هو انجاز سياسي يكفي استمرار بقائها كتلة واحدة مترابطة ومتناغمة مع بعضها ، وانه لولا استمرار بقاء هذه الحكومة لكانت البلاد في خبر كان،-ياالله والمنجز العظيم وهذا الاكتشاف العبقري لهذا الداهية –ومن ضمن اجاباته عن انجازات الحكومة هو المحافظة على سعر صرف العملة الوطنية ازاء العملات الاخرى –وهذا طبعا منجز للحكومة - لم يتحدث بالتأكيد عن الديون المحلية او التناقص الحاد في الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة ، لم يشر الى ان البلاد اصبحت قاب قوسين او ادنى من الإفلاس والانهيار جراء فساد وعبث حكومته الموقرة، لم يتحدث عن الزيارات المكوكية المتواصلة لوزراء حكومته الذين جابوا اصقاع العالم شرقه وغربه جنوبه وشماله وكل منهم لديه جدول اسبوعي بالسفريات الخارجية شبيه بجدول حصص لطالب في مدرسة ، اما اهمية تلك الرحلات فلا احد يسأل لدرجة ان بعض الوزراء يذهب الى آخر الدنيا لحضور ندوة او ورشة عمل او سمنار لا يفيد البلد بشيء عدا الفائدة التي يجنيها الوزير المحترم من بدل سفر وخلافه . ان المرأ ليحتار من جرأة مثل هؤلاء المدعين وكيف يستطيعون الكذب وخداع الناس وبلا حياء او خجل لمجرد انهم تحصلوا على منصب وفتحت امامهم بوابة القدر ، هؤلاء هم من ضحكوا على الشباب النقي ، صعدوا على اكتافهم واتفقوا على وأد ثورتهم والقضاء على آمالهم وطموحاتهم حال وصولهم الى كراسي السلطة، ليعيدوا الوضع الى اسوأ مما كان عليه. كل ما جنيناه من الثورة هو ما رأيناه ونلامسه ( بشكل يومي ) من استشراء وتمدد الفساد وفوضى شاملة وانفلات امني لم يسبق له مثيل وتكاثر بؤر التوتر واتساع رقعة الصراعات والحروب لتشمل كل الأراضي اليمنية . ومن انجازات الثورة ايضا هو حكومة المحاصصة الحزبية التي اختلط فيها الحابل بالنابل انضوت فيها كل المتضادات اليسار واليمين والتقدمي والرجعي، حكومة يختلف شخوصها في كل شيء ويتفقون على قضية واحدة هي العمل على البقاء في كراسيهم واغتنام الفرصة في تحسين مدخولاتهم وجني ثمار كفاحهم الشاق والطويل . اليوم نحن نعيش اجواء ثورة مضادة جديدة اذ استغلت قوى سياسية اخفاق وفشل حكومة المحاصصة لتحشد الجماهير وتنصب الخيام في الشوارع الرئيسية مطلقة شعاراتها الثلاثة اسقاط (الجرعة والحكومة وتنفيذ مخرجات الحوار)،وفي المقابل يحشد الطرف الآخر جماهيره رافعا شعارات ضدية تتحدث عن الاصطفاف وحماية الثوابت .. وهكذا.. لم يدرك قادة الأحزاب والقوى السياسية والنافذين ان الشعب اليمني ضاق ذرعا بهم وبغبائهم واستخفافهم به وضاق ايضا بحكومتهم الفاشلة التي استمرأت الضحك عليه وعدم اعارته أي اهتمام رغم نصائح العقلاء وتقارير الخبراء وكتابات الصحفيين والمثقفين التي تحذر وتنبه من فساد وفشل هذه الحكومة وما ستؤول اليه الاوضاع جراء كل هذا العبث والسفه في انفاق واهدار المال العام ومع ذلك ادار الجميع ظهورهم لكل تلك التحذيرات والنصائح ،ودون ادنى احساس بمسؤولية اخلاقية او انسانية او دينية لم تجد أنات المظلومين وصرخات المقهورين واستغاثات الفقراء والمحرومين من ابناء الشعب أي صدى لدى هؤلاء ، معتقدين انهم يمتلكون شرعية البقاء في كراسيهم بموجب المبادرة الخليجية ، لذا فقد ظلوا طوال الفترة السابقة في حالة سباق مع الزمن يستغلون كل دقيقة وكل ثانية في ترتيب أوضاعهم وتحقيق مصالحهم ومصالح أحزابهم وكأن الخزينة العامة مجرد فيد او غنيمة حصلوا عليها بعد طول انتظار الى ان افرغوها واوصلوا البلد الى شفا الانهيار الاقتصادي الشامل ،ومن ثم كانت الجرعة – الضرورة - كحل قاسي وموجع كان لا بد منها... ونعتقد انها مازالت الدواء الناجع للحيلولة دون وقوع الكارثة وتجنب المزيد من الانهيار رغم ما ستلحقه من مرارات سيتجرعها الفقراء والمعدمين. كما ذكرت انفاً نحن نعيش ثورة مستمرة .. وفي اعتقادي ان ما نشهده اليوم ليس الا دليل على ان تناسل الثورات في بلا دنا سيظل مستمرا الى ما شاء الله.