الطريق التي تصل شارع الستين بحده بواسطة ما سمي بجسر عطان، هي الطريق التي أقطعها ذهاباً وإياباً لمدة خمسة أيام في الأسبوع، أعتدت أن ألتزم الناحية اليمنى من الطريق وأنا في طريقي إلى حده بعد أن انحرف يميناً من شارع الستين حيث تموجات الطريق بين الصعود والهبوط ولأنها كذلك فإن سائقي السيارات قد اتخذوا من الناحية اليسرى مساراً لهم. إلا من كان مثلي ممن اعتادوا التريث في السرعة باعتبار أن في العجلة الندامة. وفي أحد الأيام سمعت من يصرخ (الوبلي). نظرت إلى يميني فوجدته عجوزا، لم اعره في بداية الأمر انتباهي إلا أني سمعته للمرة الثانية يصرخ (الوبلي) فما كان مني إلا أن أوقفت سيارتي ونزلت: - السلام عليكم يا والدي..نظر إليّ..من فوق إلى تحت وقال (متجهماً): - وعليك السلام وعلى (الوبلي) لعنة الله. - ما هو (الوبلي) وما قصته؟ - ألم تعرف وتشاهد (الوبل) في حياتك. - أعرف (الوبل) الذي يشبه الحشائش الخضراء التي تزرع في الحدائق وملاعب كرة القدم. نظر إلي (متهجماً) وقال: - أنت من اليمن أو من أين أنت؟. - طبعاً من اليمن. - إذن (الوبل) هو الوبل و(الوبلي) الواحد من الوبل. - وأنت من أين؟. نظر إليّ هذه المرة وهو أكثر (تجهماً) وقال: - أو أيش أنا لابس لا ما تسألني هذا السؤال. - أقصد من أين أنت من اليمن؟. نظر إليّ- هذه المرة- نظره حادة، ثم مد يده، وكاد أن يمسك بطرف معطفي وقال: - أنا من اليمن وهذا يكفي..نظرت إليه (مبتسماً) وقلت: - سامحني على سؤالي وقل لي..ما هي قصة (الوبلي)؟ - أحكي لك قصة (الوبلي) هنا؟ - وما المانع؟ - المانع بأن قصة (الوبلي) طويلة ولا يمكن حكايتها هنا. - تعال وأركب معي السيارة واحكيها. - إذا كنت تريد، فلابد من تخزينه. - اليوم ثلاثاء وأنا لا أخزن إلا يوم الخميس. - أفهم ما قلت لك..وسوق القات قريب من هنا. فهمت ما قاله، أخذته إلى سوق القات..وما أن انتهينا من شراءه..حتى قال: - والمخبازه على الطريق. - سنتغدي في البيت. - ما بلا بالمخبازه. كان له ما أراد، اشتقت كثيراً لأسمع حكاية (الوبلي)..أستقر بنا المقام في المقيل، وجاءت لحظة السليمانيه..قال : - اسمع حكاية (الوبلي)..صمت لثواني، أرتشف قليلاً من الماء..نظر إليّ، وعلى وجهه علامة الحسرة، والألم ثم قال: - آه..آه من الوبل..وبلي.وبلي..النبات الخبيث الذي يأكل الزرع..الذره..البر..الدجره..كل شيء..كل شيء..سكت للحظات، ثم قال: - أيش أقل لك..أيش أحكي لك عن الوبل..وبلي..وبلي..شقاء وتعب طول السنة في الجربه ( الحقل ) من أجل القضاء على الوبل..وبلي..وبلي..وما أن ننتهي من الجربه..حتى يكون قد عاد..ولا نستطيع الخلاص من الوبل إلا إذا لحقنا بعد الوبل..وبلي..وبلي حتى نصل إلى جذوره ونقلعه وبعدها نرتاح من الوبل..سكت للحظات، ثم أطلق تنهيده (خفيفة) وقال: - أتخيل كم هو المجهود الذي نبذله للخلاص من الوبل..وبلي..وبلي..ولكننا وبعون من الله نخلص منه في النهاية..وبدون ذلك فان محصولنا سيكون مشوه وناقص النصف..سكت للحظات لارتشاف الماء والتقاط بعض أوراق القات..أطلق ضحكة طويلة جاريته فيها بحكم العدوى، ثم قال: - ومشكلة الطريق عندنا (الوبلي)..(وبلي الطريق)..سكت للحظات لارتشاف الماء والتقاط أوراق القات..رفع رأٍسه، نظر إليّ (مفكراً)..ثم أطلق (ضحكة طويلة) أخرى، وقال: - ووبلي طرق المدينة يختلف عن وبلي الطرق الريفيه..وبلي المدينة لا يظهر إلا بعد الانتهاء من سفلتت الطريق..حفر هنا وهناك..تموجات هنا وهناك..وبعدها ترقيع..رقع لك رقع..وبعدها مثل (ثوبي) المرقع..نهض ودار حول نفسه. جلس وهو يلهث..أارتشف قليلا من الماء..تناول بعض أوراق القات..بادرته أنا في هذه المرة بالقول: - أحمد الله فقبل ثلاثين، أو أربعين سنه لم تكن هناك طرق مسفلته أو حتى مشقوقة شق. نظر إليّ نظرات لا تخلو من (العجب)، وقال: - من غير منّ، ولو بتصرفوا من جيوبكم..وبعدا ما قلت شيء..بس يبعدوا أول شي الوبلي من عروقه وبعدها ينفذو ا لنا طرق ولأولادنا من بعدنا..والفلوس هي الفلوس وبنصف الفلوس بدون (الوبلي). - ما دراك وأنت إلا رعوي يرحم الله بثوب مرقع. مد يده ناحيتي، وقال: - قدوه يدري ذي ما يدري..يقوم هاماً بالانصراف..قلت: - لم تحكي لي بعد عن (وبلي) الطرق الريفيه. - لن أحكي لك بعد ما سمعته منك..قبلت رأسه، وقلت: - العفو..العفو. - ما بش عفو..أخطئت في حقي ولابد منه. - ما هو؟ - الهجر..تهجرني. - وبماذا أهجرك؟ - لن أقول تذبح طلي..ولكني سأكتفي بغداء وتخزينت غدوه.. - أجلس..فأنا موافق..جلس، وقد بدت على وجهه علامات الفرح..وقال: - أما (وبلي) الطرق الريفية..فحكايته حكايه..فما أن يدقوا دقتين أو مثل ما نقل (بقصه وبقصتين)، إلا ويظهر لهم وبلي..فيقوموا ينتقلوا إلى طريق ثانيه، وثالثه، وهكذا يا صاحبي فأنك تجدهم في كل محافظة يدقدقوا أو مثل ما نقل (يبقصوا)..والطريق التي يمكن أن تنفذ في سنه أو سنه ونصف لا تنفذ إلا بعد عشر أو خمسة عشر سنه أو لا تنفذ..وإلا ما عيقع بهم لو قلعوا الوبلي قبل ما ينفذوا..عاد للسكوت..أرتشف ماءً..أطرق لالتقاط وريقات القات..دسها في حنكه، وفجأة، أطلق (ضحكة ) مدوية، ثم قال: - ذكرت..عندما ينتهوا أحياناً من شق طريق وفرشها بالكرى حتى يظهر لهم (الوبلي) فيتركوها..يأتي المطر فيجرف السيل ما عملوه..نظر إليّ (ملياً)، ثم قال: - وإذا سهل الله لهم، وسفلتوا أثنين أو ثلاثة كيلومتر بعد سنه أو سنتين من الدق أو مثل ما نقل (البقص) يظهر (وبلي) المدينة..وهنا فلم أعد أسمعه، سرحت وأنا أنظر إليه بتعجب واستغراب وأتساءل: كيف أستطاع هذا العجوز والذي لن يقل عمره عن السبعين..الذي لم يتعلم قط أن يلخص المشكلة (بال وبلي)؟..ثم ماذا يعني (وبلي) الطريق؟..كأنه قد أدرك بأني لم أعد أسمعه..قال: - الظاهر بنك قد شبعت من حكاية (الوبلي)..فهل سيكون الهجر نقداً، أو عنلتقي غداً، ونتغدى ونخزن جمعه؟..أدخلت يدي إلى جيبي..ناولته، وأنا أقول: - خذ هجرك نقداً فإني لن أخزن القات غداً. - وهل تساوي حكاية (الوبلي) ما دفعته ؟ - نعم..نعم..تساوي..نهض من مكانه بعد أن وضع ما تبقى له من قات داخل الكيس..وقف على عتبة باب نظر إلّي..وقال: - أقلعوا الوبلي من عروقه وكل شي عيسبر..خرج، وهو يتمتم: - وبلي نفطوا..وبلي غازوا..وبلي طفي..وبلي.. *مختارة من مجموعتي القصصية ( حديث كل يوم ) صدرت عن مركز عبادي عام 2011م، وتاريخ كتابتها 2007م.