من يتابع وبعين الفاحص المدقق لمجريات ثورات الربيع العربي وعوامل نشأتها التاريخية سيلحظ قضية هامة لا يمكن تجاهلها على الاطلاق والمتمثلة بالديمقراطية كضرورة ملحة تتصدر اهداف ثورات الربيع العربي على اعتبار انها تمثل الوريث الشرعي الوحيد لمحنة الديكتاتورية وثقافة الاستبداد التي مورست لسنين في ظل انظمة جمهورية جاءت كنتيجة طبيعية لثورات سابقة في منتصف القرن العشرين تمكنت حينها من قلب الوعي الجمعي للمجتمعات العربية من عقلية تسلم بمسالة الدكتاتورية وثقافة الاستبداد على حد سواء الى مجتمعات تؤمن بأن الشعب هو صاحب السلطة ومصدرها وفقا لأطر جمهورية كان يفترض بها ان تكون ديمقراطية . ومن هنا يمكننا القول بأن الديمقراطية ليست شكلا من اشكال العمل السياسي يمكن استنساخه ولكنها انتاج حضاري يخضع لمسار تاريخي من العمل والممارسات الانسانية الشاملة وفقا لعملية تراكمية خالصة فتصبح الممارسة الديمقراطية جزء من ثقافة الدولة والمجتمع في آن, ذلك اذا ادركنا ان الدولة ليست اكثر من انعكاس للمجتمع بكل مستوياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية السائدة. وبناءً على هذه الرؤية يمكننا القول بأن الديمقراطية في جوهر نظريتها وممارستها سلوك ثقافي يجب التمهيد له من ادنى المستويات الاجتماعية في البيت والاسرة والمدرسة إلى اعلى المستويات الاجتماعية الجامعة وبيئة العمل والمنظمة او الحزب وباقي اشكال التنظيمات الاجتماعية جميعها تعتبر مدارس اولية للممارسة الديمقراطية ان تم استغلالها الاستغلال الامثل وذلك بنبذ كل السلوكيات الاستبدادية التي تمارس من قبل الاب في محيط اسرته والمدرس في محيط مدرسته والسياسي في محيط بيئته السياسية, عندها يمكننا القول باننا بدأنا السير في طريق هو الاوحد نحو انتاج ثقافة ديمقراطية حقيقية تتجلى في اروع صورها على المستوى السياسي كنوع من التكريم لمجتمعات تحسن الاختيار وتتحمل مسؤولياته وهنا يجب الاشارة الى خشيتي من ان يفهم هذا الطرح عن عملية الصعود نحو الديمقراطية بانها محاولة للتشكيك بجدوى تطبيق مجتمعاتنا العربية لممارسة ديمقراطية حقيقية على اعتبار انها مجتمعات تعاني ارث سلطوي استبدادي يعود مرجعة للطبيعة العشائرية والقبلية التي تتركب منها هذه المجتمعات لكن وعلى العكس من ذلك فإنا هنا اشدد على ان الديمقراطية ليست مطلب, ولكنها قضية العصر التي يجب ان نناضل في سبيل تحقيقها وإلا فما جدوى دماء الشباب التي سالت لأجل تطبيق مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة التي لن تتحقق في ظل غياب تام للديمقراطية التي هي في الأساس الية لتطبيق الحرية. ومن هنات يمكننا التأكيد بأن مختلف القوى السياسية لم تدرك ذلك جليا باستثناء شذرات هي بمثابة جزر في محيط واسع كان أهمها ما قام به التنظيم الوحدوي الناصري والحزب الاشتراكي اليمني في مؤتمريهما الأخيرين على المستوى المحلي, والتجربة الديمقراطية التونسية التي لا تزال في طور الاكتمال والتي عكست نُضج في العمل السياسي التونسي على مستوى الدولة والمجتمع في آن وبالتالي وقعت العملية الديمقراطية في هفوات عدة منها على سبيل المثال لا الحصر الحالة المصرية اليوم والتي هي نتاج لعدة عوامل اوصلتنا الى هذا المستوى من التراجع واهمها الاخطاء التي مارسها الاخوان ابان تسلمهم لمقاليد السلطة, فقد سمعنا الرئيس المعزول محمد مرسي في اول خطاب له وهو يتحدث بلهجة من ينال من تاريخه وحاضرة "الستينيات وما ادراك ما الستينيات" بحسب تعبيره مشيرا الى فترة الرئيس ناصر وما تضمنته من خلاف مع الاخوان حينها, خطاب كهذا احدث صدمة في اوساط الشارع المصري الذي يشعر باعتزاز شديد بحقبة تاريخية كتلك. فلو نظرنا الى الضفة الاخرى من البحر المتوسط "تركيا “حيث يحكم حزب اسلامي الايديولوجيا والتوجه سنجد بأن زعيم قومي ككمال اتاتورك مؤسس الدولة التركية يحظى بتقدير كبير في اوساط الشارع التركي لدرجة ان صوره هي المرفوعة في كل مؤسسات الدولة التركية على الرغم من التباينات الايديولوجية بين من يحكم اليوم ومن حكم في الماضي. ايضا وبالرجوع مجددا للأخطاء التي مورست من قبل الاخوان وعدم ايمانهم بالشراكة مع باقي القوى الثورية من الناحية النظرية على الاقل وليس على المستوى السياسي عمليا ًفهو استحقاق انتخابي صرف لا يمكن تجاوزه ولكن بحدود لا تهدم بنية الدولة لصالح قوة معينة وإن كانت شرعية الوجود تمنحها حق القيادة فالعدل لا يمنحها أحقية التفرد. فكان هناك اعلان دستوري مُجحف مس سيادة القضاء واستقلاليته رغم أداءه المتزن حينها والغير منطقي حاليا, أيضا رأينا دستور غير توافقي يمثل كافة اطياف الشارع المصري ,وكل هذه الاختلالات كانت نتاج لخطأ سابق وهو الدخول في العملية الانتخابية على المستويين البرلماني والرئاسي قبل صياغة دستور يجمع عليه باقي اطراف اللعبة الديمقراطية, هي بالمثل كانت نتاج للثقة العمياء التي حملها الاخوان معهم الى كل قصور الدولة المصرية معتقدين انهم اصحاب الفعل الحقيقي في العملية الثورية والسياسية وهو الامر الذي دفعهم الى استنساخ شكل اخر للمعارضة _تيار ابو الفتوح مصر القوية _مستكثرين على الاخر حتى وقوفه في صف المعارضين, بمعنى اخر المسك بزمام اللعبة على كافة المستويات سلطة ومعارضة فكانت النتيجة ضمور في العملية الديمقراطية ككل. [email protected]