في مقالة سابقة وفي هذه الصفحة كتبت عن دور المثقف الريادي في تثبيت دعائم الأمن والاستقرار, ونبذ مظاهر الحقد, خاصة ونحن نعيش ظروفاً صعبة جعلت كل مواطن يضع يده على قلبه خوفا من المجهول بسبب تداعيات الأحداث الراهنة . فالدور المطلوب منه هو تقريب وجهات النظر , وحشد كل الجهود لبناء الدولة لتكون مظلة العدل والحماية لكل مواطن , وتحفيز المجتمع للبناء والتنمية , واكتساب العلم , والقضاء على كل مظاهر التخلف . وفي هذه المقالة اضطر للعودة لتناول هذا الموضوع من زاوية نبذ التعصب والحقد , وخطورة انزلاق المثقف إلى هذه الدائرة الجهنمية , وانعكاساتها المدمرة على الوطن وعلى المثقف نفسه لأنه الخاسر الكبير , فحرية الرأي وانتقاد المظاهر والسلوكيات المضرة بالمجتمع لا تتم إلا في جو ومناخ من حرية التعبير . وقد زدت يقينا على ضرورة أن يكون المثقف بعيدا عن فلك السياسيين وغيرهم من المهووسين بالتعصب , فقبل أيام كنت في حفل زفاف صديق في إحدى الصالات وكنت أتابع المشهد المتناثر للحاضرين , في منظر يجمع بين تلوث المكان بالهواء المشبع بدخان السجائر , ومخلفات أوراق وعيدان القات وعلب المياه والمشروبات المكدسة بين أقدامهم . وقبل أن يبدأ فنان القاعة بتقديم أغنيته الثانية , شدني ضجيج وصياح في زاوية من القاعة , كان يلتم فيها عدد من الشباب , وفجأة شاهدت شخصين يتراشقان بعلب المياه , واندفع مجموعة من القريبين منهم لفض النزاع , وتبين أنه تصعيد لخلاف في وجهات النظر حول قضايا سياسية , وعلق أحد الحضور: هؤلاء من المحسوبين على شريحة المثقفين , فكيف الحال بالناس العاديين الحاملين للسلاح ؟ فحاولت الدفاع عن ما نسميهم بالمثقفين : فقلت له لايزال الأمر مقبولا أن تصل ذروة التصعيد إلى التراشق بعلب المياه , أهون من اللجوء للسلاح ؟ هذا نموذج لعصبية وتعصب بعض المثقفين , كنت أتمنى أن تكون نقاشاتهم على ظواهر اجتماعية , كانت أمام أعينهم في تلك اللحظة , كظاهرة تعاطي القات بين صفوف الشباب وحتى الصغار, وكيف يمكن التصدي لهذه المشكلة المرعبة , وارتباطها بأزمة المياه الخانقة التي تعيشها صنعاء وكل المحافظات اليمنية , وما يمكن عمله لمواجهة هذه المعضلة , وغيرها من الهموم التي يعاني منها الشعب اليمني , بالكلمة الصادقة الموجهة للمجتمع , وللقيادات والجماعات والأطراف السياسية , بما في ذلك الطرف السياسي الذي ينتمي إليه المثقف نفسه . ففي هذه المرحلة الفارقة في حياة الشعب اليمني الذي يعيش على أعصابه , لا نلمس أي مواطن مهما كان تعاطفه أو وقوفه مع هذا الفريق أو ذاك يرى أن الغد واضح المعالم أمامه , أو سعيد بالواقع الذي يعيش فيه في هذا الوقت . هل يعقل أن يتورط المثقف بأن يكون عامل هدم للأسس المطلوبة في بناء الدولة والمجتمع , في حين يشاهد أمام عينيه ما يتعرض له الوطن من إقلاق وتوتر , ونزيف دماء أبنائه في أكثر من مكان , أليس هذا حرام ؟؟ , فهل يرضى المثقف أن يكون سطحيا ومغيبا من طرح المعالجات الحقيقية لمواجهة هذه الأعمال الخطيرة . فالمثقف هو شعلة النور الذي يفترض أن تنير مسيرة النهوض الحضاري , وهذا الدور يقوم به مثقف ,متحرر من كل القيود العصبوية , شجاع في طرح رؤيته , أولا على مجموعته أو الطرف السياسي الذي ينتمي إليه , لما فيه المصلحة العليا للوطن , وليس المصلحة العليا للحزب أو الجماعة , فالنقد الذاتي في هذه المرحلة هو مطلوب . وأستطيع القول إنه ليس هناك طرف يدعي الحكمة والنزاهة, فالكل يعيش في نرجسية تتضايق من أي نقد, وهذا ما جعل الابتعاد عن تطبيق ما يتفق عليه , حيث تطغى المصالح الخاصة على مصلحة الوطن, وهنا خطورة السكوت أو التغاضي عن ذلك في إطار النقد الداخلي . إن المسؤولية كبيرة على المثقف في هذا الظرف, فالوضع ليس بالطبيعي , حتى ينحاز ويدافع باستماته وبلغة العنف والقوة على مواقف الطرف الذي اصطف إليه, فالوقت يستدعي البحث والتواصل إلى قناعات مشتركة تسهم في حل مشاكل البلاد المستعصية , وبصورة أساسية ما يتعلق بالأمن والاستقرار وحشد كل الجهود لتدعيم مقومات الدولة التي هي المظلة الأساسية التي نحتاج اليها جميعا . "الثورة"