وزارة الخارجية تبارك اتفاق تبادل الأسرى مع السعودية والأطراف الأخرى    لقاء علمائي بتعز استقبالا لجمعة رجب وتنديدًا بالإساءة للمصحف الشريف    صلاح يصبح أول مصري يسجل في 5 نسخ لأمم أفريقيا    أسعار الذهب تلامس 4500 دولار متأثرة بالتوتر بين كراكاس وواشنطن    الصحفي والاكاديمي القدير الدكتور وديع العزعزي    قبائل من المهرة ويافع وشبوة تنضم إلى ساحة الاعتصام الشعبي المفتوح بمدينة الغيضة    العليمي:لن نقبل بفرض أمر واقع بالقوة ولن نسمح بانزلاق البلاد إلى صدام داخلي جديد    مسيرة ووقفة في صالة بتعز تنديداً بجريمة الإساءة للقرآن الكريم    خطوة إنسانية تخفف المعاناة.. السعودية ترحب باتفاق تبادل الأسرى والمحتجزين    1.6 مليون فلسطيني يواجهون المجاعة في غزة ووفاة 1200 مريض بسبب الحصار    تنفيذية انتقالي لحج تشيد بالحشود الجماهيرية لأبناء المحافظة إلى ساحة الاعتصام بعدن    انعقاد اللقاء الأسبوعي الخامس بين الحكومة والقطاع الخاص    الرئيس الزُبيدي يشدد على أهمية الصيانة الدورية لشبكة الطرق    لقاء موسع للعلماء بالعاصمة صنعاء انتصارًا للقرآن الكريم    الفواكه المجففة تمنح الطاقة والدفء في الشتاء    الرئيس:لن نقبل بتحويل الشراكة إلى تمرد وعلى الجميع منع انزلاق البلاد نحو صدام داخلي    تكريم الفائزات ببطولة الرماية المفتوحة في صنعاء    هيئة الآثار: نقوش سبأ القديمة تتعرض للاقتلاع والتهريب    قيادات يمنية تهدد بالتحالف مع الحوثي ضد الجنوب.. صمت بن بريك والزنداني    تهديد بالتحالف مع الحوثي.. حين تنكشف عقيدة الشرعية وتُسقط آخر أقنعتها    النازحون.. عامٌ من القطيعة    مستشار الرئيس الاماراتي : حق تقرير المصير في الجنوب إرادة أهله وليس الإمارات    الرئيس الزُبيدي يشدد على أهمية تطوير البنى التحتية لمطار عدن الدولي    فعاليات ثقافية بمديريات محافظة صنعاء احتفاءً بجمعة رجب وتأكيداً على الهوية الإيمانية    جامع الشعب.. تدشين أنشطة جمعة رجب وفعاليات الهوية الإيمانية بحضور علمائي ونخبوي واسع    البنك المركزي يوقف تراخيص عدد من شركات الصرافة المخالفة ويغلق مقراتها    اتلاف 20 طنا بضائع منتهية الصلاحية في البيضاء    سفراء بريطانيا فرنسا ألمانيا هولندا والاتحاد الأوروبي يؤكدون التزامهم بوحدة اليمن وسيادته وسلامة أراضيه    فقيد الوطن و الساحه الفنية الشاعر سالم أحمد بامطرف    برنامج الأغذية العالمي يعلن استمرار تعليق أنشطته في مناطق سيطرة سلطات صنعاء    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    نابولي بطلا للسوبر الإيطالي على حساب بولونيا    صلاح ومرموش يقودان منتخب مصر لإحباط مفاجأة زيمبابوي    رئيس مجلس الشورى يعزّي في وفاة القاضي محمد عبدالله عبدالمغني    مخيم طبي مجاني لإزالة المياه البيضاء وزراعة العدسات بالحديدة    فنان تشكيلي يتلقى إشعاراً بإخلاء مسكنه في صنعاء ويعرض لوحاته للبيع    أبين.. إصابة 3 جنود من الحزام الأمني جراء هجوم بطائرة مسيّرة    الخارجية الروسية: روسيا تؤكد تضامنها مع فنزويلا على خلفية التصعيد في البحر الكاريبي    الصحفي والناشط الحقوقي نشوان النظاري    تواصل منافسات بطولة الرماية المفتوحة للسيدات والناشئات    رئيس انتقالي لحج "الحالمي" يعزّي في وفاة الشيخ حسين جابر بن شعيلة    هيئة المواصفات تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    رشيد تعز يفوز على تضامن شبوة في دوري الدرجة الثانية    تحذيرات طبية من خطورة تجمعات مياه المجاري في عدد من الأحياء بمدينة إب    وقفة طلابية تندد باغتيال الاستاذ الشراعي بالتفجير الذي استهدف مقر الإصلاح بتعز    الإصلاح بحجة ينعى الشيخ مبخوت السعيدي ويذكّر بمواقفه الوطنية وتصديه للمشروع الحوثي    فيفا: السعودية معقل كرة القدم الجديد    الذهب يتجاوز 4400 دولار للأونصة والفضة عند مستوى تاريخي    اغتيال جنرال في الجيش الروسي في موسكو    الأرصاد يتوقع أجواء شديدة البرودة وتشكّل الصقيع    خلال مراسم تشييع جثمان الصحفي الأميري.. المشيعون: الإعلام اليمني فقد أحد الأقلام الحرة التي حملت هموم الوطن    مرض الفشل الكلوي (33)    الدوري الاسباني: برشلونة يهزم فياريال ويؤكد انفراده بالصدارة    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    تحرير حضرموت: اللطمة التي أفقدت قوى الاحتلال صوابها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرة بطل (3,4)
نشر في التغيير يوم 27 - 12 - 2015

نعم سقطت الدموع عنوة من عيني الزعيم جمال عبدالناصر عند تلقيه نبأ اغتيال الشاب الثائر علي عبدالمغني قائد ثورة سبتمبر، أما بخصوص راية الثورة فإنها لم تسقط باغتيال قائدها، فقد تبين أن فدائيا بديلا قد هرع من فوره، وجاء دون تكليف إلا من ضميره الوطني، ومن استيعابه الفذ للمعطيات وحسن تقديره للأمور، وقد كان ظهور بطلنا الصغير من سوء حظ خصوم الثورة ومناوئي المد القومي التحرري الذي كانت ذبذباته تبث من قصر عابدين بالقاهرة، ويتلقفها برج في إحدى البيوت الشعبية في تعز، برج عال من صناعة يمنية اسمه عيسى محمد سيف ...
لقد أقام عيسى في منزل شعبي، مبني من الطين، في حارة وادي المدام، وهي إحدى أقدم حواري تعز، وقد كان المناضل درهم القدسي يدفع إيجاره، وبالنسبة لمعدم مثل عيسى كان محظوظا أن يجد مكانا يأؤي إليه، وملجأ يمنحه الظل والدفء، لكن عيسى كان يفكر بشكل آخر، وبطريقة أكثر إثارة للإعجاب، فقد كان ممتنا للرجل ﻷنه منحه مقرا لممارسة نشاطه السياسي، وفعلا فقد أصبح المنزل أولى المقرات التي ضمت اجتماعات الطلائع الناصرية في اليمن...
وكان قد تبين عند محاولته الالتحاق بمدرسة الثورة في تعز -مكتب التربية والتعليم حاليا- أنه متقدم في مستواه على أعلى مرحلة دراسية بدأت بالتزامن مع ثورة سبتمبر في الشمال، وكان عليه أن ينتظر قدوم العام الدراسي التالي لاكمال دراسته في المرحلة الثانوية، وهذه حالة أخرى من أعاجيب هذا المقاتل العنيد، فقد كان متأخرا في تعليمه قبل سنوات فقط، وقد أوضح لي الأخ DrQueed Altharib-مشكورا- أن عيسى استغل -في آخر سنواته في عدن- تحول عمله من بائع للماء في الأرصفة إلى عامل في مكتبة أيما استغلال، وصار مثقفا رائعا، وخطيبا بارعا، ويتحدث الفصحى بطلاقة، وكأنه "إياس" عصره، وهذا تؤكده جميع المصادر المتوفرة...
أطلق عيسى لمواهبه وقواه الخارقتين العنان، ومن خلال الأطر التي بناها طوبة طوبة -بالوعي والانتماء الناصري- ليواجه بعزيمة الأبطال كل محاولات النيل من الثورة اليمنية الفتية، واستبسل في مساندة جهود القائد المعلم جمال عبدالناصر في دعم للثورة اليمنية، وأدواره القومية العملاقة، وقد كان -حينها- أبناء عبدالناصر من الجيش المصري يقتلوا نيابة عنا اليمنيين، ويستشهدوا دفاعا عن حقنا بحياة كريمة، ويتقاسموا الموت برصاص القبائل الموالية للملكية، أو بقذائف الطائرات القادمة من المطارات السعودية والاردنية، في عملية استنزاف كلفت مصر عبدالناصر الكثير من التضحيات...
أما عن تأسيس التنظيم فقد كان بجهود ذاتية، وبدعم شخصي من المناضل/عبد الغني مطهر حين كان محافظا لتعز، وتضحيات المناضل/ عبده نعمان عطا، والأخير كان يبيع عقاراته لدعم بها التنظيم، دون أن يكون للمصريين أي دور في إنشاء التنظيم، وبالرغم من ذلك اطلقت الاتهامات بحق الناصريين بأنهم يتبعون المخابرات المصرية، وكانت جهود القائد الناصري عيسى المعطاءة ما جعل الحركة الناصرية تنتقل بسرعة فائقة من عمل طلابي محدود إلى عمل طلابي واسع، ثم إلى تيار شعبي كبير في تلك الفترة من النصف الثاني من الستينات إلى15 اكتوبر 78م، دون أن تأخذ فترة الانتشار أكثر من ثلاث سنوات أو أقل....
وقد كان لعيسى علاقة نضالية متينة تربطه بالقائد الشهيد عبدالله المجعلي، والأخير هو أحد مؤسسي الجبهة القومية في جنوب الوطن، والتي افترق عنها لاختيارها الماركسية مسارا لها، وقد عمل المجعلي ورفاقه على تأسيس جبهة تحرير الجنوب، وكونه المسئول العسكري فيها، فإنه قام بتأسيس وتدريب جيش التحرير، بالتنسيق والدعم من القيادة العربية، وكذلك تأسيسه للتنظيم الشعبي للقوى الثورية لتحرير الجنوب، “الذي كان شكليا يتبع جبهة التحرير، لكنه عمليا «كانت له سياساته واستراتيجياته وقيادته الخاصة »، ومن الفرق التابعة له فرقة صلاح الدين، التي كان يقودها المناضل الناصري “عبدالرحمن الصريمي” وفرقة الوحدة التي كان يقودها المناضل الناصري علي بن علي هادي وغيرها من الفرق الفدائية كفرقة النصر وفرقة سند وفرقة المجد وفرقة الفتح وبقية الفرق الأخرى، وكان لعيسى بصماته البارزة في أدبيات -التنظيم الشعبي للقوى الثورية لتحرير الجنوب- سواء من نشرات وخطب أو خطط وخلافه...
لقد كان عيسى محمد سيف كما يصفه محبوه بضمير الحركة الطلابية الشبابية العربية وصوت الوعي والعقل فيها، «،فحين أكمل» الثانوية العامة ضمن أول دفعة تتخرج من مدارس الثورة، سافر إلى القاهرة في أوائل العام 67م لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وبعد وصوله بأشهر كانت النكسة التي حلت بالأمة العربية في الخامس من يونيو (حزيران) فإذا به يضع نفسه في مقدمة الشباب العربي الراغب بالانضمام إلى أي جبهة عربية، وبالفعل تمكن من الانضمام إلى أحد المعسكرات، وسافر إلى الجبهة الشرقية في الأردن، وهناك وسط أشقائه المقاتلين أمضى عدة أشهر ثم عاد لمواصلة دراسته بالقاهرة“....
لكم تتملكني الدهشة لأمر بائع الماء الفقير، الطفل الذي سبقه أقرانه تعليما، الفتى الذي لم يتم عقده الثاني بعد، المعدم الذي يعيش على هامش الحياة، أنى له أن يصبح فجأة -ودون مقدمات- في صلب الحدث ومتنه، بل غدا صانع للأحداث، سريع المبادرة وكأنه مطلع على الغيبيات سلفا، فهل حدث ذلك بمحض الصدفة، أم أنه يفعل ما يعرف بتخاطر الأرواح، أم هو الالهام، أو أنه أوتي الحكمة باختيار الهي، فمن تكون أيها الثائر الصغير حتى تكون أحد أصغر الحكماء في التاريخ؟! من تكون بحق السماء؟!!!
ذلك المستودع الزاخر بمخزون رهيب من الأسرار وآيات الإعجاز، والمسمى بالروح البشرية، قد يرحل أغلب سكان الكوكب دون أن ينتبهوا إليه، مع أن حياتهم الأرضية كانت تستمد بقاءها منها، لولا وجود ثلة من عظماء ارتقوا بارواحهم لمصاف رفيع، فبلغوا منزلة لا يطويهم فيها الموت، ولا يغيبهم الرحيل، فتظل أرواحهم تحوم حولنا كملاك حارس، وإني لأحس بروح عيسى حاضرة هنا الآن، عيسى القائد الشهيد الذي استحق الخلود بجدارة...

سيرة بطل-4-
لم تكن الحجة جوهرة وزوجها محمد سيف يعلما أن التاريخ سيلومهما لأنهما لم يدونا لولادة طفلهما عيسى، فلم يدر بخلد ذينك الأبوين الفقيرين الأميين غير أن ولدهما سيعيش حياة لا تختلف عما يعيشانه، وقد يرجحا أنه بعد عمر من الصراع مع الفقر والمعاناة الذي كان سمة مرحلة ما قبل الثورة اليمنية، فإنه سيرحل إلى حياة أخرى، ليصبح جزءا من الماضي أو في الأصح جزءا من النسيان ...
لكن ماذا لو أن الحجة جوهرة كانت تعلم أن ولدها لو جاء في عصر الإغريق لاعتزل اقليدس كتابة الفرضيات العلمية، وتحول إلى كتابة الشعر والملاحم لتخليد ذكرى ذلك البطل الخارق، ولاضطر (هوميروس) مؤلف ملحمتي (الإلياذة والأوديسا) للاعتذار لقرائه، لأنه اكتشف أن أبطال ملحمتيه الخالدتين -آلهة الاغريق-، لا تضارع الثائر الصغير عيسى، الذي يتفوق على آلهتهم -تلك التي في جبال الألب- مجتمعة، بل إنه قوته تفوق قوة جبال الألب نفسها...
لكن عيسى جاء في عصر عبدالناصر ، في عهد جمال الذي ملأ الآفاق جمالا وجلالا وبهاء، في زمن جمال عبدالناصر الذي شغل الأقلام والكتاب، ولازال، عبدالناصر الذي كتب فيه حتى الآن 24.000 كتاب، ويوشك أن يتخطى رقم نابليون بونابرت، ليصبح الشخصية الأولى في التاريخ التي كتب عنها كل ذلك العدد، وبلغات الأرض الحية كلها، نعم بلغات العالم أجمع، وعبدالناصر هو أسبق في تحطيم أساطير الأولين دون استثناء...
لازلنا نتحدث عن عيسى الطفل المولود في 1943م لأبوين فقيرين، وهو العام نفسه الذي ولد فيه القائد ابراهيم محمد الحمدي، والذي ولد تحديدا في 25 رجب 1362ه الموافق 28 يوليو 1943م، في قعطبه التي كان والده عاملا وحاكما عليها (والي وقاضي)، وأظن أن والدته تنتمي لذات المنطقة، أما بعد 12عاما من تاريخه، كان الأخير قد أصبح قاضيا مبتدئا، وقبلها بأعوام كان قد أتم حفظ القرآن الكريم، متلقيا علومه من والده ومن مدرس خاص كان يتنقل مع الاسرة طوال الوقت إضافة إلى معلمين آخرين منهم العلامة محمد الآنسي والد وزير المواصلات الأسبق، بينما كان عيسى بعد مرور تلك الأعوام لازال يتعلم الأبجدية وحروف الهجاء في عدن التي قدم إليها أخيرا من قدس، ويتلقى دروسا ليلية في أحد المعاهد، ويقضي نهاراته في بيع الماء وسط شموس عدن الحارقة...
تحدثنا عنهما، لأن بطلينا كانا بعد 20 عام أخرى على موعد مع التاريخ، في تجربة إنسانية خلاقة، ونموذج حكم أشبه بحلم جميل وطيف مسافر مر على اليمنيين، ورحل سريعا، فقد حمل كلاهما على عاتقه هم مشروع وطني عملاق، فكان ابراهيم الحمدي رئيسا، وكان عيسى رئيسه في الحزب (التنظيم الناصري)، وهو الحزب الحاكم غير المعلن عنه، ثم كان رحيلهما معا، وبرحيلهما كانت نهاية حقبة العرق وبداية حقبة الدم، وإن كان استشهادهما بفارق عام واحد، فذلك لأن عيسى -وقيادة التنظيم- قاد انتفاضة وطنية الرؤية ناصرية النقاء، في ذكرى استشهاد القائد ابراهيم الحمدي الأولى، فكانت بيضاء بلون ثلوج القطب الشمالي، ونقية نقاء السماء في صباح ربيعي صحو، وقد فشلت بسبب سلميتها، أو بسبب إصرار قائدها على تلك السلمية بالأصح، ثم انتهت باعدامه و20 بطلا آخرين....
لكن عيسى صنع في معتقله وعند محاكمته ملاحم خالدة يحسده عليها هوميروس نفسه، فقد كانت ذبذبات الأثير تنقل مرافعته الاسطورية وهو يحاكم العملاء وأذنابهم من وراء القضبان، في وضع مقلوب للمألوف، ومن هناك يعلن عن تنظيمه الذي كان سريا، ويتحمل وحده -كقائد- مسؤولية الفعل الثوري، ثم يرفض الاعتذار للحصول على العفو، ساخرا من عفو يمنحه له قاتل، ويعلن بازدراء أنه يرفض العيش يوما واحدا تحت سلطة قاتل إبراهيم الحمدي، ولو كان الثمن

إن ما ذكرناه لن يتوقف أثره عند هوميروس واقليدس، فلابد أن يحشر الناس ضحى بدعوة من فلاسفة الاغريق ومفكريهم إلى معبد أثينا -في منطقة الاكروبول الأثرية-، ليشهدوا على اقرارهم الجماعي بتبرؤهم من عبادة آلهة الاغريق، وليبلغوهم أنهم قد آمنوا برب هذا الغلام، برب عيسى محمدسيف...
أي عملاق هذا الفتى، وقد رأينا كيف أنه في أولى سنوات الثانوية (عمره 21عام) يؤسس ﻷول إتحاد طلابي في اليمن، وينتخب باﻹجماع كأول رئيس له، ثم يمضي لانشاء حركة طلابية ناصرية، ونقابات مهنية وأندية (ناصرية التوجه)، ثم تتكلل جهوده بتأسيس أول تنظيم طليعي -ناصري- في اليمن، يضم الشطرين معا، ويكون عيسى ذو 22 ضمن قيادته، وفي عامه الدراسي الأخير يساعد زميله في قيادة التنظيم القائد الجنوبي عبدالله المجعلي في نضالاته لتحرير الجنوب المحتل، والأخير كان المسؤول العسكري لجبهة التحرير -وأحد مؤسسيها في 66م-، وقد كان معسكر تدريب جيش الجبهة في أحد ضواحي مدينة تعز (الحوبان)، ثم كانت أدبيات التنظيم التابع للجبهة نظريا بالكامل -تقريبا- بقلم الفتى عيسى محمد سيف ذو 23 ربيعا، والذي تخرج بعدها من الثانوية العامة، وابتعث إلى مصر ضمن أول دفعة تتخرج من مدارس الثورة، ويصل عيسى مطار القاهرة الدولي مطلع العام 67م، وليبدأ مرحلة نضال جديدة...
لو أن هناك شخص واحد في العالم يؤمن بعبدالناصر بأكثر مما يؤمن عبدالناصر في نفسه لكان ذلك الشخص هو عيسى محمد سيف وبلا منازع، وإن لم يكن جائزا القول أنه شبيه جمال عبدالناصر لأن عبدالناصر لا يشبهه غير عبدالناصر، فإني أقول مطمئنا أن عيسى لا يشبهه إلا عبدالناصر، جمال عبدالناصر شخصيا...
لهذا كان قاسيا على عيسى أن يرى دموع قائده ومعلمه وقدوته على الهواء عند نكبة حزيران، وربما كان أقسى عليه من النكبة ذاتها، لأنه يعلم أن الحرب سجال، فتفجرت براكين الغضب في أعماقه، لتبدو ذا طبيعة بركانية مثل جبال الانديز في تشيلي التي لا تهدأ حممها، والتحق بأحد المعسكرات المصرية متطوعا للقتال، وأرسل فعلا إلى الجبهة الشرقية (الأردن)، لكنه حينما ذهب كان يحمل ثقة الأنبياء بالرب أن الأب الروحي عبدالناصر -أو بلغة الهنود ألمهاتما عبدالناصر- عصي على التطويع، ومحال أن ينكسر جمال زعيم الامة...
كان عيسى حتى في بداياته، شبيها لمعلمه، فقد بدأ المشاركة بالتظاهرات ضد الانجليز في عدن بنفس سن عبدالناصر عندما كان يتظاهر طفلا في الأسكندرية، ولأجل معلمه كان قراره الأخير أن يكون جنديا تحت إمرته، وعزم الشاب ذو ال24 على أن يحمل السلاح بالجدارة ذاتها التي يمسك بها القلم، لكن القائد جمال عبدالناصر كان في الموعد، فقد دشن حرب استنزاف طويلة أرهقت كاهل العدو، وجعلته يندم على حرب67م، لأنها لم تنجح في اجبار ناصر على الاستسلام كما خطط لها العدو، وبالرغم أن سيناء لازالت تحت قبضتهم، إلا أن أبواب الجحيم انفتحت عليهم، انفتحت على مصراعيها...
عاد عيسى إلى القاهرة بعد أشهر مطمئنا إلى سير المعركة، ويستأنف جهوده في الجامعة، ويثمر نشاطه الدؤوب عن انشاء رابطة طلاب اليمن (الموحد)، ثم رابطة الطلاب العرب، وبدأ نجم عيسى يسطع هناك، وانتشر صيته لدرجة أن من لا يعرف شيئا عن اليمن، كان يعرف كل شئ عن عيسى، وفي الحقيقة كان هذا ما يعتقده أولئك على الأقل، لأن لا أحد يعلم أنه ضمن قيادة تنظيم الطلائع الوحدوية وعن أنشطته السياسية السرية، بل أننا اليوم لا نعلم إلا القليل من أسراره الكبيرة...
ومن وحي الهام عيسى ووفقا لأدبياته انتشرت الروابط الطلابية في دول الخليج وفي أمريكا ودول أوروبية، ولو أن ما أرسل عبر البحر الأبيض إلى اوروبا من كتاباته وقعت في البحر، لأضطر العالم لتغيير اسمه، لأنه سيأخذ لونا آخر يناقض لونه الأبيض، لون لا ينتمي لالوان الطيف السبعة، أما لو أنها غرقت في مياه الأطلنطي قبل أن تصل وجهتها -مختلف الولايات الأمريكية-، لأفاق الأمريكيون على دوي هتاف أسماك الأطلسي قرب سواحلهم، وهي تحيي القومية العربية وتهتف باسم الزعيم جمال عبدالناصر...
ربما كان من حسن حظ عيسى ومن سوء حظه معا أن يأتي في عصر عبدالناصر، لأن الأخير كان له الفضل في عبقرية عيسى، لكن نجومية الزعيم الخالد الساطعة غطت على كل من حوله، فها هو هيكل في تسعينياته دون أن ينتهي منه، لكني أحسب لو أن صاحب سلسلة العبقريات -عباس العقاد- التي أرخ فيها حياة عدد من الخالدين، لو أمتد به العمر، لكان كتب سلسلة عبقريات، مجموعة كاملة ولكن في شخص واحد، شاب ثائر مقاتل اسمه عيسى، عيسى محمد سيف، أما بالنسبة للحجة جوهرة التي لم تسمع يوما عن الاغريق وحضارتهم قد رأت نهاية ولدها بأم عينها، وبقلب الأم الثكلى رحلت مكلومة قبل مضي عام على رحيله، رحيله إلى الخلود...
*البطل: الشهيد عيسى محمد سيف 1943-1978م، أمين عام الحركه الناصرية وقائد حركة 15 التوبر 78 ضد نظام علي صالح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.