إنه لمشهد مذهل: مشهد أطفال فلسطينيين، في القدسالمحتلة، وهم يعدون خلف أحد المطبعين العرب، فيسبقه أحدهم بخطوة واحدة، ثم يستدير ويواجهه، وجهاً لوجه، ويثب إلى الأعلى، ليبلغ مستوى وجهه المرتبك، ويبصق فيه، مخاطباً إياه بغضب: "يا حقير". ويتسابق أتراب ذلك الطفل الغاضبون، ليفعلوا فعله. أما الرجال، فقد اكتفوا، وهم يشاهدون ما يفعله أشبالهم، اكتفوا بمخاطبة ذلك المطبع بلهجة آمرة حادة: "إمش من هنا يا حقير". إنه مشهدٌ يملأ المرء يقيناً بأن حلم العودة وتحرير فلسطين المغتصبة لم يمت، وأن أجيالاً قادمة ستكون أكثر عزماً وحزماً وقدرة على المقاومة وإزالة الظلم الواقع على الأمة العربية، بشكل عام، وعلى الشعب العربي الفلسطيني بشكل خاص، أجيالاً هي أكثر تصميماً من الأجيال التي سبقتها، على تجاوز المحنة واستعادة الحق العربي والكرامة العربية. أطفال القدس المقدسة، التي وهبها الرئيس الأمريكي للإسرائيليين، وأعلنها عاصمة لهم، يبصقون في وجه أحد المطبعين العرب، ومن خلاله يبصقون في وجوه المطبعين جميعهم، حكاماً ونخباً سياسية وثقافية وإعلامية، ضلت طريقها وتنكرت لقضيتها، بل ويبصقون في وجه العالم الذي تخلى عنهم وتآمر عليهم ودعم قاتليهم ومغتصبي أرضهم. هؤلاء الأطفال هم الجيل الجديد من أبناء فلسطين، حاملو الحلم العربي، الذي تخلق في رحم المأساة والمعاناة والجوع والتشرد. الجيل الذي تفتحت عيونه على تجريف الأراضي الزراعية ومصادرتها واقتلاع الأشجار المثمرة وتهديم البيوت السكنية وضم مزيد من المناطق الفلسطينية والمناطق العربية المحيطة بفلسطين وإقامة جدار الفصل العنصري وقتل الآباء والأمهات والأطفال، أو اعتقالهم دون توجيه تهم محددة، وإيداعهم في السجون لسنوات طويلة، دون محاكمة، في ما يسمى (الاعتقال الإداري)، تحت سمع وبصر (العالم الحر)، المفتون بشعارات (حقوق الإنسان). إنه لمشهد مذهل، غني بالدلالات، لمن لديه القدرة على الفهم، وبالدروس المفيدة، لمن يرغب في أن يتعلم. مشهد يؤكد بأن الأمة ما زالت تمتلك القدرة على الانتصاف لنفسها من أعدائها واستعادة أراضيها المغتصبة. مشهد نراه أمام أعيننا، بعد كل العقود التي انقضت على اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها، وبعد كل الجهود، التي بذلتها القوى الاستعمارية والحركة الصهيونية وأتباعهم العرب، لتشويه الوعي وتثبيط العزائم وبث اليأس والإحباط، وفرض أمر واقع على أمة مثخنة بالجراح. فإذا بهذه الأمة، ومن خلال أطفالها، تثبت بأنها أمة حية، لم تفرط بحلمها ولم تيأس من استرجاع حقوقها. وإذا كان بعض قادتها ونخبها قد يئسوا أو فرطوا، فإن أطفالها، أمل المستقبل، لم ييأسوا ولم يفرطوا ولم يذعنوا ولن يستسلموا. فهل فهم المطبعون، ما أراد المقدسيون أن يقولوه لهم؟ أشك في ذلك.