كانت فاطمة ندىً مقطر ليمن واعد. كانت قد استلطفت سالم إبن النقاش اليهودي, وأطلقت عليه اسما جديداً: "اليهودي الحالي" (أي المليح بلهجة أهل اليمن القدامى). كان سالم الصغير بسنواته الإثنتي عشرة مندهشا من حفاوة بنت المفتي المسلم به ورقة تعاملها معه. طلبت فاطمة من أبيها الشيخ الجليل أن يسمح لها بتعليم سالم اللغة العربية, وأقنعته بأن ذلك سيقوده للإسلام, فقبل الأب. صار سالم يتردد على بيت المفتي, وقلبه يتعلق بفاطمة التي تكبره بأعوام خمسة. من حبه لفاطمة أحب لغتها العربية وألتهمها وأتقنها في سنوات يفاعته. بعد سنوات قليلة وجد اليهودي الحالي نفسه يقرأ في كتب الشهرستاني وابن حزم وابن عربي. طلبتْ فاطمة من سالم أن يعلمها العبرية أيضا كي تتعرف عليه وعلى ديانته وثقافته. لكن سالم لم يكن يعرف قراءة العبرية وكتابتها. كان أبوه وأعمامه وبعض الأحبار من حولهم قد تشككوا من نوايا المفتي وأبنته في تعليم سالم العربية, فألحقوه بمدرسة دينية تعلم فيها العبرية لغة واليهودية دين. وصار ينقل لفاطمة ما يتعلمه من العبرية. كانت روح فاطمة تنفد إلى روحه وبها تلتحم. كانت إلتحامات الروح تصفي ما يقرآنه في الكتب, فيتركان ما كان كراهية وتعصب, ويحضنان ما كان حبا وإنسانية. قالت له فاطمة إنها لا ترى فيه إلا روحه الجميلة, وكانت تدلله بالتسمية التي أذابت وجدانه حتى مات: "اليهودي الحالي". هذا ما يقوله لنا علي المقري, الشاعر والروائي اليمني, في رواية جديدة تحمل وصف سالم واسمه على شفاه فاطمة "اليهودي الحالي", بديعة المناخ وعميقة المعاني, جريئة صافعة وتؤرخ لحقبة تأسيسية ومريرة من علاقات المسلمين باليهود في يمن القرن السابع عشر. آنذاك وفي قرية "ريدة" اليمنية عاش مسلمون ويهود معاً. كان هناك جمال وبشاعة, عفوية عيش وتوتر تعصب, تداخل الناس ببعضهم ووقوف متنطعين ضده. كان هناك فاطمة وسالم وأقليتهم, وكانت هناك الغالبيات الجامحة. لو صار أن أنتقلت روح فاطمة إلى مسلمي "ريدة" جميعاً, لأصبح يهود البلدة كلهم "حاليين" مثل سالم. ولو صار وأنتقلت روح سالم إلى جماعته, لأصبح مسلمي البلدة كلهم مثل فاطمة. لو صار كل ذلك من يومها في "ريدة", وفي اليمن كله, وفي المغرب, وفي تونس, وفي الجزائر, وفي العراق, لتأسس إجتماع مختلف ما أستطاع أن يخترقه غرباء قدموا من الشمال, أنتزعوا عشيرة سالم وما ناظرها فيما جاء من عقود وشحنوها إلى تل أبيب. كان هناك مسار بإتجاه فاطمة وسالم يمكن أن يتأسس, وكان هناك مسار بإتجاه تل أبيب يمكن أن يتأسس. وكما في كل حال يظفر الغوغاء بالمسار الأكثر كلفة ودمارا. بعد قرنين من الزمان كان تراكم الخراب قد أوصل يهود اليمن إلى موانىء حيفا ويافا وعكا. حاملين معهم "قاتهم" و"جنبياتهم" و"نراغيلهم" وأثوابهم التقليدية. أنتزعوا من نسيج مجتمعهم وألقوا في أحياء فقيرة على هوامش المدينة المفتعلة "تل أبيب". لا هم ظلوا يمنيين, ولا هم صاروا إسرائيليين. عندما جاء صهاينة أوروبا بمشروعهم وأرادوا تفكيك عرى العيش اليهودي في البلدان العربية, كانت تلك العُرى قد أصابها الوهن. لم تكن بالصلابة والوعي المجتمعي الذي يشد أبناء تلك البلدان, مسلمين ويهودا, إلى بعضهم البعض وإلى أوطانهم بما يقطع الطريق على مخططات الغرباء. كانت تلك واحدة من النتائج الكارثية للمآلات الرمزية الحزينة لحياة فاطمة وسالم, وهي ما رسمها علي المقري بإقتدار. عندما كان متعصبو جماعة فاطمة يعتدون على جماعة سالم وأهله اليهود لهذا السبب أو ذاك, كان متعصبو جماعة سالم يتوعدونهم سرا وعلنا بأن المسيح المنتظر على الأبواب, وأنهم سيهاجرون إلى أورشليم, ومن هناك سوف يحكمون الدنيا ويلقنون من طردهم درسا قاسيا. كان سالم يقول لماذا نهاجر وهذا بلدنا؟ وكانت فاطمة تقول لماذا يهاجرون وهذا بلدهم. كان صوتهما الطري حمامة بيضاء سرعان ما تدوسه غربان سوداء من الطرفين. تتوقف زيارات سالم لفاطمة في بيتها, فقد كبر ولم يعد ولدا, لكن قلوب الإثنين كانت قد أنصهرت. تشتاق فاطمة لسالم وزياراته لبيتها. فتقنع أبيها بضرورة مناداته لترميم بعض النقوش على جدران بيتهم. تكتب له كتابا رقيقا ورسالة أدب رهيف: "إلى اليهودي الحالي, بسم الله الرحمن الرحيم, والصلاة والسلام على سائر الأنبياء والمرسلين, والطيبات والطيبين. حفظكم الله من الضياع, وجنبكم وحشة الغياب, وأرشد إلى طريق الخير خُطاكم, وفتح على آمال الحياة قلوبكم وأذهانكم. أما بعد, فمع وحشة الفراق يصبح البوح والمداد هما الترياق. ولا ينجو اللبيب إلا بتذكر الحبيب. وعليه فأنا أكتب إليك مبتدئة بالسؤال عن صحتك وأحوالك, ومهنئة لك بأعيادنا وأعيادك. وأسأل الله لك ولكل اليهود والمسلمين, وكذلك لأتباع جميع الملل والنحل, ومن لا ملة له, سلامة الأيام وبهجة الدهر. وخلاصة الكلام وبغية القول والمراد, أنني أدعوكم إلى إيضاح النقش المرسوم على جدار ديوان بيتنا, والذي دخل النمل من أطرافه ووسطه, عبر فتحات صغيرة لمساكنه القديمة. ولأنه قد غير الإتجاه, وأستقر في ما رأى أنه مباح, خطرت في البال فكرة الإيضاح. والإستفادة مما أستغنى عنه النمل في المعاش. فإذا تفضلتم بكتابكم إلينا, مع السيدة المتفضلة علينا, حددوا اليوم الذي ستشرفوننا فيه بطلعتكم, وعطفكم, حتى نعلم القدوم, ونستقبلكم بالود والسرور. وشوقنا إليكم معروف, ولا يتطلب كثرة الوضوح. والسلام في الختام, أهديه على كل حال, في الصحو والمنام". يطير سالم من الفرح ويذهب إليها مجددا العهد. لكن كل ما حولهما ينذر بعواصف قادمة. عندما تثور جماعة فاطمة على جماعة سالم لأنهم يبيعون النبيذ للمسلمين على خلاف إتفاق السماح لهم بتصنيعه وبيعه لليهود فقط, يرد الآخرون بأن أهل النفوذ والغنى من المسلمين يجبرونهم على بيعه لهم تحت وطأة التهديد. يستمر الثوران فيراق نبيذ اليهود في الطرقات, لكن يأتي صوت قاض مسلم عاقل فيحكم بتعويض اليهود عن نبيذهم المُراق. إشراقات الشمس الخجولة تبلعها الغيوم السوداء التي تتلبد على إيقاع التعصب, فتصبح إشراقات نادرة وسط المناخات الكابية. لماذا يضيق الناس بالأمثلة الجميلة ويجعلونها الأكثر شذوذا في حياتهم؟ يأتي الإمام المتوكل وبعده أبنه المهدي فيهجران كل اليهود إلى قفار صحراء خارج بلدتهم, فيموت منهم من يموت تحت اللظى. يأتي صوت مفتٍ عاقل ينصح المتوكل بأن ما يقوم به سجر على البلاد القتل والخراب, فتخرسه عواصف التعصب ثانية. في حروب الجهل والتعصب تشهق الأرواح البريئة, ترى في "آخرها" من تراه في ذاتها. يهرب من تلك الحروب أولئك الذين أنحازوا لأوتار الحب المنفلت من إكراهات أنظمة التقليد والغلو والتدين المحموم. فاطمة وسالم لم يكونا وحيدين في الإنحياز لتلك الأوتار. كان قاسم إبن المؤذن قد شغفه حب نشوة ابنة أسعد اليهودي. كلا الأبوين كان يكيل الكراهية للآخر, فيما الأولاد يتبادلون أوراق القلب. عندما شاعت قصة الحب بين اليافعين توحد الأبوان غضبا وتعاضدا على وقف "الفضيحة", فأختفى العاشقان ووجدا منتحرين على صدر بعضهما البعض. أرتاح الأهل على الطرفين, تنفسوا الصعداء, ذاك أن المآل "المخزي" لكليهما تم تفاديه: مسلم يتزوج يهودية؟ بعد برهة الراحة والإتحاد ضد عدوهم الظرفي المشترك, قاسم ونشوة, عادوا إلى عداواتهم من جديد. لكن قصة قاسم ونشوة ما تلبث وتكرر! علي شقيق قاسم وصبا شقيقة نشوة وهما أصغر عمرا وكانا يقومان بنقل رسائل العاشقين بينهما وقعا في مسار العشق نفسه. كانت أوتار الحب الرقيقة (والقاتلة) هي التي يفضل هؤلاء الأولاد والبنات السير عليها رغم إنشدادها. علي وصبا هربا وتزوجا بعيدا في صنعاء, بعيدا عن سيوف الغاضبين من الطرفين وبطشهما. وإلى هناك هربت فاطمة وسالم أيضا. أرسلت إليه كتباً هدية في وسط التوتر والعداء, قرأها كلها وأجل قراءة كتابين, "نهاية الأرب" للنويري و"ديوان الصبابة" لأبن أبي حجلة. في الثاني أكتشف رسالة من فاطمة, تحديدا في باب "الرسل والرسائل والتلطف في الوسائل". قالت فاطمة أشياء جميلة ورقيقة وعرضت نفسها للزواج منه. قالت له "قراري هذا وصلت إليه بعد أن درست أقوال الشريعة ورأيت فيها بحر إختلاف يجمع علماء المسلمين بدون إتفاق. وكان دليلي لقراري الإمام الجليل أبو حنيفة الذي أبهجني بإجازته للمرأة البالغة الراشدة تزويج نفسها بدون ولي أمر, وزادني سرورا المجتهد اللبيب ابو المعارف بهاء الدين الحسن إبن عبدالله بفتواه المدونة في التصاريح المرسلة التي يجيز فيها للمسلمة الزواج من يهودي أو نصراني". ذهبا إلى صنعاء, وهناك عاشا في كنف خال سالم, وهناك تسمت فاطمة بإسم عبري "فيطماه". كان الإسم الجديد هو الرشوة لخال سالم وأقربائه. لكن لا فاطمة ولا اليهودي الحالي إكترثا بالحدود والتقطيعات والتعريفات. كانا في محراب حب من نوع فريد. ولأنه فريد لم يدم طويلاً, فقد ماتت فاطمة على فراش الولادة. تركت لسالم أبنا سماه سعيد, لكن لم يقبله أحد. في يومه الأول يبكي سعيد طالبا ثدي الحليب فيبكي معه سالم ويحار أين يأخذه. يذهب به إلى أهله فيقولون له إن إبنه ليس يهوديا فهو إبن المسلمة, ويذهب به إلى أهل فاطمة فيقولون له إن أبنه ليس مسلما فهو إبن اليهودي. ينتهي سعيد الطفل بين يدي الزوجين علي إبن المؤذن وصبا أبنة حاييم, ويرعياه ويشب مسلما إلى جانب أبنتهما. سالم نفسه يعيش عقود حياته على ذكرى فاطمه. يكتب عنها ويؤلف عن حبها وعن مذهبها الذي أتبعه. فقد كان قد أسلم حتى يبقى فيه شيئا من فاطمه, أسلم بطريقته وعلى هواه وعلى مذهب فاطمة كما كان يقول. أما فاطمة التي ظلت غريبة في الحياة فقد أستمرت غريبة في الموت. لا مقابر المسلمين تقبلها ولا مقابر اليهود تقبلها. ظلوا ينقلون عظامها من قبر إلى قبر, حتى بعد أن تحول اليهودي الحالي إلى الإسلام, وحتى بعد أن صار عمره فوق التسعين. مات وهو يحضن كتاب فاطمة على صدره. النور الوحيد وسط تراكم طيات الظلام كان في زواج سعيد أبنه المسلم من أبنة علي وصبا التي ظلت يهودية. كأن قصته مع فاطمة تعود من جديد. لكن الرسالة المريرة التي تنز إلينا من بين السطور كانت تلطمنا في الوجه وتقول: عندما تضيق القبور عن أستقبال من هي مثل فاطمة حية أو ميتة فإن بلداننا تصير كما اليمن الآن!