كتب : علوان الجيلاني في طبعة أنيقة من القطع المتوسط صدرت هذا الأسبوع عن مركز عبادي للطباعة والنشر بصنعاء رواية " رحلة إلى وادي العسجد " للشاعر والكاتب اليمني الكبير أبو القصب الشلال في 218 صفحة أبطال الرواية جميعهم من الحيوانات .. وهي تتضمن نقدا لاذعا يرسم كاريكاتوريا وبصورة بالغة السخرية اختلال المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي اليمني خصوصا والعربي على وجه العموم خلال النصف الثاني من القرن العشرين ..قدرات الكاتب المدهشة تجلت أكثر في الزوايال التي استطاع تصوير الحالة منها حيث قام باسلوب سلس أخاذ التقاط التفاصيل الصغيرة بمفارقاتها ومآسيها التي تتكرر وتتناسل وتحكم طوقها حول عنق الحياة حياة الإنسان والأرض والتاريخ وكل المعاني الجميلة في واقعنا .. الاسقاطات في الرواية تراوح بين الوضوح الساطع والتخفي والمراوغة ولكنها في كل الحالات حادة وحارقة وكأنها آلات كي محماة أعدت لجروحنا بيد أنها غالبا لا تكوي الجروح لتشفيها بل تنكأها لتزيدنا إحساسا بها وتفتح عيوننا عليها وعلى مصادرها ومن خلال الرموز الهشة التي اختارها الكاتب لتوحي بمن يصنعون المآسي والأدواء في حياتنا نلمس الى أي حد كان الكاتب موفقا في تتبع سطوع وخبو التيارات السياسية والثقافية وخيارات الحركات الوطنية والقومية والدينية والأممية وتأثراتها وتأثيراتها وتخبطاتها أيضا خلال زمن يتجاوز الأربعين عاما وهو زمن لاتقوله الرواية بل نستشفه من مجرياتها إذ تحضر في تلك المجريات الانظمة الثورية والانظمة الرجعية والتقدميون والرأسماليون كما تحضر أجنحة اليسار المختلفة جنبا الى جنب مع أجنحة اليمين لتجد نفسك أمام معرض باهر للبروليتاريا الرثة والمتاجرين بالدين والأنظمة المتخبطة والأقوياء المتسلطون في عالم عشوائي لانظام فيه الا حبكة الرواية وقدرة الكاتب على النفاد بتكتيكاتها في مزدحم الأفكار والصراعات والشخصيات..أبو القصب مبدع الرواية يتخفى تماما بعيدا وراء السارد الذي نكاد ننساه في زحمة شخوصة والذي يبدو جالسا بعيدا كإله محايد ينضف أظافره في صمت على حد تعبير جيمس جويس .. لقد اتخذ أبو القصب من ابطاله شهود عيان على مرحلة من زمننا العجيب فهو بمقدار ما يجعل افعالهم مجالا ثريا لتأويل الأحداث وعرض المعتثدات والايديوليجيات والافكار وحتى الرموز والخرافات والأساطير والمفاهينم الشائعة .. فإنه أيضا يرسم لنا بقد كبير من البراعة تردي النخب الحاكمة ورديفاتها من قيادات دينية وحزبية واقتصادية وثقافية ..المثاليات التي كثيرا ماتبجح حيوانات الشلال بامتداحها سرعان ما كانت تبدو مترنحة والنخب التي تقود الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي تبد في أحايين كثيرة مجرد أفراد يعانون العزلة مطحونين بأزمتهم هم ومشغولين بها عن أزماتنا التي صنعوها هم لنا إنهم يظهرون مثقلين بتواريخهم الخاصة كما بتواريخ علاقاتهم لذلك فهم يتشنجون كثيرا تبعا لتشنجات التاريخ ..رواية من النوع المثير واسلوب شديد الجاذبية ولغة تتجاور فيها معاجم مختلفة لفترات مختلفة من تاريخنا الذي يتداخل وبشكل متعمد ليحاكي على نحو كاريكاتوري أوضاعا عرفها الانسان العربي المعاصر كأن تجد الدجاجة المهزومة ترتجل خطبة مدوية تستنسخ فيها كثيرا من تعابير الحجاج بن يوسف وزياد بن أبيه وجمال عبد الناصر ..رواية تحكم سلوكيات أبطالها وأقوالهم لغة المزايدات وغوايات الشعارات وارتجال التجارب ويغيب عنها صوت العقل فلا يكاد يبين الا في آخرتها.