قائد الاحتلال اليمني في سيئون.. قواتنا حررت حضرموت من الإرهاب    هزتان ارضيتان تضربان محافظة ذمار    تراجع في كميات الهطول المطري والارصاد يحذر من الصواعق الرعدية وتدني الرؤية الافقية    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    الجنوب هو الخاسر منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    عنجهية العليمي آن لها ان توقف    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    تربوي: بعد ثلاثة عقود من العمل أبلغوني بتصفير راتبي ان لم استكمل النقص في ملفي الوظيفي    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    نجاة قيادي في المقاومة الوطنية من محاولة اغتيال بتعز    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    نتائج المقاتلين العرب في بطولة "ون" في شهر نيسان/أبريل    النصر يودع آسيا عبر بوابة كاواساكي الياباني    اختتام البطولة النسائية المفتوحة للآيكيدو بالسعودية    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    هزة ارضية تضرب ريمة واخرى في خليج عدن    هل سيقدم ابناء تهامة كباش فداء..؟    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    مباحثات سعودية روسية بشان اليمن والسفارة تعلن اصابة بحارة روس بغارة امريكية وتكشف وضعهم الصحي    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    غريم الشعب اليمني    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائي والشاعر وعالم الكمبيوتر اليمني حبيب سروري : ثقافتنا تعلمنا منذ المهد الخضوع والانسحاق !
نشر في التغيير يوم 02 - 10 - 2006

"ممتع أن يكون العالم بالمقلوب بين فترة وأخرى! أو بالأحري لا أتمني، إن كان لي أن أتمني، إلا أن يكون العالم دائما بالمقلوب ليمتلئ عدلا وصدقا وحبا ومساواة"... يتعجب من الواقع العربي، من قدرة الشعوب العربية علي التكيف والعيش ب"نصف حياة" علي حد تعبيره، مؤمن تماما بأن الشعوب العربية تعيش خطأ تاريخيا يحافظ علي تخلفها بنجاح منقطع النظير!...
حبيب عبد الرب سروري من مواليد 1956 بعدن، بروفيسور منذ 1992 يقوم بتدريس علوم الكمبيوتر في قسم الهندسه الرياضية في المعهد القومي للعلوم التطبيقية، وجامعة روان بفرنسا نشرت له العديد من الأبحاث والكتب العلمية بالفرنسيه والانجليزية، ورواية بالفرنسية (الملكة المغدورة) ترجمت الي العربية بعد ذلك نشر بعد ذلك مجموعه قصصية بعنوان (همسات حري من مملكة الموتي) وديوان شعر (شئ ما يشبه الحب) تلاها بكتاب (عن اليمن ماظهر منها وما بطن) ثم ثلاثية رائعة بعنوان (دملان) وأخيرا رواية (طائر الخراب) والتي منعت من مغادرة اليمن! نشر أول قصائده وهو في الرابعة عشره بمجلة الحكمه ليهجر بعدها الكتابة الإبداعية ويعود اليها بعد أكثر من عشرون عاما بالعنواين التي سبق ذكرها... حبيب زار القاهرة مؤخرا فالتقته أخبارالأدب وكان هذا الحوار.
بدأتَ بكتابة الشعر ثم هجرته إلى الرواية... لماذا ؟
لا أعتبر في الحقيقة أني هجرت الشعر لأني أعشقه عشقا وبنفس القوة السابقة، غير أني أحاول فقط تسريبه في إيقاع الرواية ولغتها، كما أظن وأتمنى. لعلّ أهم اكتشاف معرفي لي في فرنسا بعد الدراسة والبحث العلمي هو اكتشاف الرواية كفضاء حر شامل، كتقليد متجذِّر في أعماق المجتمع المدني، كمعملٍ كوني للخيال، لسردِ وإعادةِ خلق التجربة الإنسانية في أوسع مداها...
نشرتَ أولى أعمالك 1970 ثم توقفت حتى 98 هل كان ذلك مخططا؟ بمعنى أنك كنت تعلم أنك ستعود للكتابة مرة أخرى، يظهر ذلك من سرعة ظهور أعمالك كما لو كانت الكتابة تضغط عليك لتخرج من القمقم التى ظلت حبيسه له كل هذه المدة...
لم يكن مخططا بالمعني الحرفي للكلمة، كما أن توقفي لم يكن نهائياً فقد نشرتُ أولى أعمالي في 1970 في مجلة "الحكمة" اليمنية، وواصلتُ ذلك حتى قبيل سفري للدراسة الجامعية في فرنسا في 1976. انقطعتُ عن النشر تقريبا بعد ذلك للانكباب على الدراسة والبحث العلمي. مررت الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية (قسم الكمبيوتر) في 1987، ثم "دكتوراه التأهيل لقيادة الأبحاث" التي تسمح للتحول لبروفيسور جامعي في 1992. نشرت خلال تلك الفترة عددا من الكتب العلمية المتخصصة بالفرنسية والانجليزية وكثيرا من الأبحاث العلمية في المؤتمرات والمجلات الدولية. لم تنقطع علاقتي بالأدب تماما خلال تلك الفترة: انتظمَت إلى هذا الحد أو ذاك قراءتي الأدبية بالفرنسية، ووجدتُ نفسي بين الحين والحين المتباعدَين أكتب بالعربية نصّا شعريا أو نصف نص... غير أنه منذ 1992، بعد تحولي لبروفيسور جامعي، تمكَّنتُ من تنظيم وقتي بالطريقة التي تناسبني، وتعلّمت كيف اختلس وقتا ثابتاً للكتابة الأدبية، في الإجازات وعطل الأسبوع ورحلات الطائرات والقطارات... عدتُ إذن للكتابة منذ 1992 برواية "الملكة المغدورة" بالفرنسية التي نشرتها دار الأرماتان، لأن كل قراءاتي الأدبية حينها كانت بالفرنسية تقريبا، ولأن كثيراً من الكلمات العربية كانت قد تبخرت آنذاك. عندما أنهى الأستاذ علي زيد ترجمة هذه الرواية إلى العربية في 1998 انفتحت شهيتي مجددا للكتابة بالعربية، المتجذرة في ثقافتي الأولى. استفاقت، بعد قراءتي لترجمته، كثيرٌ من الكلمات المطمورة. عدت لقراءة الأعمال الأدبية بالعربية بجانب الفرنسية، بانتظام. نشرتُ بعد 1998 أول عمل لي بالعربية: مجموعة قصصية "همسات حرّى من مملكة الموتى"، تلاها ديوان شعر يضم قصائد قديمة وأعمال حديثة بعنوان "شيء ما يشبه الحب"، ثم الثلاثية الروائية "دملان"، تلاها كتاب يضم مجموعة مقالات ودراسات أدبية بعنوان: "عن اليمن، ما ظهر منها وما بطن"، وأخيرا رواية "طائر الخراب". كلُّ هذه الأعمال نُشِرت عن مؤسسة العفيف الثقافية في اليمن، ويمكن قراءتها أو شحنها كاملة من موقعي الأدبي: http://abdulrab.free.fr. أصبتَ عزيزي أسامة بقولك أن فترة عدم الكتابة، التي كرَّستُها للتعلم والبحث العلمي تماماً، امتلأت بمادة خامة ضاغطة شرعتُ باستثمارها بانتظام منذ 1992 بالفرنسية، ومنذ 1998 بالعربية... أتمنى لنفسي أن تكون استعارة القمقم التي استخدمتَها صائبة تماماً...
لكن متى بدأتَ رحلتك مع الكتابة: بمن تأثرتَ، مرجعيتك القرائية؟
بدأَتْ هذه الرحلة في البيئة الأسرية، في سنٍّ مبكر. كان والدي فقيهاً صوفيا وشغوفا بالشعر والأدب العربي القديم. "أجبرني" منذ السابعة من العمر على حفظ مئات أبيات الشعر وعلى قضاء ساعة يومية بصحبته يُدرّسني فيها الفقه والأدب والنحو والفرائض والتفسير... كانت حينها أضجر ساعات اليوم بامتياز. لكني أدين لها الآن كثيرا بتسريب عدوى الشغف، إذا جاز لي قول ذلك. مرجعية قراءاته كانت مرجعيتي الأولى دون شك. ثمّ منذ قبيل الرابعة عشر سنة بقليل، أسرَتْني مرجعيةٌ ثانية مختلفة تماماً ومعاكسة كليّةً: مرجعيّة بدايات السبعينات في جنوب اليمن وانفتاحها على أفكار التقدم والاشتراكية. تفتّحت آفاقنا حينها على الثقافة المصرية من توفيق الحكيم وسلامة موسى حتى الرائع أبداً محمود أمين العالم وغالي شكري، وبالطبع على ترجمات كثير من كبار أدباء وكتّاب الغرب. الأسماء كثيرة هنا، أذكر منها على سبيل المثال فقط في المجال الأدبي: هوجو، شكسبير، ديكنز، تولستوي، بودلير، رامبو... بدأت رحلتي مع الكتابة منذ الطفولة أيضا، إلا أن أول قصيدة نشرتها كانت في الرابعة عشرة في مجلة "الحكمة" اليمنية. ثم توسعت المرجعية القرائية بشكل كلّي، كمَّاً ونوعاً، على الكتابة المعاصرة ببعدها الفرنسي والعالمي، بعد سفري إلى فرنسا في 1976 لتعلّم اللغة الفرنسية والدراسة الجامعية...
تتمحور كتاباتك عن اليمن وحولها وربما تكون عنيفاً بعض الأحيان...
مقاطعاً: لا أعتبر محاولة الغوص باتجاه الجذر والحديث الجريء عن الواقع نوعا من العنف. لعل الخوف الذي أورثتنا إياه ثقافتنا السائدة، ثقافة "تقديس الجلّاد وتدنيس الضحية" هو ما يجعلنا نقول ذلك. العنف يكمن في طبيعة العلاقات الظالمة وفي جذور هذه الثقافة نفسها. أعتقد فعلا أن من واجب الفن ليس فقط أن يرسم لوحة خراب الواقع، كما أحاول رسمه أحيانا، بل أن يذهب أبعد من ذلك: أن يساهم بطريقته الخاصة، بكشف ولادة ونشوء وتطور ذلك الخراب وكيف أضحى اليوم الثابت الذي يعيد خلق نفسه في واقعنا يوميا... ربما هذه معالم بعض ما أكتبه وما أطمح كتابته. المهم أن كل ذلك يتم، كما أتمنى، في صفحات تنضح بالعشق والأحلام والمعاناة والأمل والضحك والسخرية... إذا كان مجمل ذلك ما تسميه المساهمة في التغيير، فأنا مع ذلك...
لكن تركز كتابتك حول اليمن ربما يعطي انطباعا بأنك تكتب رواية واحدة... كيف ترى هذا الانطباع ؟
اليمن ألف رواية ورواية، أو ربما حسب قولك رواية واحدة! رواية تدور في عالم عذريّ شبه مجهول، مملوء بالبراءة والطيبة والحب والأحلام المكبّلة. الضحك والسدر والكسل هم الخبز اليومي لبسطائه. لعله مثل مصر أيضاً: وَلعٌ أبديٌّ ومحنةٌ دائمة لمن عاش فيه. ثمّ هو بلدٌ يخلو تماماً من الرتابة، انشحن تاريخه الحديث بكل شيء تقريبا: الاستعمار الأجنبي، القبيلة التي تعيق أي تطور وحداثة والتي تغيَّرتْ أقنعتها الزائفة من نظام ادَّعى الماركسية في السبعينات والثمانينات إلى آخر يدعي الديموقراطية اليوم. الأول عجّ بالحروب والاغتيالات والثاني بالنهب والتخلف والتجويع والفساد... اليمن عالم يستنزفه الحرمان والتخلف. سوء التعليم والصحةّ ومستوى المعيشة فيه يتدهور بأرقام قياسية. غياب المصداقية والمشروع الحديث في إدارته صارخ جدّاً. اغتيال الرؤساء وكبار رجال السياسة فيه ثابتٌ متواصل. الموت فيه سهلٌ جدّاً مثل الماء والهواء (أو مثل الهواء فقط، لتفاقم مشاكل المياه فيه، دون حلٍّ أو تخطيط)... المكان فيه شديد التنوع أيضاً: صحاري وقمم جبلية تشرئب فيها قصورٌ ومدنٌ خرافية رائعة، بحارٌ يمكن العوم فيها طوال ساعات السنة، مدن تاريخية نقية الجمال، عراقة تفقع العين... المواد الأدبية الخامة التي يفرزها واقعٌ كهذا لا يمكن استنزافها، تتنوّع على الدوام. هي مثل جهنم تمتدُّ وتتسّعُ بشكل لانهائي، على إيقاع أهزوجة: "هل من مزيد؟"...
ألهذا يعاني معظم أبطال روايتك من الفشل.. وجدان، نشوان علي سبيل المثال.. فتركز علي الفشل كتيمة أساسية في أعمالك ؟ ولا يكون هناك حل لهذا الفشل سوى بالفنتازيا كما فعلت في دملان؟
فشلُ وجدان في ثلاثية "دملان" فشلٌ جذريٌّ نقيٌّ كامل. هو إنسانٌ لا يعرف التمرّد، متطرِّفٌ في خضوعه، رغم كل مواهبه وطيبته. تختلف حالة نشوان في "طائر الخراب" لأنه عكسه تماماً. لعلّه لم يفشل في مشروعه الشخصي لأنه مارس حريَّتَه وتمرَّد. لكن فشل الواقع، فشل الوطن كما قلتَ، إجتاحَهُ بالضرورة، وبشكلٍ غير متوقّع: رغم هروبه من الوطن وجد نشوان نفسه فجأة يغرق في أبشع مستنقعاته...
بنية "دملان" تتأسس على الحلم والفانتازيا والخيال. لعلّ ذلك يسمح بإجلاءٍ أفضل للواقع، بتوسيعهِ وإعادة تأثيثه، بالتسكّع الحر في ملابساته وزيفه وأسراره، بالتحليق بعيدا عنه والاتجاه نحو قعره في نفس الوقت...
ربما يدفعني ذلك لسؤالك حول الأمل في أعمالك فهل الصورة حقا سوداء قاتمة لهذه الدرجة؟
نعم الصورة قاتمة جدا! خذ مصر على سبيل المثال: ترتيبها في قائمة "مؤشر التنمية البشرية" للأمم المتحدة (أهم مؤشر في حياة الإنسان، لأنه يلخص كل ما هو هام وجوهري فيها: معدل دخل المواطن، مستوى خدمات التعليم والصحة الذي ينالها...) للعام الماضي: 118 (من بين 177 دولة). مصر، بكل عظمتها التاريخية، تجد نفسها على حافة الحضيض، في حين تجد اليابان نفسها في الدول الأولى في القائمة! لا تنسى أن اليابان لا تمتلك أي ثروات طبيعية، ولم تكن أكثر تقدماً من مصر قبل أقل من قرنين! خذ مثلا آخر، اليمن: رغم مواردها الطبيعية والبترولية وثرواتها السياحية، ترتيبها للعام الماضي هو 151. هي ضمن المجموعة الثالثة من الدول، التي يعيش أهلها بأقل من "نصف حياة" (لأن معدل النمو البشري في دول تلك المجموعة اقل من 0.5)! كان ترتيب اليمن 149 في العام الذي سبقه، و148 العام الذي قبله (أي أنها تقدَّمت "خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الخلف"...) هذه أمثلة فقط سببها واحد: ثمة خطأ جوهري جذري في واقعنا العربي. طالما جثم هذا الخطأ فلا أمل في الافق، في رأيي الشخصي...
وماهو هذا الخطأ ؟
الخطأ الجذري يكمن في ثقافتنا التي تُعلّمنا منذ الصغر كيف لا نفكر، كيف لا نتساءل، كيف لا نرفض... تعلمنا منذ المهد الخضوع والانسحاق. تقدّم لنا الوجود والكون بما يمنع أي تساؤل أو تفكير: ثمة إجابات غيبية شاملة لاعلمية حول كل أسس الكون والحياة. يحرم الطالب منذ المهد من مقومات العقل والتفكير الحديث...
الأنظمة التي تحافظ وتحمي هذه الثقافة لا تمتلك أي مشروع نهضوي حقيقي. تزجّ المواطن في دوامة اللهث على لقمة العيش، تحاصره بسياج من القمع والبيروقراطية والتخويف والإذلال، تحوّله في الأخير إلى جزء من جهازها الذي يعيد خلق نفسه منذ قرون، ويحافظ على تخلف واقعنا بنجاح منقطع النظير...
"من السهل أعطاء جائزة لأجمل قصيده عربيه تصف القمر لكن من الصعب تنظيم مسابقه لاختيار أجمل سفينة فضاء عربيه هبطت على سطح القمر" جملة اقتبستها من أحد حواراتك تدفعنى – ان لم أبكِ - أن أسألك هل نحن حقا كعرب مسؤلون فقط عن الجانب الجمالى أو الروحى والغرب مسؤل عن الجانب العلمى الحياتى هل يصح هذا التقسيم؟! وبشكلٍ شخصيّ، كيف تفصل بين "حبيب" العلمى والأدبى؟
لست أدري إذا كانت لنا كعرب مساهمات معاصرة تستحق الإشارة في الجانب الجمالي. في الجانب الروحي بمفهومه العلمي ليس لدينا أي مساهمات بالطبع. أقصد من وجهة نظر أن الروح نشاطٌ ذهنيٌّ خالص، يتم في عصبونات الدماغ، تدرسه علوم الذهن وعصبونات الدماغ والبيولوجيا والسيكولوجيا التطورية. أمّا في الجانب الروحي الذي يعتبر الروح "نفخة ميتافيزيقية في طين" تغادر الجسد عند الموت، مثل الجني الذي يغادر القمقم، فلنا بالتأكيد نظريات ومساهمات خارقة ورائدة، لا تتوقف!...
حول ثنائية "حبيب" العلمي والأدبي وعلاقتهما: ثمّة فترة تعايش سلميّة لذيذة بين الاثنين عندما يتقاسمان المواسم (موسما الكتابة الأدبية والعلميّة) بعدل وتناغم وكياسة مدنيّة. وثمّة فترات تناحرية بينهما، عندما يكون حبيب بصدد عمل علمي ملحٍّ ومهم ويبرز في نفس الوقت مشروع كتابة أدبية يرفض الانتظار. يكتشف حينها حلاوة الآية القرآنية: "ما جعلَ الله لرجلٍ من قلبين في جوفه"! عبّرتُ عن هذه العلاقة الديالكتيكية بين "حبيب" العلمى والأدبى، حسب تعبيرك، في قصّة اسمها "أبجد 69"، ضمن مجموعة "همسات حرّى من مملكة الموتى" التي كتبتها في إحدى لحظات معمعان الصراع بين الاثنين...
ما حكايتك مع المصادرة؟
الرواية الأخيرة: "طائر الخراب" مُنِعت من مغادرة مطار صنعاء! بدأ ذلك عندما أوقف عسكريُّ المطار سيداً عزيزاً، مسافراً إلى فرنسا لعلاج أمراض القلب، يحمل لي أولى النسخ من الرواية. قال له العسكري: لو كان الكاتب أديباً لأسماها "طائر الحب، أو طائر الأشجان"، ومنعه من السفر مع الرواية! أضاع المسافر رحلته. ثمّ توالى المنع الذي أدانه إتحاد الكتاب في اليمن. لعلّ هذه المصادرة أضافت في رأيي نقلة نوعية (لها ألوان يمنية خالصة) لنظرية القمع والرقابة الأدبية: عادةً ما تَمنعُ الأنظمة القمعية دخول بعض الكتب إلى مطاراتها. أما في اليمن فنحن أمام منعِ كتابٍ ظهر في اليمن، نُشِرَ ووزِّعَ فيها بحرية، ومُنِعَ من مغادرتها مع ذلك!
لكن... طائر الخراب، أليس العنوان صادما بعض الشيء؟
لعل اسم الرواية ينسجم مع لوحة الخراب التي تنقشها، والمواقع التي تمّ فيها استخدام تعبير "طائر الخراب" في الرواية تساهم برسم ملامح ذلك الطائر. أما عن عسكري المطار فلم أكن أتوقع أن مهمته التحقيق في درجة رومانسية عناوين الروايات! نجح عموما في منع الرواية من الخروج، في حين لا يستطيع منع الاعتداءات العسكرية على المطار أو خروج المجرمين والإرهابيين منه. هل فهمت ما أردت قوله..
ما الذى تحضِّر له الآن؟
ثمّة مشروع روائي طويل... أظن أن هدفه لا يكمن هنا في رسم لوحة الخراب العام الذي نعيشه في واقعنا العربي، بل في ملامسة نشوئه وتطوره وفهم الأسباب والظروف التي تجعل فيروساته تجتاح واقعنا وتتأبد فيه...
"ممتع أن يكون العالم بالمقلوب بين فترة وأخرى! أو بالأحري لا أتمني، إن كان لي أن أتمني، إلا أن يكون العالم دائما بالمقلوب ليمتلئ عدلا وصدقا وحبا ومساواة"... يتعجب من الواقع العربي، من قدرة الشعوب العربية علي التكيف والعيش ب"نصف حياة" علي حد تعبيره، مؤمن تماما بأن الشعوب العربية تعيش خطأ تاريخيا يحافظ علي تخلفها بنجاح منقطع النظير!...
حبيب عبد الرب سروري من مواليد 1956 بعدن، بروفيسور منذ 1992 يقوم بتدريس علوم الكمبيوتر في قسم الهندسه الرياضية في المعهد القومي للعلوم التطبيقية، وجامعة روان بفرنسا نشرت له العديد من الأبحاث والكتب العلمية بالفرنسيه والانجليزية، ورواية بالفرنسية (الملكة المغدورة) ترجمت الي العربية بعد ذلك نشر بعد ذلك مجموعه قصصية بعنوان (همسات حري من مملكة الموتي) وديوان شعر (شئ ما يشبه الحب) تلاها بكتاب (عن اليمن ماظهر منها وما بطن) ثم ثلاثية رائعة بعنوان (دملان) وأخيرا رواية (طائر الخراب) والتي منعت من مغادرة اليمن! نشر أول قصائده وهو في الرابعة عشره بمجلة الحكمه ليهجر بعدها الكتابة الإبداعية ويعود اليها بعد أكثر من عشرون عاما بالعنواين التي سبق ذكرها... حبيب زار القاهرة مؤخرا فالتقته أخبارالأدب وكان هذا الحوار.
بدأتَ بكتابة الشعر ثم هجرته إلى الرواية... لماذا ؟
لا أعتبر في الحقيقة أني هجرت الشعر لأني أعشقه عشقا وبنفس القوة السابقة، غير أني أحاول فقط تسريبه في إيقاع الرواية ولغتها، كما أظن وأتمنى. لعلّ أهم اكتشاف معرفي لي في فرنسا بعد الدراسة والبحث العلمي هو اكتشاف الرواية كفضاء حر شامل، كتقليد متجذِّر في أعماق المجتمع المدني، كمعملٍ كوني للخيال، لسردِ وإعادةِ خلق التجربة الإنسانية في أوسع مداها...
نشرتَ أولى أعمالك 1970 ثم توقفت حتى 98 هل كان ذلك مخططا؟ بمعنى أنك كنت تعلم أنك ستعود للكتابة مرة أخرى، يظهر ذلك من سرعة ظهور أعمالك كما لو كانت الكتابة تضغط عليك لتخرج من القمقم التى ظلت حبيسه له كل هذه المدة...
لم يكن مخططا بالمعني الحرفي للكلمة، كما أن توقفي لم يكن نهائياً فقد نشرتُ أولى أعمالي في 1970 في مجلة "الحكمة" اليمنية، وواصلتُ ذلك حتى قبيل سفري للدراسة الجامعية في فرنسا في 1976. انقطعتُ عن النشر تقريبا بعد ذلك للانكباب على الدراسة والبحث العلمي. مررت الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية (قسم الكمبيوتر) في 1987، ثم "دكتوراه التأهيل لقيادة الأبحاث" التي تسمح للتحول لبروفيسور جامعي في 1992. نشرت خلال تلك الفترة عددا من الكتب العلمية المتخصصة بالفرنسية والانجليزية وكثيرا من الأبحاث العلمية في المؤتمرات والمجلات الدولية. لم تنقطع علاقتي بالأدب تماما خلال تلك الفترة: انتظمَت إلى هذا الحد أو ذاك قراءتي الأدبية بالفرنسية، ووجدتُ نفسي بين الحين والحين المتباعدَين أكتب بالعربية نصّا شعريا أو نصف نص... غير أنه منذ 1992، بعد تحولي لبروفيسور جامعي، تمكَّنتُ من تنظيم وقتي بالطريقة التي تناسبني، وتعلّمت كيف اختلس وقتا ثابتاً للكتابة الأدبية، في الإجازات وعطل الأسبوع ورحلات الطائرات والقطارات... عدتُ إذن للكتابة منذ 1992 برواية "الملكة المغدورة" بالفرنسية التي نشرتها دار الأرماتان، لأن كل قراءاتي الأدبية حينها كانت بالفرنسية تقريبا، ولأن كثيراً من الكلمات العربية كانت قد تبخرت آنذاك. عندما أنهى الأستاذ علي زيد ترجمة هذه الرواية إلى العربية في 1998 انفتحت شهيتي مجددا للكتابة بالعربية، المتجذرة في ثقافتي الأولى. استفاقت، بعد قراءتي لترجمته، كثيرٌ من الكلمات المطمورة. عدت لقراءة الأعمال الأدبية بالعربية بجانب الفرنسية، بانتظام. نشرتُ بعد 1998 أول عمل لي بالعربية: مجموعة قصصية "همسات حرّى من مملكة الموتى"، تلاها ديوان شعر يضم قصائد قديمة وأعمال حديثة بعنوان "شيء ما يشبه الحب"، ثم الثلاثية الروائية "دملان"، تلاها كتاب يضم مجموعة مقالات ودراسات أدبية بعنوان: "عن اليمن، ما ظهر منها وما بطن"، وأخيرا رواية "طائر الخراب". كلُّ هذه الأعمال نُشِرت عن مؤسسة العفيف الثقافية في اليمن، ويمكن قراءتها أو شحنها كاملة من موقعي الأدبي: http://abdulrab.free.fr. أصبتَ عزيزي أسامة بقولك أن فترة عدم الكتابة، التي كرَّستُها للتعلم والبحث العلمي تماماً، امتلأت بمادة خامة ضاغطة شرعتُ باستثمارها بانتظام منذ 1992 بالفرنسية، ومنذ 1998 بالعربية... أتمنى لنفسي أن تكون استعارة القمقم التي استخدمتَها صائبة تماماً...
لكن متى بدأتَ رحلتك مع الكتابة: بمن تأثرتَ، مرجعيتك القرائية؟
بدأَتْ هذه الرحلة في البيئة الأسرية، في سنٍّ مبكر. كان والدي فقيهاً صوفيا وشغوفا بالشعر والأدب العربي القديم. "أجبرني" منذ السابعة من العمر على حفظ مئات أبيات الشعر وعلى قضاء ساعة يومية بصحبته يُدرّسني فيها الفقه والأدب والنحو والفرائض والتفسير... كانت حينها أضجر ساعات اليوم بامتياز. لكني أدين لها الآن كثيرا بتسريب عدوى الشغف، إذا جاز لي قول ذلك. مرجعية قراءاته كانت مرجعيتي الأولى دون شك. ثمّ منذ قبيل الرابعة عشر سنة بقليل، أسرَتْني مرجعيةٌ ثانية مختلفة تماماً ومعاكسة كليّةً: مرجعيّة بدايات السبعينات في جنوب اليمن وانفتاحها على أفكار التقدم والاشتراكية. تفتّحت آفاقنا حينها على الثقافة المصرية من توفيق الحكيم وسلامة موسى حتى الرائع أبداً محمود أمين العالم وغالي شكري، وبالطبع على ترجمات كثير من كبار أدباء وكتّاب الغرب. الأسماء كثيرة هنا، أذكر منها على سبيل المثال فقط في المجال الأدبي: هوجو، شكسبير، ديكنز، تولستوي، بودلير، رامبو... بدأت رحلتي مع الكتابة منذ الطفولة أيضا، إلا أن أول قصيدة نشرتها كانت في الرابعة عشرة في مجلة "الحكمة" اليمنية. ثم توسعت المرجعية القرائية بشكل كلّي، كمَّاً ونوعاً، على الكتابة المعاصرة ببعدها الفرنسي والعالمي، بعد سفري إلى فرنسا في 1976 لتعلّم اللغة الفرنسية والدراسة الجامعية...
تتمحور كتاباتك عن اليمن وحولها وربما تكون عنيفاً بعض الأحيان...
مقاطعاً: لا أعتبر محاولة الغوص باتجاه الجذر والحديث الجريء عن الواقع نوعا من العنف. لعل الخوف الذي أورثتنا إياه ثقافتنا السائدة، ثقافة "تقديس الجلّاد وتدنيس الضحية" هو ما يجعلنا نقول ذلك. العنف يكمن في طبيعة العلاقات الظالمة وفي جذور هذه الثقافة نفسها. أعتقد فعلا أن من واجب الفن ليس فقط أن يرسم لوحة خراب الواقع، كما أحاول رسمه أحيانا، بل أن يذهب أبعد من ذلك: أن يساهم بطريقته الخاصة، بكشف ولادة ونشوء وتطور ذلك الخراب وكيف أضحى اليوم الثابت الذي يعيد خلق نفسه في واقعنا يوميا... ربما هذه معالم بعض ما أكتبه وما أطمح كتابته. المهم أن كل ذلك يتم، كما أتمنى، في صفحات تنضح بالعشق والأحلام والمعاناة والأمل والضحك والسخرية... إذا كان مجمل ذلك ما تسميه المساهمة في التغيير، فأنا مع ذلك...
لكن تركز كتابتك حول اليمن ربما يعطي انطباعا بأنك تكتب رواية واحدة... كيف ترى هذا الانطباع ؟
اليمن ألف رواية ورواية، أو ربما حسب قولك رواية واحدة! رواية تدور في عالم عذريّ شبه مجهول، مملوء بالبراءة والطيبة والحب والأحلام المكبّلة. الضحك والسدر والكسل هم الخبز اليومي لبسطائه. لعله مثل مصر أيضاً: وَلعٌ أبديٌّ ومحنةٌ دائمة لمن عاش فيه. ثمّ هو بلدٌ يخلو تماماً من الرتابة، انشحن تاريخه الحديث بكل شيء تقريبا: الاستعمار الأجنبي، القبيلة التي تعيق أي تطور وحداثة والتي تغيَّرتْ أقنعتها الزائفة من نظام ادَّعى الماركسية في السبعينات والثمانينات إلى آخر يدعي الديموقراطية اليوم. الأول عجّ بالحروب والاغتيالات والثاني بالنهب والتخلف والتجويع والفساد... اليمن عالم يستنزفه الحرمان والتخلف. سوء التعليم والصحةّ ومستوى المعيشة فيه يتدهور بأرقام قياسية. غياب المصداقية والمشروع الحديث في إدارته صارخ جدّاً. اغتيال الرؤساء وكبار رجال السياسة فيه ثابتٌ متواصل. الموت فيه سهلٌ جدّاً مثل الماء والهواء (أو مثل الهواء فقط، لتفاقم مشاكل المياه فيه، دون حلٍّ أو تخطيط)... المكان فيه شديد التنوع أيضاً: صحاري وقمم جبلية تشرئب فيها قصورٌ ومدنٌ خرافية رائعة، بحارٌ يمكن العوم فيها طوال ساعات السنة، مدن تاريخية نقية الجمال، عراقة تفقع العين... المواد الأدبية الخامة التي يفرزها واقعٌ كهذا لا يمكن استنزافها، تتنوّع على الدوام. هي مثل جهنم تمتدُّ وتتسّعُ بشكل لانهائي، على إيقاع أهزوجة: "هل من مزيد؟"...
ألهذا يعاني معظم أبطال روايتك من الفشل.. وجدان، نشوان علي سبيل المثال.. فتركز علي الفشل كتيمة أساسية في أعمالك ؟ ولا يكون هناك حل لهذا الفشل سوى بالفنتازيا كما فعلت في دملان؟
فشلُ وجدان في ثلاثية "دملان" فشلٌ جذريٌّ نقيٌّ كامل. هو إنسانٌ لا يعرف التمرّد، متطرِّفٌ في خضوعه، رغم كل مواهبه وطيبته. تختلف حالة نشوان في "طائر الخراب" لأنه عكسه تماماً. لعلّه لم يفشل في مشروعه الشخصي لأنه مارس حريَّتَه وتمرَّد. لكن فشل الواقع، فشل الوطن كما قلتَ، إجتاحَهُ بالضرورة، وبشكلٍ غير متوقّع: رغم هروبه من الوطن وجد نشوان نفسه فجأة يغرق في أبشع مستنقعاته...
بنية "دملان" تتأسس على الحلم والفانتازيا والخيال. لعلّ ذلك يسمح بإجلاءٍ أفضل للواقع، بتوسيعهِ وإعادة تأثيثه، بالتسكّع الحر في ملابساته وزيفه وأسراره، بالتحليق بعيدا عنه والاتجاه نحو قعره في نفس الوقت...
ربما يدفعني ذلك لسؤالك حول الأمل في أعمالك فهل الصورة حقا سوداء قاتمة لهذه الدرجة؟
نعم الصورة قاتمة جدا! خذ مصر على سبيل المثال: ترتيبها في قائمة "مؤشر التنمية البشرية" للأمم المتحدة (أهم مؤشر في حياة الإنسان، لأنه يلخص كل ما هو هام وجوهري فيها: معدل دخل المواطن، مستوى خدمات التعليم والصحة الذي ينالها...) للعام الماضي: 118 (من بين 177 دولة). مصر، بكل عظمتها التاريخية، تجد نفسها على حافة الحضيض، في حين تجد اليابان نفسها في الدول الأولى في القائمة! لا تنسى أن اليابان لا تمتلك أي ثروات طبيعية، ولم تكن أكثر تقدماً من مصر قبل أقل من قرنين! خذ مثلا آخر، اليمن: رغم مواردها الطبيعية والبترولية وثرواتها السياحية، ترتيبها للعام الماضي هو 151. هي ضمن المجموعة الثالثة من الدول، التي يعيش أهلها بأقل من "نصف حياة" (لأن معدل النمو البشري في دول تلك المجموعة اقل من 0.5)! كان ترتيب اليمن 149 في العام الذي سبقه، و148 العام الذي قبله (أي أنها تقدَّمت "خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الخلف"...) هذه أمثلة فقط سببها واحد: ثمة خطأ جوهري جذري في واقعنا العربي. طالما جثم هذا الخطأ فلا أمل في الافق، في رأيي الشخصي...
وماهو هذا الخطأ ؟
الخطأ الجذري يكمن في ثقافتنا التي تُعلّمنا منذ الصغر كيف لا نفكر، كيف لا نتساءل، كيف لا نرفض... تعلمنا منذ المهد الخضوع والانسحاق. تقدّم لنا الوجود والكون بما يمنع أي تساؤل أو تفكير: ثمة إجابات غيبية شاملة لاعلمية حول كل أسس الكون والحياة. يحرم الطالب منذ المهد من مقومات العقل والتفكير الحديث...
الأنظمة التي تحافظ وتحمي هذه الثقافة لا تمتلك أي مشروع نهضوي حقيقي. تزجّ المواطن في دوامة اللهث على لقمة العيش، تحاصره بسياج من القمع والبيروقراطية والتخويف والإذلال، تحوّله في الأخير إلى جزء من جهازها الذي يعيد خلق نفسه منذ قرون، ويحافظ على تخلف واقعنا بنجاح منقطع النظير...
"من السهل أعطاء جائزة لأجمل قصيده عربيه تصف القمر لكن من الصعب تنظيم مسابقه لاختيار أجمل سفينة فضاء عربيه هبطت على سطح القمر" جملة اقتبستها من أحد حواراتك تدفعنى – ان لم أبكِ - أن أسألك هل نحن حقا كعرب مسؤلون فقط عن الجانب الجمالى أو الروحى والغرب مسؤل عن الجانب العلمى الحياتى هل يصح هذا التقسيم؟! وبشكلٍ شخصيّ، كيف تفصل بين "حبيب" العلمى والأدبى؟
لست أدري إذا كانت لنا كعرب مساهمات معاصرة تستحق الإشارة في الجانب الجمالي. في الجانب الروحي بمفهومه العلمي ليس لدينا أي مساهمات بالطبع. أقصد من وجهة نظر أن الروح نشاطٌ ذهنيٌّ خالص، يتم في عصبونات الدماغ، تدرسه علوم الذهن وعصبونات الدماغ والبيولوجيا والسيكولوجيا التطورية. أمّا في الجانب الروحي الذي يعتبر الروح "نفخة ميتافيزيقية في طين" تغادر الجسد عند الموت، مثل الجني الذي يغادر القمقم، فلنا بالتأكيد نظريات ومساهمات خارقة ورائدة، لا تتوقف!...
حول ثنائية "حبيب" العلمي والأدبي وعلاقتهما: ثمّة فترة تعايش سلميّة لذيذة بين الاثنين عندما يتقاسمان المواسم (موسما الكتابة الأدبية والعلميّة) بعدل وتناغم وكياسة مدنيّة. وثمّة فترات تناحرية بينهما، عندما يكون حبيب بصدد عمل علمي ملحٍّ ومهم ويبرز في نفس الوقت مشروع كتابة أدبية يرفض الانتظار. يكتشف حينها حلاوة الآية القرآنية: "ما جعلَ الله لرجلٍ من قلبين في جوفه"! عبّرتُ عن هذه العلاقة الديالكتيكية بين "حبيب" العلمى والأدبى، حسب تعبيرك، في قصّة اسمها "أبجد 69"، ضمن مجموعة "همسات حرّى من مملكة الموتى" التي كتبتها في إحدى لحظات معمعان الصراع بين الاثنين...
ما حكايتك مع المصادرة؟
الرواية الأخيرة: "طائر الخراب" مُنِعت من مغادرة مطار صنعاء! بدأ ذلك عندما أوقف عسكريُّ المطار سيداً عزيزاً، مسافراً إلى فرنسا لعلاج أمراض القلب، يحمل لي أولى النسخ من الرواية. قال له العسكري: لو كان الكاتب أديباً لأسماها "طائر الحب، أو طائر الأشجان"، ومنعه من السفر مع الرواية! أضاع المسافر رحلته. ثمّ توالى المنع الذي أدانه إتحاد الكتاب في اليمن. لعلّ هذه المصادرة أضافت في رأيي نقلة نوعية (لها ألوان يمنية خالصة) لنظرية القمع والرقابة الأدبية: عادةً ما تَمنعُ الأنظمة القمعية دخول بعض الكتب إلى مطاراتها. أما في اليمن فنحن أمام منعِ كتابٍ ظهر في اليمن، نُشِرَ ووزِّعَ فيها بحرية، ومُنِعَ من مغادرتها مع ذلك!
لكن... طائر الخراب، أليس العنوان صادما بعض الشيء؟
لعل اسم الرواية ينسجم مع لوحة الخراب التي تنقشها، والمواقع التي تمّ فيها استخدام تعبير "طائر الخراب" في الرواية تساهم برسم ملامح ذلك الطائر. أما عن عسكري المطار فلم أكن أتوقع أن مهمته التحقيق في درجة رومانسية عناوين الروايات! نجح عموما في منع الرواية من الخروج، في حين لا يستطيع منع الاعتداءات العسكرية على المطار أو خروج المجرمين والإرهابيين منه. هل فهمت ما أردت قوله..
ما الذى تحضِّر له الآن؟
ثمّة مشروع روائي طويل... أظن أن هدفه لا يكمن هنا في رسم لوحة الخراب العام الذي نعيشه في واقعنا العربي، بل في ملامسة نشوئه وتطوره وفهم الأسباب والظروف التي تجعل فيروساته تجتاح واقعنا وتتأبد فيه...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.