تعز.. اعتصام واحتجاجات نسائية للمطالبة بضبط قتلة المشهري وتقديمهم للعدالة    شرطة تعز تعلن القبض على متهم بقتل مدير صندوق النظافة والتحسين    إصلاح المتون والزاهر والمطمة بالجوف يحتفل بالذكرى ال35 للتأسيس    مسيرات حاشدة بمأرب نصرة لغزة وتنديدا باستمرار جرائم الإبادة    القسام توقع آليات لقوة صهيونية في كمين نوعي شمال غزة    الرئيس المشاط يعزي في وفاة الشيخ عبد الله أحمد القاضي    بن حبريش: نصف أمّي يحصل على بكلاريوس شريعة وقانون    المركز الثقافي بالقاهرة يشهد توقيع " التعايش الإنساني ..الواقع والمأمون"    رئيس الاتحاد الأفريقي للكرة الطائرة تكرم محمد صالح الشكشاكي خلال بطولة أفريقيا للشباب بالقاهرة    الرشيد يتأهل إلى نهائي بطولة "بيسان الكروية 2025"    العليمي أصدر مئات القرارات في الظلام.. حان الوقت لفتح الملفات    متفوقاً على ميسي.. هالاند يكتب التاريخ في دوري الأبطال    ريمة .. مسيرات جماهيرية تحت شعار "مع غزة .. لن نقبل بعار الخذلان مهما كانت جرائم العدوان"    نتنياهو يطرد أردوغان من سوريا    أين ذهبت السيولة إذا لم تصل الى الشعب    مانشستر سيتي يتفوق على نابولي وبرشلونة يقتنص الفوز من نيوكاسل    الربيزي يُعزي في وفاة المناضل أديب العيسي    محافظة الجوف: نهضة زراعية غير مسبوقة بفضل ثورة ال 21 من سبتمبر    الأرصاد يخفض الإنذار إلى تحذير وخبير في الطقس يؤكد تلاشي المنخفض الجوي.. التوقعات تشير إلى استمرار الهطول    الكوليرا تفتك ب2500 شخصًا في السودان    جائزة الكرة الذهبية.. موعد الحفل والمرشحون    البوندسليجا حصرياً على أثير عدنية FM بالشراكة مع دويتشه فيله    لماذا تراجع "اليدومي" عن اعترافه بعلاقة حزبه بالإخوان المسلمين    جنوبيا.. بيان الرئاسي مخيب للآمال    صندوق النظافة بتعز يعلن الاضراب الشامل حتى ضبط قتلة المشهري    تعز.. إصابة طالب جامعي في حادثة اغتيال مدير صندوق النظافة    سريع يعلن عن ثلاث عمليات عسكرية في فلسطين المحتلة    وعن مشاكل المفصعين في تعز    الصمت شراكة في إثم الدم    الفرار من الحرية الى الحرية    ثورة 26 سبتمبر: ملاذٌ للهوية وهُويةٌ للملاذ..!!    مسيّرة تصيب فندقا في فلسطين المحتلة والجيش الاسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ ومسيّرة ثانية    الهيئة العامة للآثار تنشر القائمة (28) بالآثار اليمنية المنهوبة    إشهار جائزة التميز التجاري والصناعي بصنعاء    البنك المركزي يوجه بتجميد حسابات منظمات المجتمع المدني وإيقاف فتح حسابات جديدة    الوفد الحكومي برئاسة لملس يطلع على تجربة المدرسة الحزبية لبلدية شنغهاي الصينية    نائب وزير الإعلام يطّلع على أنشطة مكتبي السياحة والثقافة بالعاصمة عدن    بتمويل إماراتي.. افتتاح مدرسة الحنك للبنات بمديرية نصاب    تعز.. احتجاجات لعمال النظافة للمطالبة بسرعة ضبط قاتل مديرة الصندوق    موت يا حمار    أمين عام الإصلاح يعزي الشيخ العيسي بوفاة نجل شقيقه ويشيد بدور الراحل في المقاومة    نتائج مباريات الأربعاء في أبطال أوروبا    دوري أبطال آسيا الثاني: النصر يدك شباك استقلال الطاجيكي بخماسية    رئيس هيئة النقل البري يعزي الزميل محمد أديب العيسي بوفاة والده    حكومة صنعاء تعمم بشأن حالات التعاقد في الوظائف الدائمة    الامم المتحدة: تضرر آلاف اليمنيين جراء الفيضانات منذ أغسطس الماضي    استنفاد الخطاب وتكرار المطالب    التضخم في بريطانيا يسجل 3.8% في أغسطس الماضي    لملس يزور ميناء يانغشان في شنغهاي.. أول ميناء رقمي في العالم    وادي الملوك وصخرة السلاطين نواتي يافع    العرب أمة بلا روح العروبة: صناعة الحاكم الغريب    خواطر سرية..( الحبر الأحمر )    اكتشاف نقطة ضعف جديدة في الخلايا السرطانية    100 دجاجة لن تأكل بسه: قمة الدوحة بين الأمل بالنجاة أو فريسة لإسرائيل    في محراب النفس المترعة..    بدء أعمال المؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم في صنعاء    العليمي وشرعية الأعمى في بيت من لحم    6 نصائح للنوم سريعاً ومقاومة الأرق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائي والشاعر وعالم الكمبيوتر اليمني حبيب سروري : ثقافتنا تعلمنا منذ المهد الخضوع والانسحاق !
نشر في التغيير يوم 02 - 10 - 2006

"ممتع أن يكون العالم بالمقلوب بين فترة وأخرى! أو بالأحري لا أتمني، إن كان لي أن أتمني، إلا أن يكون العالم دائما بالمقلوب ليمتلئ عدلا وصدقا وحبا ومساواة"... يتعجب من الواقع العربي، من قدرة الشعوب العربية علي التكيف والعيش ب"نصف حياة" علي حد تعبيره، مؤمن تماما بأن الشعوب العربية تعيش خطأ تاريخيا يحافظ علي تخلفها بنجاح منقطع النظير!...
حبيب عبد الرب سروري من مواليد 1956 بعدن، بروفيسور منذ 1992 يقوم بتدريس علوم الكمبيوتر في قسم الهندسه الرياضية في المعهد القومي للعلوم التطبيقية، وجامعة روان بفرنسا نشرت له العديد من الأبحاث والكتب العلمية بالفرنسيه والانجليزية، ورواية بالفرنسية (الملكة المغدورة) ترجمت الي العربية بعد ذلك نشر بعد ذلك مجموعه قصصية بعنوان (همسات حري من مملكة الموتي) وديوان شعر (شئ ما يشبه الحب) تلاها بكتاب (عن اليمن ماظهر منها وما بطن) ثم ثلاثية رائعة بعنوان (دملان) وأخيرا رواية (طائر الخراب) والتي منعت من مغادرة اليمن! نشر أول قصائده وهو في الرابعة عشره بمجلة الحكمه ليهجر بعدها الكتابة الإبداعية ويعود اليها بعد أكثر من عشرون عاما بالعنواين التي سبق ذكرها... حبيب زار القاهرة مؤخرا فالتقته أخبارالأدب وكان هذا الحوار.
بدأتَ بكتابة الشعر ثم هجرته إلى الرواية... لماذا ؟
لا أعتبر في الحقيقة أني هجرت الشعر لأني أعشقه عشقا وبنفس القوة السابقة، غير أني أحاول فقط تسريبه في إيقاع الرواية ولغتها، كما أظن وأتمنى. لعلّ أهم اكتشاف معرفي لي في فرنسا بعد الدراسة والبحث العلمي هو اكتشاف الرواية كفضاء حر شامل، كتقليد متجذِّر في أعماق المجتمع المدني، كمعملٍ كوني للخيال، لسردِ وإعادةِ خلق التجربة الإنسانية في أوسع مداها...
نشرتَ أولى أعمالك 1970 ثم توقفت حتى 98 هل كان ذلك مخططا؟ بمعنى أنك كنت تعلم أنك ستعود للكتابة مرة أخرى، يظهر ذلك من سرعة ظهور أعمالك كما لو كانت الكتابة تضغط عليك لتخرج من القمقم التى ظلت حبيسه له كل هذه المدة...
لم يكن مخططا بالمعني الحرفي للكلمة، كما أن توقفي لم يكن نهائياً فقد نشرتُ أولى أعمالي في 1970 في مجلة "الحكمة" اليمنية، وواصلتُ ذلك حتى قبيل سفري للدراسة الجامعية في فرنسا في 1976. انقطعتُ عن النشر تقريبا بعد ذلك للانكباب على الدراسة والبحث العلمي. مررت الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية (قسم الكمبيوتر) في 1987، ثم "دكتوراه التأهيل لقيادة الأبحاث" التي تسمح للتحول لبروفيسور جامعي في 1992. نشرت خلال تلك الفترة عددا من الكتب العلمية المتخصصة بالفرنسية والانجليزية وكثيرا من الأبحاث العلمية في المؤتمرات والمجلات الدولية. لم تنقطع علاقتي بالأدب تماما خلال تلك الفترة: انتظمَت إلى هذا الحد أو ذاك قراءتي الأدبية بالفرنسية، ووجدتُ نفسي بين الحين والحين المتباعدَين أكتب بالعربية نصّا شعريا أو نصف نص... غير أنه منذ 1992، بعد تحولي لبروفيسور جامعي، تمكَّنتُ من تنظيم وقتي بالطريقة التي تناسبني، وتعلّمت كيف اختلس وقتا ثابتاً للكتابة الأدبية، في الإجازات وعطل الأسبوع ورحلات الطائرات والقطارات... عدتُ إذن للكتابة منذ 1992 برواية "الملكة المغدورة" بالفرنسية التي نشرتها دار الأرماتان، لأن كل قراءاتي الأدبية حينها كانت بالفرنسية تقريبا، ولأن كثيراً من الكلمات العربية كانت قد تبخرت آنذاك. عندما أنهى الأستاذ علي زيد ترجمة هذه الرواية إلى العربية في 1998 انفتحت شهيتي مجددا للكتابة بالعربية، المتجذرة في ثقافتي الأولى. استفاقت، بعد قراءتي لترجمته، كثيرٌ من الكلمات المطمورة. عدت لقراءة الأعمال الأدبية بالعربية بجانب الفرنسية، بانتظام. نشرتُ بعد 1998 أول عمل لي بالعربية: مجموعة قصصية "همسات حرّى من مملكة الموتى"، تلاها ديوان شعر يضم قصائد قديمة وأعمال حديثة بعنوان "شيء ما يشبه الحب"، ثم الثلاثية الروائية "دملان"، تلاها كتاب يضم مجموعة مقالات ودراسات أدبية بعنوان: "عن اليمن، ما ظهر منها وما بطن"، وأخيرا رواية "طائر الخراب". كلُّ هذه الأعمال نُشِرت عن مؤسسة العفيف الثقافية في اليمن، ويمكن قراءتها أو شحنها كاملة من موقعي الأدبي: http://abdulrab.free.fr. أصبتَ عزيزي أسامة بقولك أن فترة عدم الكتابة، التي كرَّستُها للتعلم والبحث العلمي تماماً، امتلأت بمادة خامة ضاغطة شرعتُ باستثمارها بانتظام منذ 1992 بالفرنسية، ومنذ 1998 بالعربية... أتمنى لنفسي أن تكون استعارة القمقم التي استخدمتَها صائبة تماماً...
لكن متى بدأتَ رحلتك مع الكتابة: بمن تأثرتَ، مرجعيتك القرائية؟
بدأَتْ هذه الرحلة في البيئة الأسرية، في سنٍّ مبكر. كان والدي فقيهاً صوفيا وشغوفا بالشعر والأدب العربي القديم. "أجبرني" منذ السابعة من العمر على حفظ مئات أبيات الشعر وعلى قضاء ساعة يومية بصحبته يُدرّسني فيها الفقه والأدب والنحو والفرائض والتفسير... كانت حينها أضجر ساعات اليوم بامتياز. لكني أدين لها الآن كثيرا بتسريب عدوى الشغف، إذا جاز لي قول ذلك. مرجعية قراءاته كانت مرجعيتي الأولى دون شك. ثمّ منذ قبيل الرابعة عشر سنة بقليل، أسرَتْني مرجعيةٌ ثانية مختلفة تماماً ومعاكسة كليّةً: مرجعيّة بدايات السبعينات في جنوب اليمن وانفتاحها على أفكار التقدم والاشتراكية. تفتّحت آفاقنا حينها على الثقافة المصرية من توفيق الحكيم وسلامة موسى حتى الرائع أبداً محمود أمين العالم وغالي شكري، وبالطبع على ترجمات كثير من كبار أدباء وكتّاب الغرب. الأسماء كثيرة هنا، أذكر منها على سبيل المثال فقط في المجال الأدبي: هوجو، شكسبير، ديكنز، تولستوي، بودلير، رامبو... بدأت رحلتي مع الكتابة منذ الطفولة أيضا، إلا أن أول قصيدة نشرتها كانت في الرابعة عشرة في مجلة "الحكمة" اليمنية. ثم توسعت المرجعية القرائية بشكل كلّي، كمَّاً ونوعاً، على الكتابة المعاصرة ببعدها الفرنسي والعالمي، بعد سفري إلى فرنسا في 1976 لتعلّم اللغة الفرنسية والدراسة الجامعية...
تتمحور كتاباتك عن اليمن وحولها وربما تكون عنيفاً بعض الأحيان...
مقاطعاً: لا أعتبر محاولة الغوص باتجاه الجذر والحديث الجريء عن الواقع نوعا من العنف. لعل الخوف الذي أورثتنا إياه ثقافتنا السائدة، ثقافة "تقديس الجلّاد وتدنيس الضحية" هو ما يجعلنا نقول ذلك. العنف يكمن في طبيعة العلاقات الظالمة وفي جذور هذه الثقافة نفسها. أعتقد فعلا أن من واجب الفن ليس فقط أن يرسم لوحة خراب الواقع، كما أحاول رسمه أحيانا، بل أن يذهب أبعد من ذلك: أن يساهم بطريقته الخاصة، بكشف ولادة ونشوء وتطور ذلك الخراب وكيف أضحى اليوم الثابت الذي يعيد خلق نفسه في واقعنا يوميا... ربما هذه معالم بعض ما أكتبه وما أطمح كتابته. المهم أن كل ذلك يتم، كما أتمنى، في صفحات تنضح بالعشق والأحلام والمعاناة والأمل والضحك والسخرية... إذا كان مجمل ذلك ما تسميه المساهمة في التغيير، فأنا مع ذلك...
لكن تركز كتابتك حول اليمن ربما يعطي انطباعا بأنك تكتب رواية واحدة... كيف ترى هذا الانطباع ؟
اليمن ألف رواية ورواية، أو ربما حسب قولك رواية واحدة! رواية تدور في عالم عذريّ شبه مجهول، مملوء بالبراءة والطيبة والحب والأحلام المكبّلة. الضحك والسدر والكسل هم الخبز اليومي لبسطائه. لعله مثل مصر أيضاً: وَلعٌ أبديٌّ ومحنةٌ دائمة لمن عاش فيه. ثمّ هو بلدٌ يخلو تماماً من الرتابة، انشحن تاريخه الحديث بكل شيء تقريبا: الاستعمار الأجنبي، القبيلة التي تعيق أي تطور وحداثة والتي تغيَّرتْ أقنعتها الزائفة من نظام ادَّعى الماركسية في السبعينات والثمانينات إلى آخر يدعي الديموقراطية اليوم. الأول عجّ بالحروب والاغتيالات والثاني بالنهب والتخلف والتجويع والفساد... اليمن عالم يستنزفه الحرمان والتخلف. سوء التعليم والصحةّ ومستوى المعيشة فيه يتدهور بأرقام قياسية. غياب المصداقية والمشروع الحديث في إدارته صارخ جدّاً. اغتيال الرؤساء وكبار رجال السياسة فيه ثابتٌ متواصل. الموت فيه سهلٌ جدّاً مثل الماء والهواء (أو مثل الهواء فقط، لتفاقم مشاكل المياه فيه، دون حلٍّ أو تخطيط)... المكان فيه شديد التنوع أيضاً: صحاري وقمم جبلية تشرئب فيها قصورٌ ومدنٌ خرافية رائعة، بحارٌ يمكن العوم فيها طوال ساعات السنة، مدن تاريخية نقية الجمال، عراقة تفقع العين... المواد الأدبية الخامة التي يفرزها واقعٌ كهذا لا يمكن استنزافها، تتنوّع على الدوام. هي مثل جهنم تمتدُّ وتتسّعُ بشكل لانهائي، على إيقاع أهزوجة: "هل من مزيد؟"...
ألهذا يعاني معظم أبطال روايتك من الفشل.. وجدان، نشوان علي سبيل المثال.. فتركز علي الفشل كتيمة أساسية في أعمالك ؟ ولا يكون هناك حل لهذا الفشل سوى بالفنتازيا كما فعلت في دملان؟
فشلُ وجدان في ثلاثية "دملان" فشلٌ جذريٌّ نقيٌّ كامل. هو إنسانٌ لا يعرف التمرّد، متطرِّفٌ في خضوعه، رغم كل مواهبه وطيبته. تختلف حالة نشوان في "طائر الخراب" لأنه عكسه تماماً. لعلّه لم يفشل في مشروعه الشخصي لأنه مارس حريَّتَه وتمرَّد. لكن فشل الواقع، فشل الوطن كما قلتَ، إجتاحَهُ بالضرورة، وبشكلٍ غير متوقّع: رغم هروبه من الوطن وجد نشوان نفسه فجأة يغرق في أبشع مستنقعاته...
بنية "دملان" تتأسس على الحلم والفانتازيا والخيال. لعلّ ذلك يسمح بإجلاءٍ أفضل للواقع، بتوسيعهِ وإعادة تأثيثه، بالتسكّع الحر في ملابساته وزيفه وأسراره، بالتحليق بعيدا عنه والاتجاه نحو قعره في نفس الوقت...
ربما يدفعني ذلك لسؤالك حول الأمل في أعمالك فهل الصورة حقا سوداء قاتمة لهذه الدرجة؟
نعم الصورة قاتمة جدا! خذ مصر على سبيل المثال: ترتيبها في قائمة "مؤشر التنمية البشرية" للأمم المتحدة (أهم مؤشر في حياة الإنسان، لأنه يلخص كل ما هو هام وجوهري فيها: معدل دخل المواطن، مستوى خدمات التعليم والصحة الذي ينالها...) للعام الماضي: 118 (من بين 177 دولة). مصر، بكل عظمتها التاريخية، تجد نفسها على حافة الحضيض، في حين تجد اليابان نفسها في الدول الأولى في القائمة! لا تنسى أن اليابان لا تمتلك أي ثروات طبيعية، ولم تكن أكثر تقدماً من مصر قبل أقل من قرنين! خذ مثلا آخر، اليمن: رغم مواردها الطبيعية والبترولية وثرواتها السياحية، ترتيبها للعام الماضي هو 151. هي ضمن المجموعة الثالثة من الدول، التي يعيش أهلها بأقل من "نصف حياة" (لأن معدل النمو البشري في دول تلك المجموعة اقل من 0.5)! كان ترتيب اليمن 149 في العام الذي سبقه، و148 العام الذي قبله (أي أنها تقدَّمت "خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الخلف"...) هذه أمثلة فقط سببها واحد: ثمة خطأ جوهري جذري في واقعنا العربي. طالما جثم هذا الخطأ فلا أمل في الافق، في رأيي الشخصي...
وماهو هذا الخطأ ؟
الخطأ الجذري يكمن في ثقافتنا التي تُعلّمنا منذ الصغر كيف لا نفكر، كيف لا نتساءل، كيف لا نرفض... تعلمنا منذ المهد الخضوع والانسحاق. تقدّم لنا الوجود والكون بما يمنع أي تساؤل أو تفكير: ثمة إجابات غيبية شاملة لاعلمية حول كل أسس الكون والحياة. يحرم الطالب منذ المهد من مقومات العقل والتفكير الحديث...
الأنظمة التي تحافظ وتحمي هذه الثقافة لا تمتلك أي مشروع نهضوي حقيقي. تزجّ المواطن في دوامة اللهث على لقمة العيش، تحاصره بسياج من القمع والبيروقراطية والتخويف والإذلال، تحوّله في الأخير إلى جزء من جهازها الذي يعيد خلق نفسه منذ قرون، ويحافظ على تخلف واقعنا بنجاح منقطع النظير...
"من السهل أعطاء جائزة لأجمل قصيده عربيه تصف القمر لكن من الصعب تنظيم مسابقه لاختيار أجمل سفينة فضاء عربيه هبطت على سطح القمر" جملة اقتبستها من أحد حواراتك تدفعنى – ان لم أبكِ - أن أسألك هل نحن حقا كعرب مسؤلون فقط عن الجانب الجمالى أو الروحى والغرب مسؤل عن الجانب العلمى الحياتى هل يصح هذا التقسيم؟! وبشكلٍ شخصيّ، كيف تفصل بين "حبيب" العلمى والأدبى؟
لست أدري إذا كانت لنا كعرب مساهمات معاصرة تستحق الإشارة في الجانب الجمالي. في الجانب الروحي بمفهومه العلمي ليس لدينا أي مساهمات بالطبع. أقصد من وجهة نظر أن الروح نشاطٌ ذهنيٌّ خالص، يتم في عصبونات الدماغ، تدرسه علوم الذهن وعصبونات الدماغ والبيولوجيا والسيكولوجيا التطورية. أمّا في الجانب الروحي الذي يعتبر الروح "نفخة ميتافيزيقية في طين" تغادر الجسد عند الموت، مثل الجني الذي يغادر القمقم، فلنا بالتأكيد نظريات ومساهمات خارقة ورائدة، لا تتوقف!...
حول ثنائية "حبيب" العلمي والأدبي وعلاقتهما: ثمّة فترة تعايش سلميّة لذيذة بين الاثنين عندما يتقاسمان المواسم (موسما الكتابة الأدبية والعلميّة) بعدل وتناغم وكياسة مدنيّة. وثمّة فترات تناحرية بينهما، عندما يكون حبيب بصدد عمل علمي ملحٍّ ومهم ويبرز في نفس الوقت مشروع كتابة أدبية يرفض الانتظار. يكتشف حينها حلاوة الآية القرآنية: "ما جعلَ الله لرجلٍ من قلبين في جوفه"! عبّرتُ عن هذه العلاقة الديالكتيكية بين "حبيب" العلمى والأدبى، حسب تعبيرك، في قصّة اسمها "أبجد 69"، ضمن مجموعة "همسات حرّى من مملكة الموتى" التي كتبتها في إحدى لحظات معمعان الصراع بين الاثنين...
ما حكايتك مع المصادرة؟
الرواية الأخيرة: "طائر الخراب" مُنِعت من مغادرة مطار صنعاء! بدأ ذلك عندما أوقف عسكريُّ المطار سيداً عزيزاً، مسافراً إلى فرنسا لعلاج أمراض القلب، يحمل لي أولى النسخ من الرواية. قال له العسكري: لو كان الكاتب أديباً لأسماها "طائر الحب، أو طائر الأشجان"، ومنعه من السفر مع الرواية! أضاع المسافر رحلته. ثمّ توالى المنع الذي أدانه إتحاد الكتاب في اليمن. لعلّ هذه المصادرة أضافت في رأيي نقلة نوعية (لها ألوان يمنية خالصة) لنظرية القمع والرقابة الأدبية: عادةً ما تَمنعُ الأنظمة القمعية دخول بعض الكتب إلى مطاراتها. أما في اليمن فنحن أمام منعِ كتابٍ ظهر في اليمن، نُشِرَ ووزِّعَ فيها بحرية، ومُنِعَ من مغادرتها مع ذلك!
لكن... طائر الخراب، أليس العنوان صادما بعض الشيء؟
لعل اسم الرواية ينسجم مع لوحة الخراب التي تنقشها، والمواقع التي تمّ فيها استخدام تعبير "طائر الخراب" في الرواية تساهم برسم ملامح ذلك الطائر. أما عن عسكري المطار فلم أكن أتوقع أن مهمته التحقيق في درجة رومانسية عناوين الروايات! نجح عموما في منع الرواية من الخروج، في حين لا يستطيع منع الاعتداءات العسكرية على المطار أو خروج المجرمين والإرهابيين منه. هل فهمت ما أردت قوله..
ما الذى تحضِّر له الآن؟
ثمّة مشروع روائي طويل... أظن أن هدفه لا يكمن هنا في رسم لوحة الخراب العام الذي نعيشه في واقعنا العربي، بل في ملامسة نشوئه وتطوره وفهم الأسباب والظروف التي تجعل فيروساته تجتاح واقعنا وتتأبد فيه...
"ممتع أن يكون العالم بالمقلوب بين فترة وأخرى! أو بالأحري لا أتمني، إن كان لي أن أتمني، إلا أن يكون العالم دائما بالمقلوب ليمتلئ عدلا وصدقا وحبا ومساواة"... يتعجب من الواقع العربي، من قدرة الشعوب العربية علي التكيف والعيش ب"نصف حياة" علي حد تعبيره، مؤمن تماما بأن الشعوب العربية تعيش خطأ تاريخيا يحافظ علي تخلفها بنجاح منقطع النظير!...
حبيب عبد الرب سروري من مواليد 1956 بعدن، بروفيسور منذ 1992 يقوم بتدريس علوم الكمبيوتر في قسم الهندسه الرياضية في المعهد القومي للعلوم التطبيقية، وجامعة روان بفرنسا نشرت له العديد من الأبحاث والكتب العلمية بالفرنسيه والانجليزية، ورواية بالفرنسية (الملكة المغدورة) ترجمت الي العربية بعد ذلك نشر بعد ذلك مجموعه قصصية بعنوان (همسات حري من مملكة الموتي) وديوان شعر (شئ ما يشبه الحب) تلاها بكتاب (عن اليمن ماظهر منها وما بطن) ثم ثلاثية رائعة بعنوان (دملان) وأخيرا رواية (طائر الخراب) والتي منعت من مغادرة اليمن! نشر أول قصائده وهو في الرابعة عشره بمجلة الحكمه ليهجر بعدها الكتابة الإبداعية ويعود اليها بعد أكثر من عشرون عاما بالعنواين التي سبق ذكرها... حبيب زار القاهرة مؤخرا فالتقته أخبارالأدب وكان هذا الحوار.
بدأتَ بكتابة الشعر ثم هجرته إلى الرواية... لماذا ؟
لا أعتبر في الحقيقة أني هجرت الشعر لأني أعشقه عشقا وبنفس القوة السابقة، غير أني أحاول فقط تسريبه في إيقاع الرواية ولغتها، كما أظن وأتمنى. لعلّ أهم اكتشاف معرفي لي في فرنسا بعد الدراسة والبحث العلمي هو اكتشاف الرواية كفضاء حر شامل، كتقليد متجذِّر في أعماق المجتمع المدني، كمعملٍ كوني للخيال، لسردِ وإعادةِ خلق التجربة الإنسانية في أوسع مداها...
نشرتَ أولى أعمالك 1970 ثم توقفت حتى 98 هل كان ذلك مخططا؟ بمعنى أنك كنت تعلم أنك ستعود للكتابة مرة أخرى، يظهر ذلك من سرعة ظهور أعمالك كما لو كانت الكتابة تضغط عليك لتخرج من القمقم التى ظلت حبيسه له كل هذه المدة...
لم يكن مخططا بالمعني الحرفي للكلمة، كما أن توقفي لم يكن نهائياً فقد نشرتُ أولى أعمالي في 1970 في مجلة "الحكمة" اليمنية، وواصلتُ ذلك حتى قبيل سفري للدراسة الجامعية في فرنسا في 1976. انقطعتُ عن النشر تقريبا بعد ذلك للانكباب على الدراسة والبحث العلمي. مررت الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية (قسم الكمبيوتر) في 1987، ثم "دكتوراه التأهيل لقيادة الأبحاث" التي تسمح للتحول لبروفيسور جامعي في 1992. نشرت خلال تلك الفترة عددا من الكتب العلمية المتخصصة بالفرنسية والانجليزية وكثيرا من الأبحاث العلمية في المؤتمرات والمجلات الدولية. لم تنقطع علاقتي بالأدب تماما خلال تلك الفترة: انتظمَت إلى هذا الحد أو ذاك قراءتي الأدبية بالفرنسية، ووجدتُ نفسي بين الحين والحين المتباعدَين أكتب بالعربية نصّا شعريا أو نصف نص... غير أنه منذ 1992، بعد تحولي لبروفيسور جامعي، تمكَّنتُ من تنظيم وقتي بالطريقة التي تناسبني، وتعلّمت كيف اختلس وقتا ثابتاً للكتابة الأدبية، في الإجازات وعطل الأسبوع ورحلات الطائرات والقطارات... عدتُ إذن للكتابة منذ 1992 برواية "الملكة المغدورة" بالفرنسية التي نشرتها دار الأرماتان، لأن كل قراءاتي الأدبية حينها كانت بالفرنسية تقريبا، ولأن كثيراً من الكلمات العربية كانت قد تبخرت آنذاك. عندما أنهى الأستاذ علي زيد ترجمة هذه الرواية إلى العربية في 1998 انفتحت شهيتي مجددا للكتابة بالعربية، المتجذرة في ثقافتي الأولى. استفاقت، بعد قراءتي لترجمته، كثيرٌ من الكلمات المطمورة. عدت لقراءة الأعمال الأدبية بالعربية بجانب الفرنسية، بانتظام. نشرتُ بعد 1998 أول عمل لي بالعربية: مجموعة قصصية "همسات حرّى من مملكة الموتى"، تلاها ديوان شعر يضم قصائد قديمة وأعمال حديثة بعنوان "شيء ما يشبه الحب"، ثم الثلاثية الروائية "دملان"، تلاها كتاب يضم مجموعة مقالات ودراسات أدبية بعنوان: "عن اليمن، ما ظهر منها وما بطن"، وأخيرا رواية "طائر الخراب". كلُّ هذه الأعمال نُشِرت عن مؤسسة العفيف الثقافية في اليمن، ويمكن قراءتها أو شحنها كاملة من موقعي الأدبي: http://abdulrab.free.fr. أصبتَ عزيزي أسامة بقولك أن فترة عدم الكتابة، التي كرَّستُها للتعلم والبحث العلمي تماماً، امتلأت بمادة خامة ضاغطة شرعتُ باستثمارها بانتظام منذ 1992 بالفرنسية، ومنذ 1998 بالعربية... أتمنى لنفسي أن تكون استعارة القمقم التي استخدمتَها صائبة تماماً...
لكن متى بدأتَ رحلتك مع الكتابة: بمن تأثرتَ، مرجعيتك القرائية؟
بدأَتْ هذه الرحلة في البيئة الأسرية، في سنٍّ مبكر. كان والدي فقيهاً صوفيا وشغوفا بالشعر والأدب العربي القديم. "أجبرني" منذ السابعة من العمر على حفظ مئات أبيات الشعر وعلى قضاء ساعة يومية بصحبته يُدرّسني فيها الفقه والأدب والنحو والفرائض والتفسير... كانت حينها أضجر ساعات اليوم بامتياز. لكني أدين لها الآن كثيرا بتسريب عدوى الشغف، إذا جاز لي قول ذلك. مرجعية قراءاته كانت مرجعيتي الأولى دون شك. ثمّ منذ قبيل الرابعة عشر سنة بقليل، أسرَتْني مرجعيةٌ ثانية مختلفة تماماً ومعاكسة كليّةً: مرجعيّة بدايات السبعينات في جنوب اليمن وانفتاحها على أفكار التقدم والاشتراكية. تفتّحت آفاقنا حينها على الثقافة المصرية من توفيق الحكيم وسلامة موسى حتى الرائع أبداً محمود أمين العالم وغالي شكري، وبالطبع على ترجمات كثير من كبار أدباء وكتّاب الغرب. الأسماء كثيرة هنا، أذكر منها على سبيل المثال فقط في المجال الأدبي: هوجو، شكسبير، ديكنز، تولستوي، بودلير، رامبو... بدأت رحلتي مع الكتابة منذ الطفولة أيضا، إلا أن أول قصيدة نشرتها كانت في الرابعة عشرة في مجلة "الحكمة" اليمنية. ثم توسعت المرجعية القرائية بشكل كلّي، كمَّاً ونوعاً، على الكتابة المعاصرة ببعدها الفرنسي والعالمي، بعد سفري إلى فرنسا في 1976 لتعلّم اللغة الفرنسية والدراسة الجامعية...
تتمحور كتاباتك عن اليمن وحولها وربما تكون عنيفاً بعض الأحيان...
مقاطعاً: لا أعتبر محاولة الغوص باتجاه الجذر والحديث الجريء عن الواقع نوعا من العنف. لعل الخوف الذي أورثتنا إياه ثقافتنا السائدة، ثقافة "تقديس الجلّاد وتدنيس الضحية" هو ما يجعلنا نقول ذلك. العنف يكمن في طبيعة العلاقات الظالمة وفي جذور هذه الثقافة نفسها. أعتقد فعلا أن من واجب الفن ليس فقط أن يرسم لوحة خراب الواقع، كما أحاول رسمه أحيانا، بل أن يذهب أبعد من ذلك: أن يساهم بطريقته الخاصة، بكشف ولادة ونشوء وتطور ذلك الخراب وكيف أضحى اليوم الثابت الذي يعيد خلق نفسه في واقعنا يوميا... ربما هذه معالم بعض ما أكتبه وما أطمح كتابته. المهم أن كل ذلك يتم، كما أتمنى، في صفحات تنضح بالعشق والأحلام والمعاناة والأمل والضحك والسخرية... إذا كان مجمل ذلك ما تسميه المساهمة في التغيير، فأنا مع ذلك...
لكن تركز كتابتك حول اليمن ربما يعطي انطباعا بأنك تكتب رواية واحدة... كيف ترى هذا الانطباع ؟
اليمن ألف رواية ورواية، أو ربما حسب قولك رواية واحدة! رواية تدور في عالم عذريّ شبه مجهول، مملوء بالبراءة والطيبة والحب والأحلام المكبّلة. الضحك والسدر والكسل هم الخبز اليومي لبسطائه. لعله مثل مصر أيضاً: وَلعٌ أبديٌّ ومحنةٌ دائمة لمن عاش فيه. ثمّ هو بلدٌ يخلو تماماً من الرتابة، انشحن تاريخه الحديث بكل شيء تقريبا: الاستعمار الأجنبي، القبيلة التي تعيق أي تطور وحداثة والتي تغيَّرتْ أقنعتها الزائفة من نظام ادَّعى الماركسية في السبعينات والثمانينات إلى آخر يدعي الديموقراطية اليوم. الأول عجّ بالحروب والاغتيالات والثاني بالنهب والتخلف والتجويع والفساد... اليمن عالم يستنزفه الحرمان والتخلف. سوء التعليم والصحةّ ومستوى المعيشة فيه يتدهور بأرقام قياسية. غياب المصداقية والمشروع الحديث في إدارته صارخ جدّاً. اغتيال الرؤساء وكبار رجال السياسة فيه ثابتٌ متواصل. الموت فيه سهلٌ جدّاً مثل الماء والهواء (أو مثل الهواء فقط، لتفاقم مشاكل المياه فيه، دون حلٍّ أو تخطيط)... المكان فيه شديد التنوع أيضاً: صحاري وقمم جبلية تشرئب فيها قصورٌ ومدنٌ خرافية رائعة، بحارٌ يمكن العوم فيها طوال ساعات السنة، مدن تاريخية نقية الجمال، عراقة تفقع العين... المواد الأدبية الخامة التي يفرزها واقعٌ كهذا لا يمكن استنزافها، تتنوّع على الدوام. هي مثل جهنم تمتدُّ وتتسّعُ بشكل لانهائي، على إيقاع أهزوجة: "هل من مزيد؟"...
ألهذا يعاني معظم أبطال روايتك من الفشل.. وجدان، نشوان علي سبيل المثال.. فتركز علي الفشل كتيمة أساسية في أعمالك ؟ ولا يكون هناك حل لهذا الفشل سوى بالفنتازيا كما فعلت في دملان؟
فشلُ وجدان في ثلاثية "دملان" فشلٌ جذريٌّ نقيٌّ كامل. هو إنسانٌ لا يعرف التمرّد، متطرِّفٌ في خضوعه، رغم كل مواهبه وطيبته. تختلف حالة نشوان في "طائر الخراب" لأنه عكسه تماماً. لعلّه لم يفشل في مشروعه الشخصي لأنه مارس حريَّتَه وتمرَّد. لكن فشل الواقع، فشل الوطن كما قلتَ، إجتاحَهُ بالضرورة، وبشكلٍ غير متوقّع: رغم هروبه من الوطن وجد نشوان نفسه فجأة يغرق في أبشع مستنقعاته...
بنية "دملان" تتأسس على الحلم والفانتازيا والخيال. لعلّ ذلك يسمح بإجلاءٍ أفضل للواقع، بتوسيعهِ وإعادة تأثيثه، بالتسكّع الحر في ملابساته وزيفه وأسراره، بالتحليق بعيدا عنه والاتجاه نحو قعره في نفس الوقت...
ربما يدفعني ذلك لسؤالك حول الأمل في أعمالك فهل الصورة حقا سوداء قاتمة لهذه الدرجة؟
نعم الصورة قاتمة جدا! خذ مصر على سبيل المثال: ترتيبها في قائمة "مؤشر التنمية البشرية" للأمم المتحدة (أهم مؤشر في حياة الإنسان، لأنه يلخص كل ما هو هام وجوهري فيها: معدل دخل المواطن، مستوى خدمات التعليم والصحة الذي ينالها...) للعام الماضي: 118 (من بين 177 دولة). مصر، بكل عظمتها التاريخية، تجد نفسها على حافة الحضيض، في حين تجد اليابان نفسها في الدول الأولى في القائمة! لا تنسى أن اليابان لا تمتلك أي ثروات طبيعية، ولم تكن أكثر تقدماً من مصر قبل أقل من قرنين! خذ مثلا آخر، اليمن: رغم مواردها الطبيعية والبترولية وثرواتها السياحية، ترتيبها للعام الماضي هو 151. هي ضمن المجموعة الثالثة من الدول، التي يعيش أهلها بأقل من "نصف حياة" (لأن معدل النمو البشري في دول تلك المجموعة اقل من 0.5)! كان ترتيب اليمن 149 في العام الذي سبقه، و148 العام الذي قبله (أي أنها تقدَّمت "خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الخلف"...) هذه أمثلة فقط سببها واحد: ثمة خطأ جوهري جذري في واقعنا العربي. طالما جثم هذا الخطأ فلا أمل في الافق، في رأيي الشخصي...
وماهو هذا الخطأ ؟
الخطأ الجذري يكمن في ثقافتنا التي تُعلّمنا منذ الصغر كيف لا نفكر، كيف لا نتساءل، كيف لا نرفض... تعلمنا منذ المهد الخضوع والانسحاق. تقدّم لنا الوجود والكون بما يمنع أي تساؤل أو تفكير: ثمة إجابات غيبية شاملة لاعلمية حول كل أسس الكون والحياة. يحرم الطالب منذ المهد من مقومات العقل والتفكير الحديث...
الأنظمة التي تحافظ وتحمي هذه الثقافة لا تمتلك أي مشروع نهضوي حقيقي. تزجّ المواطن في دوامة اللهث على لقمة العيش، تحاصره بسياج من القمع والبيروقراطية والتخويف والإذلال، تحوّله في الأخير إلى جزء من جهازها الذي يعيد خلق نفسه منذ قرون، ويحافظ على تخلف واقعنا بنجاح منقطع النظير...
"من السهل أعطاء جائزة لأجمل قصيده عربيه تصف القمر لكن من الصعب تنظيم مسابقه لاختيار أجمل سفينة فضاء عربيه هبطت على سطح القمر" جملة اقتبستها من أحد حواراتك تدفعنى – ان لم أبكِ - أن أسألك هل نحن حقا كعرب مسؤلون فقط عن الجانب الجمالى أو الروحى والغرب مسؤل عن الجانب العلمى الحياتى هل يصح هذا التقسيم؟! وبشكلٍ شخصيّ، كيف تفصل بين "حبيب" العلمى والأدبى؟
لست أدري إذا كانت لنا كعرب مساهمات معاصرة تستحق الإشارة في الجانب الجمالي. في الجانب الروحي بمفهومه العلمي ليس لدينا أي مساهمات بالطبع. أقصد من وجهة نظر أن الروح نشاطٌ ذهنيٌّ خالص، يتم في عصبونات الدماغ، تدرسه علوم الذهن وعصبونات الدماغ والبيولوجيا والسيكولوجيا التطورية. أمّا في الجانب الروحي الذي يعتبر الروح "نفخة ميتافيزيقية في طين" تغادر الجسد عند الموت، مثل الجني الذي يغادر القمقم، فلنا بالتأكيد نظريات ومساهمات خارقة ورائدة، لا تتوقف!...
حول ثنائية "حبيب" العلمي والأدبي وعلاقتهما: ثمّة فترة تعايش سلميّة لذيذة بين الاثنين عندما يتقاسمان المواسم (موسما الكتابة الأدبية والعلميّة) بعدل وتناغم وكياسة مدنيّة. وثمّة فترات تناحرية بينهما، عندما يكون حبيب بصدد عمل علمي ملحٍّ ومهم ويبرز في نفس الوقت مشروع كتابة أدبية يرفض الانتظار. يكتشف حينها حلاوة الآية القرآنية: "ما جعلَ الله لرجلٍ من قلبين في جوفه"! عبّرتُ عن هذه العلاقة الديالكتيكية بين "حبيب" العلمى والأدبى، حسب تعبيرك، في قصّة اسمها "أبجد 69"، ضمن مجموعة "همسات حرّى من مملكة الموتى" التي كتبتها في إحدى لحظات معمعان الصراع بين الاثنين...
ما حكايتك مع المصادرة؟
الرواية الأخيرة: "طائر الخراب" مُنِعت من مغادرة مطار صنعاء! بدأ ذلك عندما أوقف عسكريُّ المطار سيداً عزيزاً، مسافراً إلى فرنسا لعلاج أمراض القلب، يحمل لي أولى النسخ من الرواية. قال له العسكري: لو كان الكاتب أديباً لأسماها "طائر الحب، أو طائر الأشجان"، ومنعه من السفر مع الرواية! أضاع المسافر رحلته. ثمّ توالى المنع الذي أدانه إتحاد الكتاب في اليمن. لعلّ هذه المصادرة أضافت في رأيي نقلة نوعية (لها ألوان يمنية خالصة) لنظرية القمع والرقابة الأدبية: عادةً ما تَمنعُ الأنظمة القمعية دخول بعض الكتب إلى مطاراتها. أما في اليمن فنحن أمام منعِ كتابٍ ظهر في اليمن، نُشِرَ ووزِّعَ فيها بحرية، ومُنِعَ من مغادرتها مع ذلك!
لكن... طائر الخراب، أليس العنوان صادما بعض الشيء؟
لعل اسم الرواية ينسجم مع لوحة الخراب التي تنقشها، والمواقع التي تمّ فيها استخدام تعبير "طائر الخراب" في الرواية تساهم برسم ملامح ذلك الطائر. أما عن عسكري المطار فلم أكن أتوقع أن مهمته التحقيق في درجة رومانسية عناوين الروايات! نجح عموما في منع الرواية من الخروج، في حين لا يستطيع منع الاعتداءات العسكرية على المطار أو خروج المجرمين والإرهابيين منه. هل فهمت ما أردت قوله..
ما الذى تحضِّر له الآن؟
ثمّة مشروع روائي طويل... أظن أن هدفه لا يكمن هنا في رسم لوحة الخراب العام الذي نعيشه في واقعنا العربي، بل في ملامسة نشوئه وتطوره وفهم الأسباب والظروف التي تجعل فيروساته تجتاح واقعنا وتتأبد فيه...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.