ساحة. قصة الساحة تلك بدأت عندما قررت الحكومة السابقة برئاسة عبد القادر باجمال إغلاق الشارع أمام سيارات العامة، ربما كاحتياط امني أو بهدف الحفاظ على الهدوء وتحسين المظهر أمام مقر رئاسة الوزراء. فجرى رصف الشارع بالبلاط والحجارة وتحويله إلى ساحة مخصصة لسيارات المسؤولين فقط. وقبل أن تتنبه المعارضة الى هذا المكان الحساس والذي أصبح مناسبا للاعتصامات والتظاهر، كان أحياناً يتجمع فيه خريجون جامعيون من الباحثين عن وظائف أو أشخاص فصلوا من عملهم، كل يوم ثلاثاء، موعد الاجتماع الدوري للحكومة. ويبدأون بالمطالبة بالوظائف أو التنديد بقرارات الفصل والمطالبة بالعودة إلى العمل. ومع تصاعد مطالب المعارضة اليمنية المنضوية في إطار تكتل «اللقاء المشترك» والذي يضم خمسة أحزاب رئيسية في البلاد أبرزها التجمع اليمني للإصلاح الإسلامي والحزب الاشتراكي اليمني، ومطالب منظمات غير حكومية بشأن الحريات، تحولت الساحة إلى مقصد لهم للإعراب عن احتجاجاتهم كل يوم ثلاثاء.. وهكذا أطلق على المكان تسمية «ساحة الحرية». وبات الأمر خلال الأشهر الماضية تقليداً تسلكه الأحزاب والمنظمات المعارضة، وهو أمر أثار حفيظة الحكومة التي اقترحت على المعارضين ساخرة تخصيص مساحة لهم في حديقة ميدان السبعين يوماً الواقعة جنوب العاصمة صنعاء والمجاورة لدار الرئاسة اليمنية وتعرف ب«ساحة الديموقراطية»، على غرار حديقة «الهايد بارك» في لندن حيث يتجمع معارضون من مختلف بلدان العالم من المقيمين في بريطانيا أسبوعياً لإلقاء الخطب والتنديد بممارسات الأنظمة في بلدانهم. ومن ابرز القضايا التي تظاهر لأجلها اليمنيون في «ساحة الحرية»، كانت قضية المطالبة برفع القيود الحكومية والتشريعية من اجل إتاحة المجال أمام القوى السياسية المعارضة أو القطاع الخاص لإنشاء وسائل إعلام خاصة (مرئية ومسموعة). ولكن لماذا التظاهر أمام مقر رئاسة الوزراء اليمني بدلا من مقر الرئاسة، علما أن القرار في اليمن يصدر عن الرئاسة أكثر منه عن مجلس الوزراء. يقول علي الجرادي رئيس تحرير صحيفة «الأهالي» الأسبوعية المستقلة ل«الشرق الاوسط» ان التسمية جاءت عندما أوقفت وزارة الإعلام خدمة إخبارية عبر الهاتف الجوال كانت تبثها إحدى الصحف المحلية المعارضة. ويضيف: «تشاورنا مع المنظمات غير الحكومية من اجل إقامة احتجاج في الساحة المقابلة لمجلس الوزراء ونشرنا خبرا عن الفعالية وقلنا فيه إن الاحتجاج سيكون في ساحة الحرية ومن هنا كان إطلاق الاسم على الساحة وكان مقررا أن نبدأ احتجاجاتنا أمام مجلس الوزراء ثم تتصاعد الاحتجاجات وتنتقل إلى أماكن أخرى». ويضيف الجرادي أن الفكرة استهوت الأحزاب والمنظمات وتحولت هذه الساحة إلى ساحة للاحتجاجات باعتبار أن الحكومة هي صاحبة السلطة التنفيذية في البلاد. أما من الناحية السياسية ونظرة الناس إلى دار الرئاسة بأنه مصدر القرار، يقول: «لا يجب أن يعفي الناس الوزراء والحكومة من مسؤولياتهم فعندما نعفي الوزير أو أي مسؤول من مسؤولياته ونتعلق دائما بالرئيس فانه موقف غير صحيح وان كانت دار الرئاسة هي مصدر القرار الفعلي». ويعلق طارق الشامي رئيس دائرة الفكر والإعلام في حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم على موضوع استحداث ساحة للحرية في صنعاء بالقول إن «البلاد كلها ساحة للحرية ومن يعرف تقاليد المجتمع اليمني سيجد أن مجال الحرية في التناول والحديث عن كافة المجالات متاح ويمارس بشكل يومي حتى في اللقاءات التي تسمى المقايل (وهي المجالس التي يمضغ فيها اليمنيون القات ظهيرة كل يوم). ويضيف متحدثا ل«الشرق الأوسط»: «من حق كل أطياف الشعب التعبير عن وجهات نظرهم أو مواقفهم أمام مجلس الوزراء أو أي مكان آخر». وعن موقف حزب المؤتمر الحاكم في اليمن تجاه هذه المطالب يؤكد الشامي أن «البرنامجين السياسي والانتخابي لحزب المؤتمر يؤكدان على إتاحة المجال والانتقال إلى الإعلام الحر والمفتوح لكن بحيث يتم تنظيم ذلك وفق أسس قانونية تكفل حق العاملين في وسائل الإعلام المختلفة، وتكفل أيضا حق المجتمع». ويضيف: «هناك مشروع لتعديل قانون الصحافة يعد في وزارة الإعلام ويبحث مع مختلف المؤسسات الصحفية في البلاد، وفي اعتقادي أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة حتى تكون هناك مؤسسات إعلامية قادرة على أن تدير هذه المنابر من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وغيرها». ومع التطورات التي يشهدها اليمن من احتقانات في محافظات الجنوب إلى تصعيد الأعمال الاحتجاجية للمعارضة في مختلف المحافظات بشأن جملة من القضايا السياسية تعممت تجربة «ساحة الحرية» في اكثر من مكان. فأطلق مثلا الاسم نفسه على ساحة العروض في حي خور مكسر في مدينة عدن، وكذلك سميت ساحة الاحتفالات في مدينة الحبيلين في محافظة لحج بساحة الحرية، وبات الأمر وكأنه «موضة» ساحات حرية. ويقول رئيس منتدى التنمية السياسية والمحلل السياسي اليمني علي سيف حسن إن «هذه الساحات هي تعبير عن استجابة لحاجة لدى قوى سياسية واجتماعية ومنظمات المجتمع المدني»، مشيرا الى ان «الأحزاب لم تبدأ باستخدام هذه الساحات بعد إنما بدأت منظمات المجتمع المدني والإعلاميون والمتقاعدون وغيرهم باستخدامها ثم أنضمت إليهم لاحقا الأحزاب». ويضيف: «هذه الساحات في الأصل جاءت استجابة لحاجات المجتمع المدني وهي تنسجم مع طبيعة فعاليات هذه المنظمات». ويرى سيف أن «الديموقراطية الشعبية وديموقراطية المجتمع المدني بحاجة فعلا لمثل هذه الساحات»، ويقول: «ليست لديهم أماكن خاصة تتسع لمثل هذه التحركات وأماكنهم الحقيقية هي الشارع من اجل إيصال رسائلهم إلى السلطة والى أصحاب القرار والإعلام، وهذه هي أماكن عامة أكثر قرباً ممن يراد إيصال الرسائل إليهم وبالأخص الإعلام». ويعتبر رئيس منتدى التنمية السياسية «ان عرض الحكومة اليمنية تخصيص ساحة هايد بارك لتقيم فيها المعارضة فعالياتها لا يعدو كونه نكتة...». وردا على سؤال عما إذا كانت التحركات التي تقام في هذه الساحات حاليا عبارة عن «طفرة» آنية أم أنها ستصبح تقليدا متبعاً، يرى سيف أن الاعتصامات «ستصبح تراثاً يتطور»، ويضيف: «ان هذه التحركات كونها خاصة بالمجتمع المدني فان هدفها إصلاح الواقع وبالتالي ستظل هذه الساحات تقليدية وستترسخ لديها تقاليد أرقى». وبما أن عدوى الاعتصامات في الساحات انتقلت إلى محافظات أخرى ومنها عدن حيث سميت ساحة العروض فيها بساحة الحرية، فان المحامي والناشط السياسي المعارض يحيى غالب الشعيبي يعتقد أن سبب اختيار هذا المكان أيضا يعود إلى أن هذه الساحة ظلت منذ ما بعد الاستقلال عن بريطانيا في العام 1967 وحتى قيام الوحدة اليمنية في العام 1990، المعلم التاريخي والبارز الذي تقام فيه الاحتفالات الرسمية في دولة الجنوب سابقا. إضافة إلى أن هذه الساحة هي المتنفس الوحيد المتبقي للقوى السياسية داخل مدينة عدن. وعن سبب تسمية الساحة بساحة الحرية كما الحال في صنعاء، قال غالب إن التسمية «جاءت لتنسجم مع خطاب المتقاعدين وأبناء الجنوب المطالبين بالحرية بعد أن ضاقت بهم السبل من جور القمع والبطش وجرى تهميشهم وإخراجهم وجعلهم خارج إطار الوحدة اليمنية». ويقول الشعيبي ان «هناك قيودا مفروضة على من يرغبون في تنفيذ تحركات احتجاجية في ساحة الحرية في عدن بعد أن تمكن المتقاعدون العسكريون من تنفيذ اعتصامين احتجاجيين في شهري يونيو ويوليو من العام الجاري». ويضيف انه وبعد تنفيذ اعتصامين كبيرين وناجحين في هذه الساحة، قامت السلطات الأمنية في عدن بتطويق المكان وجعله تحت الوصاية الأمنية ولم تسمح بدخوله واعتبر كمنطقة محظورة. ويؤكد أن الفارق كبير بين «هايد بارك» صنعاء أو عدن وبين هايد بارك لندن، ويقول ان «في هايد بارك لندن لا يعتقل فيه احد بينما في ساحات الحرية في اليمن يعتقل الناشطون السياسيون وهنا الفارق الديموقراطي». وخلال بعض التحركات التي نظمتها أحزاب سياسية معارضة أو منظمات المجتمع المدني القريبة منها، نظمت تحركات موازية لمناصرين للحزب الحاكم في المكان نفسه وتطور الأمر إلى الاشتباك بالأيدي والعصي والأسلحة البيضاء. وهنا تتهم المعارضة الأجهزة الأمنية بالتورط في الأمر. وتقول توكل كرمان رئيسة منظمة «صحافيات بلا قيود» التي نظمت معظم الاعتصامات في «ساحة الحرية» ل«الشرق الأوسط» إنه «من الجميل أن تصبح ساحة الحرية ساحة لمختلف الفعاليات المطالبة بالحقوق والحريات وهذا ما هو حاصل الآن فعلا». ولكنها تضيف أن «من يأتون إلى الساحة في نفس أيام اعتصاماتنا هم عبارة عن مجموعة من جهازي المخابرات (الأمن السياسي والأمن القومي) وهدفهم الوحيد التضييق علينا... ولكننا لا نأبه للأمر». وتضيف: «الساحة ملك للجميع ولكنهم يعتدون علينا في كل مرة، وهذا تضييق للحريات واعتداء على أشخاص ينظمون احتجاجا سلميا لا أكثر».