تكلمنا سابقاً في صحيفة الوسط (العدد198) الأربعاء 2/يوليو/2008م) عن الوحدة اليمنية كيف وإلى أين؟ وذكرنا أن الكلام في هذا الجانب يشكل عقبة وتساؤلات عند الكثير من الدارسين لهذا الجانب وخاصة الذين ينتمون إلى الجنوباليمني من الناحية الجغرافية (الشطر الجنوبي سابقا)حيث يصنف أو يرهب الكاتب بكلمة الخائن للوطن أو يوصف الكاتب بالانفصالي الاشتراكي وإن كان ينتمي إلى فكر آخر (كإسلامي) (وهذا نوع من أنواع الإرهاب، المقصود منه إبقاء الظلم والإقصاء على أبناء الجنوب على ما هو عليه، حيث استمر هذا الظلم حتى الأمس القريب يوم خرج الشعب في حضرموت وأبين وعدن وشبوة ولحج في مظاهرات حاشدة يصرحون بما كان بالأمس تهمة"الانفصال" ويطالبون به صراحة دون خوف من تهمة الخيانة أو الانفصالي أو حتى يتهم الإسلامي بكونه اشتراكياً)، وقلنا: إنه أخطأ بعض الكتّاب وجعل الإنجليز والسلاطين في جنوباليمن والإمامة في شماله هما العامل الأساس في تمزيق الوحدة لأطماع الأول وجمود الآخر وذلك كله مجرد بحث عن العوامل التي قد يراها البعض جوهرية في تمزيق اليمن أو الدوافع السياسية للقوى التي قد يراها البعض عائقاً للوحدة والحقيقة أن الوحدة اليمنية كلمة مستحدثة أعني كلمة (وحدة يمنية) لعدم استخدامها بهذا الشكل المفرط الذي نراه اليوم والأمس القريب من قِبَل الساسة في اليمن في الجنوب وفي الشمال إلا أننا قد نجد كلمة اليمن الواحد في كتب التاريخ دون التحديد الجغرافي المعروف لليمنيين فقد تطلق أحياناً على الغرب أو على الشرق أو على الجنوب أو على الشمال والمقصود فيه تلك الأمة الواحدة لا كل اليمن إلا أنه وبعد ثورة 26/سبتمبر على الإمام البدر بن أحمد وثورة 14/ أكتوبر على الإنجليز وبعد الجلاء وعلى وجه التحديد سنة (1972م) بدأ الكلام حول تحقيق الوحدة اليمنية بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وحتى أدخل في صلب الموضوع وما وصلت إليه اليمن اليوم من الأحداث في المناطق الجنوبية على وجه الخصوص أقول لا شك أن القتال الأخير وتدهور الوضع يزيد اليمنيين انفصالاً ويزرع بينهم الحقد والكراهية، ويبني مجتمعاً ضعيفاً واهياً منزوعاً منه الوطنية وحب العطاء، وخاصة أن النظام الحاكم -كما سيأتي- لم يذهب إلى الحلول الحقيقية بل ذهب أو يذهب إلى الحلول الاستثنائية، مما زاد أو يزيد من حجم المشكلة وخطورتها والتي أصبح كل النظام جزءا منها ومنه الرئيس علي عبدالله صالح، فالجنوبيون اليوم أو الأغلبية منهم يطالبون بالانفصال والقليل بالفيدرالية أو الكنفدرالية، مما يجعل تلك الحلول التي ذهب أو يذهب إليها النظام غير مجدية البتة، نقول ذلك لعلمنا أن القوة التي يراهن عليها النظام لن تقدم حلاً والعنف دائما يورث العنف، حيث أفرط النظام في استخدام القوة كما حدث في منطقة الحبيلين بالأمس وكما يحدث في الضالع، وكما سيحدث في المستقبل هنا وهناك، وإذا استمر النظام الحاكم في نفس الزاوية المنحشر فيها، فإن اليمن ستتحول إلى ساحة حرب طويلة الأمد لا كما يظن النظام أنه سيحسمها بأيام أو بشهور طمعاً بما حدث عام(94) يوم حسم المعركة بأشهر متناسيا أن الشعب في الجنوب وقف على الحياد في يومها بل مع الوحدة، ومتجاهلاً اليوم أن الشعب هو من يقف وراء كل تلك الأحداث هنا وهناك ويتحدث عن نفسه ويطالب بالعدالة والقصاص بنفسه، يقف هو (الشعب) دون أن يملي عليه أحد شيئاً أو يفرض عليه أحد وضعاً وهنا اختلف الوضع، وكما ذكّر الرئيس قادة الحراك في الخطاب الذي ألقاه في 25/أبريل أن عليهم أن يأخذوا العبرة مما حدث في دول أخرى وأن ينظروا إلى ما يحدث في العراق.. مليون ونصف قتيل بعد انهيار النظام وينظروا ماذا يحدث في الصومال.. يتقاتلون من بيت إلى بيت. فإننا نذكره أن المقاومة في العراق وقفت بوجه أكبر دولة في العالم بل بوجه دولتين بل ثلاث بل أكثر، وأسقطت الرهان وفرضت وضعا جديدا لم يتخيله المحتل أبدا ولم يعمل له حساباً، ومنذ سقوط العراق إلى اليوم لم تحسم المعركة ولن تحسم المعركة أبدا مما يجعلنا نقول مرة ثانية إن الوضع الذي تذهبون إليه (استخدام القوة) لن يقدم حلا حقيقياً والسودان خير شاهد على ذلك، فالأزمة في الجنوب السوداني ذي الحكم الذاتي استمرت عشرين عاماً بين الحركة الشعبية والحكومات المركزية التي حكمت السودان وحصدت مئات الآلاف من السودانيين، وأثناء ذاك النزاع حصلت مبادرات واتفاقيات أولاها مؤتمر المائدة المستديرة في (11 مارس/ آذار 1965) وآخرها اتفاقية نيفاشا في (25 سبتمبر/ أيلول 2003) والتي نصت بمجملها على ثمان نقاط أهمها: 1- وضع القوات المسلحة للطرفين: ضمن السودان الموحد وعند تأكيد الاستفتاء حول تقرير المصير لوحدة السودان، فإن الأطراف (حكومة السودان والحركة الشعبية/ الجيش الشعبي لتحرير السودان) يتفقان على إنشاء جيش السودان للمستقبل. 2- وقف إطلاق النار.3- إعادة انتشار القوات: وفيه سيتم فض اشتباك وفصل وتحديد معسكرات وإعادة انتشار القوتين وفقا لما سيتم تفصيله في اتفاقية وقف إطلاق النار الشامل. فماذا استفادت الحكومة السودانية في النهاية؟. ثم الأزمة في دارفور صراعات قبلية حصدت كذلك مئات الآلاف من السودانيين اتهمت فيها الحكومة السودانية بمساندة (ميليشيا الجنجاويد) التي نسبت إليها هجمات عنيفة على الأفارقة السود من قبائل الفور والمساليت والزغاوة فحصل على خلفيتها مذكرة دولية صدرت في (4 مارس 2009) من قبل المدعي العام بمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير لاتهامه بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور السوداني. فماذا استفادت الحكومة السودانية في النهاية؟. بل إذا ما درسنا الوضع في جمهورية تيمور الشرقية مثلاً وعلى مدى أكثر من عشرين عاماً نجد أنه سقط أكثر من 200 ألف قتيل جرّاء التمرد المسلح والثورات التي كانت تقوم في الولاية ولم تستطع الحكومة الإندونيسية أن تنهي الخلاف في ذاك الإقليم وفي (5 مايو 1999) وقعت البرتغال واندونيسيا تحت إشراف الأممالمتحدة اتفاقاً يمهد الطريق لاستقلال تيمور الشرقية وينص على تنظيم استفتاء شعبي حول تقرير المصير. ففي (30 أغسطس) شارك (98,6%) من الناخبين في الاقتراع بالرغم من أعمال العنف التي مارستها الميليشيات المعارضة للاستقلال، وأبدى (78,5%) تأييدهم للاستقلال.فهل استطاعت الحكومة الإندونيسية الذي يبلغ عدد سكان بلادها (237512352)أن تمنع إرادة شعب تيمور الذي يبلغ عدد سكانها (2621019) من حق تقرير المصير. وهنا نقف ونسأل النظام الحاكم أو الرئيس شخصياً كم تريد أن تقتل من أبناء الجنوب ومن الجيش في التهديد والوعيد؟ وماذا ستجني من وراء ذلك؟ وهل انتهت الحلول حتى تذهبون إلى خيار السلاح؟ وكم ثمن بقاء الوحدة إذا أراد أبناء الجنوب حق تقرير المصير كما حصل في جنوب السودان مع الفارق، وكما حصل في تيمور الشرقية مع الفارق؟ والحقيقة تقول إن الوحدة التي تبنى بالقوة لا تدوم أبداً، لأنها تبقى أسيرة الأحداث والتطورات وخير شاهد على ذلك وحدة باكستان وبنجلاديش التي بدأت باتفاق ثم انتهت بحرب وانفصال، صدقوني إن استعمال القوة في مثل هذا الوضع ليس إلا استنزافا لموارد البلاد وهدرا للوقت وتقديماً للحلول الاستثنائية التي تملأ القلوب بالشحناء وتمنع البلاد من الاستقرار، وتزرع الضغائن ونزاعات الثأر والانتقام ثم في النهاية نستدرك الحلول التي قد صارت مستحيلة، وأصبحت جزءا من ماض غير مقبول عند الطرف الآخر. نعم العنف لا يورث إلا العنف وتغيير الحلول أو تأخيرها يعني إبقاء المشكلة على ما هي عليه، وهنا استحضر كلام الكاتب الأردني علي الدجاني في صحيفة الشرق الأوسط(1/7/1994م) حيث قال "فمثل هذه الوحدة (يريد الوحدة اليمنية) بل أي وحدة أخرى تقوم على العنف مصيرها الفشل والانشطار آجلا أم عاجلاً ،فالحرب وخاصة بين الشعوب ذات الخلفية العصبية والقبلية تزرع من الضغائن ونزاعات الثأر والانتقام مالا ينسى بسهولة ،ومالا يخدم الوئام والطمأنينة والاستقرار". وهذا كلامٌ رائع في مضمونه إلا إننا نستطيع أن نجزم أن وحدة القلوب كانت رابطاً بين تلك الأمة كلها على الرغم من الفصل الجغرافي بين وبين، أو الفراق السياسي بين دولة وأخرى في اليمن على مر التاريخ، إلا أننا بالأمس القريب وبالتحديد من بعد انتخابات أبريل (93)، نستطيع أن نجزم أنه وقع التشطير الحقيقي في الأمة اليمنية، حيث بدأت القلوب تنشطر بين أبناء الجنوب وأبناء الشمال ومع مرور الأيام ظهرت مشكلات جسدت ثقافة الحقد والكراهية بين أبناء الجنوب والشمال، كان النظام الحاكم هو من يؤصل لها ويغذيها بسياسة التفرد والإقصاء، فبعد حرب (94) مثلا، بدأ النظام الحاكم في صنعاء ينظر إلى أبناء الجنوب على أنهم أمة مهزومة مقابل أمة منتصرة لها الحق أن تأخذ حق الانتصار من تلك الأمة المهزومة، فرأينا الظلم والإقصاء والاستبداد بكل صوره، وهنا نقول وليست منة لقد ضحى أبناء الجنوب من أجل الوحدة بما لا يمكن أن يضحى به، وضحت قيادته تضحية استدركتها فيما بعد فكانت عائقاً لبقاء الشراكة بين الطرفين فأنشأت تخوفات لم يحسب لها حساب وحسابات كان قد أخطأ فيها الطرف المتنازل استدركها فيما بعد ورآها تنازلاً على حساب شعبه لا تضحية من أجل اليمن الواحد، استمرت الخلافات واتسعت رقعة الخلاف إلى حدٍ انفجرت فيه الأوضاع في (1994) انتصر فيها الجانب الذي لم يقدم تنازلات عند إعلان الوحدة والدمج بين الحكومتين واستمر الوضع على ما هو عليه حتى أصبح كما نراه اليوم انتظارا وترقبا وتساؤلات إلى أين؟. وختاماً فإننا نسأل الطرف الذي ظن أنه انتصر في (94)، مباشرة/ الرئيس علي عبدالله صالح ونقول له: لقد قدم علي سالم البيض يوم إعلان الاندماج(الوحدة) تنازلاً من رئيس دولة إلى نائب رئيس دولة، وهو أكيد من أجل توحيد اليمن، فهل تستطيع أنت أن تقدم استقالة بل تتنازلاً لواحد من أبناء الجنوب المخلصين عن رئاسة اليمن من أجل بقاء الوحدة ؟؛ نقول له ذلك لأنه لم يعد إلا جزءا من المشكلة لا جزءا من الحل! فهل يستطيع أن يقدم ذلك؟ حتى يُكتب له في تاريخ الوحدة شيئا الذي لم يقدم هو من أجلها غير الجلوس على عرش الدولتين فقط!! وعليه وحتى لا نفرط في الأمل نقول إن الرئيس لن يقدم أي تنازل من هذا النوع أبداً؛ لأنه الحل المستحيل الصحيح الفعال الذي ليس في حسابات الرئيس ولا يفكر فيه البتة، لكنه يفكر في الحلول الأخرى التي ستدخل البلاد في المستقبل القريب في أزمات كبيرة اقتصادية وسياسية وعسكرية، وسيضطر عندها الرئيس للخيار الصعب(الاستقالة أو الرحيل)، ليترك اليمن عندها تدخل في موجات من العنف والتمزق وظهور مشكلات لم تكن في الحسبان، أما اليوم فإننا سنرى الرئيس كالعادة يذهب إلى الحلول التي عودنا عليها وهي تقريب بعض رجال القبائل والشخصيات الاجتماعية من أبناء الجنوب وتغيير بعض الشخصيات الفاسدة أو تحويلها من أماكنها لا غير على أساس أن ذلك هو الحل للقضية التي أصبحت (أكبر من عين الشمس) دون أن ينظر إلى أن الشعب في الجنوب لم تعد تشكل له مثل تلك الحلول معنى وخاصة أن الرئيس لا يريد أن يتعدّاها إلى الحلول الحقيقية؛ لأنها بنظره غير ممكنة لتعارضاها مع سياسته التي فرضها على الشعب وهي سياسة التهديدات والوعود التي أصبح الشعب يحفظها ولا يصدقها. د. علي جارالله اليافعي