قصة صعدة (الخير) في زمن استثمار (الشر) "لم يكن يخطر ببال أي بشر سواء من داخل صعدة أو من خارجها أن تصل فيها الأمور إلى ما وصلت إليه من السوء وفضاعة الأحداث جراء تلك الأحداث اللعينة التي توالت عليها، تبدلت فيها عناقيد العنب وحبات الرمان وغيرها من أنواع الخضروات والفواكه المشهورة بلذتها وذلك بزخات من الرصاص والقنابل والصواريخ وغيرها من أنواع الأسلحة المشهورة بقوة تأثيرها وفتكها، اختلطت معها الأوراق إلى درجة من شراسة اتجاهاتها، يحاول الأخ أن يقتل أخاه والابن أن يقتل أباه، في صورة بدت فيها صعدة قد بدل الخير فيها بالشر والصدق بالكذب والطيبة بالقسوة والأمن بالخوف والغدر والخيانة". إن صعدة بأبنائها لم تكن في يوم من الأيام قد أضمرت شرا لأحد بل العكس من ذلك الخير ما أنتجته، فهي بإمكاناتها المادية والبشرية لم تعتبر إلا جزءاً من العمق الاستراتيجي لليمن والعروبة والإسلام أجمع، يفد إليها الناس من كل اتجاه دون عنصرية أو نظرة تحيز، أبناؤها تواقون إلى الكرم وفعل الخير، لم تطأ قدم جائع أرضها إلا شبع ولا فقير إلا اغتنى أو استتر ولا ذليل إلا نصر، سباقون إلى مناصرة القضايا الوطنية والعربية والإسلامية بالدعم المادي والبشري. استمدوا أصالتهم ونخوتهم وشهامتهم وكرمهم من نقاوة أرضهم، غيرتهم على دينهم من صدق ولائهم له، صادقون في مشاعرهم بالأخوة العربية والإسلامية، لذا وفي ظل مقاييس العرف الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم كان إحساسهم بالجرح كبيرا جدا أكبر من غيرهم، جراء ما يشاهدونه من أعمال وحشية وانتهاكات صارخة تمارس ضد إخوانهم في البلدان العربية والإسلامية الأخرى، فكان اندفاعهم شديداً في التعبير عن هذا الإحساس إلى درجة صار في نظرهم كل من يحاول ثنيهم أو صدهم عن هذا التعبير هو عدوهم حتى لو كان ذلك من إخوتهم. في ظل فراغ أيدلوجي عجزت مؤسسات الدولة الوطنية عن إشباعه استطاع من أحسن الخطابة فيهم أن يجعل الشعار أو (الصرخة) -حسب تعبيرهم- هو الوسيلة التي يتم استخدامها من قبل بعضهم في التعبير عن هذه المشاعر والأحاسيس التي يحملونها. لم يكن ذلك وحده من أفقد هذه السلوكيات ثوب الوطنية وألبسها ثوب النظرية التآمرية، فدفع بالطرف الثاني من إخوتهم إلى صدهم عن هذه الممارسات، بل إن تنامي الاختلالات في طرق إدارة البلاد إضافة إلى شعورهم المتزايد بالتهميش المتعمد للكوادر المؤهلة منهم من قبل هؤلاء الإخوة، قد كان القشة التي ساعدت أعوان الشيطان على صناعة عدو من كل طرف للآخر طالما حلموا وعملوا على إثارته بينهم، فضعفت الثقة وزادت التخوفات بينهم وكان الاصطدام وكانت حرب مران. لقد بدا واضحا للعيان ومن خلال الأحداث التي مرت على المحافظة في هذه المشكلة، أن حرب مران قد بدت وكأنها حدثت بسرعة لم يكن يتوقعها من سعى إلى إثارتها وسرعة الحسم فيها كانت سببا في عدم استفادتهم منها، لذا سعوا إلى تكرارها حتى يتسنى لهم تمرير نزواتهم والاستفادة من ورائها مهما كانت سلبياتها. في ظل تنامي الحيرة والغموض بين أوساط السواد الأعظم من أبناء هذه المحافظة وازدياد تساؤلاتهم، تتابعت عليهم خمسة حروب عايشوها، حيث بدت كل منها أكثر تعقيدا وغموضا وشراسة عليهم من سابقتها، يكتوون بنارها ويدفعون ثمن سلبياتها، في وقت لم يكن لهم أدنى تأثير أو سبب في إثارتها أو تسلسل أحداثها وتطور تعقيداتها. لم تكن تلك الحيرة والغموض الذي يكتنفهم عن سببية اندلاع حرب الرزامات الأولى، التي بدت في حادثة إطلاق نار مجهولة المصدر على مواقع كل من طرفي النزاع في وقت واحد، أنكر كل منهما مسئوليته عنها ولا في ما توحي به واقعة سوق الخفجي التي تعتبر الشرارة الأولى لحرب الرزامات الثانية نتيجة حدوثها في ظل سباق تجاري محموم على أسواق الخضروات والفواكه في المحافظة، بل إن الصلح والنهاية التي انتهت به تلك الحرب كان فيها من الغرابة والشك والحيرة ما يثير شكوكهم نحو الدوافع الحقيقية وراء هذه المواجهات. وبينما الناس يتساءلون عن أبناء الشيطان الذين يلعبون من وراء الستار ويغيرون في مجريات هذه الأحداث، إذا بهم يجدون أنفسهم بين مطرقة مكر الحوثيين وسندان عشوائية الجيش، في وسط حرب رابعة زج بمجتمعهم إليها عبر حادثة طرد اليهود الغريبة عليهم وعلى هذا المجتمع الأصيل الذي لم يسبق أن عرفها من قبل. لقد تجلت أحداث رازح في هذه الحرب حينها، عن انبثاق صبح جديد على المحافظة بظهور بوادر ثورة شعبية فيها، تضع حدا فاصلا لكل هذه الأحداث والمآسي التي أصيبت بها المحافظة، غير أن إعلان قبول الصلح ووقف الحرب ومن بعده ظهور الوساطة والتدخل الخارجي قد حالا دون ذلك. وهكذا تنتقل هذه المحافظة من كارثة إلى أكبر ومن فاجعة إلى أكبر منها وكلما تمنى أبناؤها "عسى أن تنجلي قالت الأيام هذا مبتداها" وماهي إلا فترة وجيزة وإذا بكارثة جامع بن سلمان قد أطلت على المحافظة بخروجها عن القيم المثلى التي يتحلى بها المجتمع، وخرجت من بين ظلالها السوداء الحرب الخامسة في صراع دمر الحياة، جعل ليلها كنهارها، وبدوها كحضرها، وزرعها كصحرائها. لقد أصبح المواطنون خلال كل تلك المواجهات بطلقة نار ماكرة من بين بيوتهم إما منافقين أعوان الكفار الذين يجب الجهاد ضدهم عند أتباع الحوثي والرزامي أو ملكيين ليلا جمهوريين نهارا، الغدارين في أعين الجيش يجب معاقبتهم، فلم يتحولوا إلى مشردين من منازلهم فقط ولا إلى فقراء بعدما فقدوا كل ما يملكون بل إن الأمر قد تعدى ذلك إلى الموت الذي يلاحقهم في كل مكان وبشتى الطرق وأنواعها إذا أحسن الآخر قتلتهم ادعى أن ذلك نتيجة غلطة غير مقصودة تم التشدق باعتذار بائس لها. إن كرم هؤلاء البسطاء في من يعتبرونهم هجرة لديهم منذ مئات من السنين لم يمنع من الزج بأطفالهم إلى المحرقة تحت حجة بائسة مفادها "اغتنام الفرصة واللحاق بركب الشهادة"، كما أن تضحياتهم الجسيمة في سبيل انتصار الثورة والجمهورية ومن بعدها الوحدة لم تجد نفعا في تعزيز الثقة بهم ومنع تهور وعشوائية ضرب ممتلكاتهم ومساكنهم في هذه الحروب اللعينة. تكاثر ابناء الشيطان وتوالدوا إلى أحفاد بصبغة إقليمية أكثر عتوا وأكثر شراسة، أخذوا يبحثون عن ساحة صراع يصفي فيها كل منهما حساباته مع الآخر، فوجدوها وأخذوا يشبعون رغباتهم على حساب البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة، لقد بدا واضحا مدى الإفرازات الأليمة لهذه الأحداث على واقع الحياة اليومية لأبناء هذه المحافظة، كما بدا واضحا أهم الفئات في المجتمع تضررا من هذه الحرب، حتى أصبح البعض يفسر طول مدتها وتكرارها بالمثل الشعبي القائل "الحجر من القاع والدم من رأس القبيلي". لقد كانت النتيجة أن هدمت المنازل والمزارع وضربت المدارس وقتل الأطفال والرجال والنساء بدون تفريق أو رحمة، وتحول من كان يكرم الضيف ويعطف على المساكين، الغيور على دينه ووطنه إلى مشرد يسأل الناس إلحافا، ترك العيش الرغد إلى خيمة يتجرع فيها أشد أنواع البرد والحر، يمد يده إلى ما تجود به عليه المنظمات الإنسانية، تحول كل هذا في ظل أكبر وأسرع عملية نزوح سكاني وأكبر عملية تغيير ديمغرافي في تاريخ اليمن الحديث، واضطر للعيش وسط مخيمات اللاجئين التي ظهرت في هذه المحافظة بشكل لم يكن يخطر على بال بشر، ضربت البنية التحتية الزراعية في المحافظة وحوصرت منتجاتهم إلى درجة أن تذبل الثمار في أشجارها دون أن تجد من يجنيها، فسجلت الخسارة بالمليارات، هجرت المدارس من تلاميذها وخسر الكثير منهم سني عمره بدون تعليم وأصبح هناك أطفال في بعض المناطق تجاوزت أعمارهم الثانية عشرة دون أن يعرفوا التعليم النظامي، وكانت النتيجة النهائية انتشار الجهل والفقر والمرض. أبناء الشيطان لم يتركوا حرمة في هذه المحافظة إلا انتهكوها ولم يتركوا محرما إلا تعاطوا معه، استثمروا الشر علانية ومجاهرة بشتى صوره وأين ما وجد في هذه المحافظة، استثمروه لصالحهم على حساب أبنائها الذين يدفعون ثمن تلك السلبيات أنهارا من دمائهم بينما هم من ذلك براء. وفي ظل كل هذا الذي تدمي القلوب والحيرة التي تسكر العقول والألباب وبينما هم يحاولون لملمة ما أفسدته عليهم أحداث الماضي وإذا بهم يفيقون على فاجعة اختطاف الأطباء وقتل ثلاث نساء منهم، فاجعة جاءت لتنتهك آخر قدسية لم ينتهكوها في وجداننا، فاجعة انتهكوا بها حرمة دم الضيف الذي حسب الأعراف والدين يحرم التعدي عليه ويمنعك دمه حتى لو فرضنا أنه كان قد أراق دمك، فما بالك أن لا ذنب لهم سوى أنهم ملائكة الرحمة الذين تركوا أوطانهم ليقدموا لنا الخير لفترات طويلة من الزمن حتى أصبحوا وكأنهم من أهل البلاد. إن الكثير من أبناء هذه المحافظة كانوا قد بدأوا في الاعتقاد بان هذه الحرب لو قدر لها أن تكون في مكان آخر غير صعدة لما أديرت بالطريقة نفسها التي استخدمت من قبل القيادات الخلفية في أطراف هذا الصراع. الاستهانة من قبل هذه القيادات وعدم المبالاة بالعواقب والآثار السلبية للمواجهات على أبناء هذه المحافظة كانت من الأسباب الرئيسة التي شجعت أصحاب النفوس الشريرة والمصالح الضيقة على القيام بمحاولاتهم الاستثمارية، التي لم تقتصر على تصفية حسابات قبلية من أجل الصراع على النفوذ أو تدمير الأسواق كنتيجة لصراع تجاري على أسواق الخضروات فحسب، بل إن الأمر امتد إلى محاولات الزج بالمحافظة في صراع إقليمي وعدوى فكرية عندما وصل الأمر إلى حادثة طرد يهود آل سالم والهجوم على مركز دماج لعلوم الحديث ثم تفجير جامع بن سلمان وأخيرا محاولة الزج بالمحافظة في سلبيات الصراع الحضاري بين المسلمين والمسيحيين تحت شائعة (عملية التبشير). إن ما زاد من حدة الشعور بالألم في هذه المحافظة الجريحة هو غياب صوت العقل وصوت الحكمة اليمانية طوال فترات هذا الصراع الأليم، حيث بدا وكأن الرسول لم ينطق بحرف واحد من هذه الحكمة في مثل موقفنا هذا. لا جمعيات خيرية يمنية مدت يد العون للمتضررين أثناء الحرب إلا ما ندر، بالرغم من توالي أفواج النازحين وتكاثر الجروح، ولا مؤسسات مجتمع مدني أو شخصيات اجتماعية على مستوى اليمن كله بادرت أو سعت ولو لمرة واحدة صادقة مع الوطن تهدف من خلالها إلى وقف هذا الشقاء الذي حل بهذه المحافظة، بل العكس من ذلك دعوات الموت والتحريض والتطهير هي ما سمعناه، الهدف الأول من ورائها تسجيل موقف ورمي التهم على الآخرين الذين غالبا إذا ما بحثنا عنهم وجدنا المقصود في ذلك أبناء صعدة الذين لا دخل لهم لا من قريب أو بعيد في صنع هذه المشكلة. حقيقة إنها دعوات إذا ما دققنا النظر فيها وجدنا في ظاهرها الحق وباطنها إجماع مشترك على قاعدة "الموت لأولاد الخالة والفائدة لأبناء الشيطان" وإلى مواجهات من نوع آخر في صعدة. والله من وراء القصد علي عبدالله الفرح