كتب/د. أحمد عبد الله القاضي في صبيحة يوم الأربعاء تاريخ 12 أغسطس سنة 1998م ظهر لي مقال في صحيفة الأيام ( العدد 486) تحت عنوان " مشروع تشليح أراضي المنطقة الحرة / عدن " وصادف في ذلك اليوم أن كان مجلس الوزراء منعقداً يناقش من ضمن أمور أخرى ، موضوع دمج هيئة المناطق الحرة مع هيئة الاستثمار وكان المخطط في الواقع هو تذويب هيئة المناطق الحرة في هيئة الاستثمار وليس دمجها . وقد أثار مقال " التشليح " قدراً كبيراً من الجدل بين الناس حول نية الحكومة في " استضافة " مشروع " المنطقة الحرة " في اليمن حتى أن المفكر اليمني الكبير أبو بكر السقاف خرج في مقال تحت عنوان " المنطقة الحرة أو الفزورة الكبرى في السياسة اليمانية " في صحيفة الثوري عدد (1538) بتاريخ 27/8/1996م كاتباً...... " تلك البشارة التي زفها إلى القراء د. /أحمد القاضي عضو مجلس إدارة هيئة المناطق الحرة تحت عنوان دال وجميل " مشروع تشليح أراضي المنطقة الحرة ( عدن ) . وفي الجانب الرسمي ، أثار مقال " التشليح " حفيظة الذين اعدوا مسرحية التشليح تحت عنوان " الدمج" ومن جهة أخرى لفت المقال انتباه أصحاب الأفئده الوطنية الصادقة والأيادي الرسمية النظيفة " لايزال في الحكومة بعض الخيرين " إلى " الفخ " الذي تنصبه مسرحية " الدمج" فسعوا إلى عرقلة إصدار قرار الدمج وثبتوا إلى هذا اليوم (أكثر من عشر سنوات ). ويكمن الفخ الذي نصب حينئذ للمنطقة الحرة تحت يافطة " الدمج " بكل بساطة في محاولة " نزع " الحماية القانونية عن أراضي المنطقة الحرة في عدن ، التي يسيل لها لعاب لصوص الأراضي بسبب مواقعها المتميزة . وتلك المحاولة افترض فيها أن تكون باستخدام وسيلة قانونية هادئة لا تثير بلبلة ولا شكوكاً يمكن من خلالها " إزاحة " المظلة القانونية التي تظلل أراضي المنطقة الحرة . وهذه المظلة هي عبارة عن قاعدة قانونية تمنح " المنطقة الحرة " صفة الأرض الأجنبية وبذلك تحصن أراضي المنطقة الحرة وتحميها من إجراءات البيع والشراء، لأن الدولة باختصار شديد لا تملك الحق القانوني في بيع أراضي أجنبية ! ولقد أجمعت القوانين " المستضيفة لمشاريع المناطق الحرة على تعريفها بأنها لأغراض الاستثمار تعتبر مناطق أجنبية معزولة والبضائع فيها كأنها خارج إقليم الدولة (( وتعتبر البضائع فيها خارج المملكة ...- القانون الأردني على سبيل المثال وليس الحصر )) ولا حظوا بأنني استخدم كلمة " يستضيف" فيها أنسب ، فالمشاريع داخل المنطقة الحرة عبارة عن ضيوف على البلد يمكن أن يرحلوا في أي وقت أو يمكن للحكومة أن تشتريهم مثلما فعلنا مع محطة عدن للحاويات التي اشترتها الحكومة من يمنفست في أكتوبر2003م بعد إبرام اتفاقية المخالصة . وهذه الحصانة ضرورية لسبب بسيط وهو أن المناطق الحرة تعيش على إيجارات الأرض ولا تعيش على البيوع ولا على الضرائب فهي محرومة من الضرائب لأنها بمثابة ملاذ آمن لرؤوس الأموال ( الجوالة ) التي تتجنب دفع الضرائب في بلدانها . فإذا قامت الإدارة ببيع أراضيها فسوف تفقد المنطقة الحرة أهم مصدر دخل لها. لذلك عندما نتحدث عن الاستثمار داخل المناطق الحرة فنحن نتحدث عن النشاط الاستثماري " خارج البلد " وهو النشاط الذي تحكمه قوانين وأنظمة وإجراءات مختلفة تماماً عن تلك التي نطبقها على النشاط الاستثماري داخل البلد. ومن هذا المنطلق فإن دمج إدارة المنطقة الحرة مع إدارة الاستثمار - الهيئة العامة للاستثمار- أو مع غيرها من الهيئات أو المؤسسات العامة التي تعمل داخل الإقليم الجمركي للدولة ( داخل البلد ) فإننا كمن يمزج الماء بالزيت نخلط مادتين لا يمكن أن تؤلفان مادة واحدة . وبذلك لا يمكن للبلد أن تستفيد من هذا المزج بل ستخسر !! وسيكون المستفيد الوحيد من هذا الدمج هو " جنجويد الأرض " ذلك السمسار الذي ما فتئ يرصد بصبر اللحظة التي ستذوب فيها المنطقة الحرة في شخصية " شقيقتها الكبرى " هيئة الاستثمار التي يجوز لها بيع أراضيها للمستثمرين بكل حرية فهذه الأراضي لا تملك حصانة " الأرض الأجنبية " . وفي مطلع العام المنصرم كُلفت مع عضوين من مجلس إدارة الهيئة وهمها الأستاذ / محمد سعيد ظافر والدكتور/ عبد القادر باهارون بالنزول إلى محافظة لحج المرشحة لاستضافة مشروع المنطقة الحرة الصناعية وأثناء ما كنا نجوب الصحراء " بالقرب من مصنع الحديد مع أمين عام المحافظة الأستاذ / علي ماطر ومدير أمن المحافظة الدكتور / حسين ، لمحت سيارتي صالون تتحركان ببطء شديد خلفنا وكانتا على بعد حوالي ثمانمائة متر من سياراتنا وعندما سألت أمين المحافظة عنهما أجابني " هؤلاء من سماسرة الأرض فقد انتشر بينهم انتشار الحريق خبر نزولكم إلى المحافظة لتحديد المنطقة الصناعية الحرة وهم منتظرون فقط إعلاناً صغيراً بافتتاح المشروع " ! فسألت مباشرة مدير الأمن .. كم في المئة من مساحة هذه الصحراء قد ظهرت فيها " ادعاءات ملكية " ؟ أجابني مابين أربعة إلى ثمانية في المئة ! فألتفت عندئذٍ إلى أمين المحافظة وقلت له .... " ما ينفعش .." طارت من أيديكم المنطقة الحرة الصناعية " وعدت مع زميلي ظافر وباهارون إلى مقر الهيئة في عدن ومنذ ذلك اليوم انطفأ الحماس لمشروع المنطقة الحرة الصناعية في لحج التي تملك المؤهلات الهائلة لتكون من أكبر المناطق الصناعية الحرة في الإقليم وتشكل بذلك " التوأم " للمنطقة الصناعية الحرة في عدن والعمق الجغرافي لميناء عدن الحر .. السياسة الاستثمارية في المناطق الحرة ( اليمنية ) مختلفة ولا تحتم عليها أن تتبع خطى السياسة الاستثمارية داخل البلد ويُخطئ من يعتقد بأن السياسة الاستثمارية للدولة يجب أن تكون سياسة واحدة، خططها وبرامجها وأهدافها من لون واحد. السياسة الاستثمارية في المنطقة الحرة وجهتها السوق الخارجية كما لا يجوز أن تتماثل مشاريعها مع المشاريع المقامة داخل البلد بل العكس هو المطلوب، أن تكون المشاريع في المنطقة الحرة مختلفة عن تلك التي تنشأ في البلد . التنوع هو المطلوب وليس التماثل ! ولقد أصاب الرئيس الصيني الراحل بنج الذي خلف الزعيم الصيني ماو تسي تونج كبد الحقيقة عندما أطلق شعاره " الحكيم " بلد واحد بنظامين ( استثماريين ) أثنين. وعندما أطلقت الصين في عام 1979م على أول منطقة حرة فيها تسمية " المنطقة الاقتصادية الخاصة " فقد كان الغرض من ذلك هو " التمويه " (( المغالطة )) لتجنب الاحتجاجات المحتملة من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني . ضد القيادة الجديدة " الرئيس الصيني " وضد وزير النقل الصيني يى في " المتابع لإنشاء المنطقة الحرة في مدينة تشين جن فالمصطلح " منطقة حرة " كان ينظر إليه آنذاك بأنه مصطلح رأسمالي / امبريالي بحت سيعيد الصين إلى ماضيها الرأسمالي ! وكان ممكنا أن " تُجهض " فكرة إنشاء مناطق حرة في الصين في المهد بسبب استخدام هذا المصطلح الامبريالي البحت الذي يمثل خروجاً عنيفاً عن التقاليد الشيوعية . واليوم توافينا الأخبار الرسمية بأن هناك توجهاً من حكومتنا المحترمة بإلغاء " الهيئة العامة للمناطق الحرة " بقرار إداري ليفسح المجال أمام تشكيل ما يسمي ب " المناطق الاقتصادية الخاصة - هكذا - تشبهاً بالتجربة الصينية . وعلمنا بأن هذا التوجه مستند إلى أطروحات وضعها خبير " تركي " وربما غير تركي ولكن المهم خبير أجنبي وهو أمر تتحسب له حكومتنا كثيراً وتضع للأجنبي الخبير أهمية كبرى وهي على يقين -في أحوال كثيرة- بأن ذلك الخبير يأتي " ليقضم " من أصل المساعدة الأجنبية نصيب الأسد، ثم يعود أدراجة إلى بلده دون أن يقدم أي نفع للبلد . فلماذا ننشئ " مناطق اقتصادية خاصة " ؟ ما هي الحكمة ؟ ! وهل مصطلح المنطقة الحرة يحرج الحكومة ؟ ما صنف الضغوط المفروضة عليها ؟ وهل يتعارض مصطلح المنطقة الحرة مع مبادئ اقتصاد السوق الحرة ؟ فإذا كان المتكلم مجنوناً كان المستمع عاقلاً كما تعود الناس في اليمن أن يقولوا في مسألة عجيبة كهذه ! وأما السيناريو الآخر وهو " إلغاء" الهيئة العامة للمناطق الحرة بغرض شطب مقرها الرئيسي في صنعاء وبعثرة موظفيها على عدد من الجهات العامة تحت إشراف وزير الخدمة المدنية، على أن يكون الإلغاء بقرار من السلطة التنفيذية وليس بقانون ليصبح المركز الرئيسي للهيئة في مدينة عدن ! وهنا نتساءل : لماذا يحصل كل هذا الضجيج الذي يخلف" إحباطاً " لدى المستثمرين الذين كلما بانت لهم الطريق إلى" أرض الميعاد " تظهر لهم مطبات جديدة لم يتوقعوها؟! ألم يفكر أحد بأن الغاء الهيئة بقرار سيؤدي إلى خرق قانون المناطق الحرة رقم ( 4 ) لسنة 1993م ؟ !- المادة ( 1 ) فقرة ( ب ) من القانون المذكور تعرف الهيئة بأنها ..الهيئة العامة للمناطق الحرة المنشأة بمقتضى القرار الجمهوري رقم ( 49 ) لسنة 1991م ؟! هذا القرار يذكر بأن المركز الرئيسي للهيئة هو في صنعاء العاصمة وليس في عدن وقد انصهرت أحكامه في القانون ( 4 ) لسنة 1993م . لذلك إذا أريد للهيئة أن تغير مقرها الرئيسي من صنعاء إلى عدن يجب علينا أن نعدل هذه الفقرة ( ب ) من المادة ( 1 ) من القانون ( 4 ) لسنة 1993م ويكون التعديل بقانون وليس بقرار إداري . أنا من أبناء عدن ويشرفني كثيراً أن تكون عدن هي المركز الرئيسي لهيئة المناطق الحرة بل ولغيرها من الهيئات خصوصاً تلك العاملة في المجال البحري وفي غيرها من المجالات التي تكون عدن حاضنة مناسبة لمقار نشاطها الرئيسي، ولكن يجب أن يحصل ذلك بالصورة القانونية الصحيحة . فإذا أقدمنا على اتخاذ إجراء كهذا " الغاء الهيئة بقرار إداري " فهذا يعني أن عمل الحكومة ينقصه الاستقرار وينعكس ذلك سلباً على استقرار القوانين والتشريع عموماً . واستقرار القانون هو مفتاح الاستقرار السياسي للدولة حتى هذه الفتن التي نشهدها اليوم في اليمن لا ترتقي إلى تلك الدرجة من الخطورة على الاستقرار السياسي للبلد، فهي أقل شأناً من ظاهرة عدم الاستقرار في القوانين ! هل مكتب صنعاء يشكل عبئاً كبيراً على الهيئة بالقدر الذي يدفعنا إلى اتخاذ خطوات متطرفة كهذه ؟ ! فلماذا يا تُري نقامر بمستقبل المنطقة الحرة لنخرج من مأزقها الحاضر ؟ ! ولو أراد العالم اليوم إلغاء لعبة " كرة القدم" فليس عليه أن يأتي بالقنابل والصواريخ والمتفجرات لدك نوادي كرة القدم و ومقاراتها الدولية أو اغتيال رؤساء الفيفا ، وإنما بكل بساط يمكن له الغاء هذه اللعبة الجماهيرية المحبوبة لدى الشعوب بإحداث " إرباك " في قوانين اللعبة ... في كل سنة قانون جديد أو تعديلات جديدة لقوانين اللعبة وسيتوقف النشاط الرياضي لهذه اللعبة من تلقاء نفسه بدون متفرقعات تماماً مثلما يحصل مع لعبة " المنطقة الحرة " هنا في اليمن . فإذا كان ولا بد من تحويل عدن مقراً رئيسياً للهيئة العامة للمناطق الحرة، فأمام الحكومة أحد أمرين : الأمر الأول في غاية اليُسر وهو " إقفال "وليس " الغاء " المكتب في صنعاء واستيعاب الموظفين في عدن ( لمن أراد ذلك من الموظفين ) بأمر إداري من رئيس الوزراء بصفته المشرف المباشر على نشاط المنطقة الحرة / مادة ( 4 ) فقرة ( أ ) من القانون 4/ 1993م وتأجير مكتب متواضع كمكتب اتصال لتسهيل أعمال عدن لدى المصالح المركزية هنا في صنعاء أو تحسباً لإنشاء مناطق حرة حتى في صنعاء مثلاً منطقة حرة ( وليس سوقاً حرة) بجوار مطار صنعاء كما تفعل سائر الدول العربية ( سوريا مثلاً ) والأجنبية ( مطار شانون في ايرلندا أول وأشهر منطقة صناعية في التاريخ )!! الخطوة الأخرى الأكثر صواباً هي ، إصدار قانون يتألف من مادتين فقط . الأولى تقول - بتشكيل مجلس إدارة للهيئة يكون مقره الرئيسي في عدن ويصدر بتسمية أعضائه قرار جمهوري لاحقاً (( يصدر القرار الجمهوري بتشكيل مجلس إدارة " متفرغ " وقليل العدد لا يزيد عن خمسة أفراد فقط )) والمادة الثانية- نشره في الجريدة الرسمية ويعمل به من تاريخ صدوره ويلغى أي قرار سابق في هذا الشأن ." وبس " !