كتب/علي محسن حميد عندما التحقت بوزارة الخارجية أواخرعام 1970 عينت في الإدارة الاقتصادية التي كان يديرها الدبلوماسي القدير المرحوم عبد الولي حسان. وفي إحدى اجتماعاته بالملحق الاقتصادي السوفييتي استغرب ا لأخير من عدم استفادة اليمن من قرض سوفييتي مقداره خمسون مليون روبل مضت سنوات على تقديمه بدون أن تتابع اليمن تنفيذ تفاصيله . وفيما يخص ماتم الاستفادة منه -وهو قليل جدا- طلب الملحق أن تسدده اليمن عينا بتصدير قطن إلى الاتحاد السوفييتي من وادي سردود الذي أنشأ فيه السوفيت مشروعا زراعيا كبيرا - اعترف بأهمية هذا المشروع وبمقدار مااستثمر فيه من قنوات ري ومعدات وبنية تحتية خبير زراعي امريكي عمل في اليمن في مجال التربة في الثمانينيات من القرن الماضي وقد تم تفكيك هذا المشروع بصورة تدعو للحزن وكأننا انتقلنا إلى المرحلة الصناعية ولاحاجة لنا بالزراعة - .وعندما طلب الملحق الاقتصادي التسديد العيني كان يدرك بأن الخزانة اليمنية وقتها خاوية وكان موظفو الدولة يتقاضون مرتباتهم بعد أن يمرأسبوع أو أسبوعان على موعد استحقاق المرتب .وفي وزارة الأستاذ الكبيرالراحل النعمان الأب خرجت مظاهرة في صنعاء قادها المرحوم يوسف الشحاري تطالب الحكومة بتسليم المرتبات في حينها وبمحاربة الفساد واتهم متظاهرون بعض أركان الحكم بتهريب أموال عامة إلى الخارج وشاعت وقتها حكاية لم تثبت دقتهامنسوبة إلى إذاعة لندن قالت إن قائدا عسكريا وسياسيا يحمل أعلى رتبة عسكرية يمنية وتولى منصبا سياسيا رفيعا جدا يعد الأغنى في الوطن العربي . وآنذاك كانت علاقات اليمن الاقتصادية الدولية محدودة وقاصرة على الاتحاد السوفييتي والصين ودول المعسكر الاشتراكي وعدد من الدول العربية التي كانت تسمى تقدمية .وأذكر أنه في ذلك الحين طلبت اليمن قرضا من هولندا قدره سبعة ملايين دولار وأن الأخيرة اشترطت لتقديمه ضمانة المملكة العربية السعودية التي كانت لاتزال علاقة اليمن معها ومع هولندا في بداياتها الأولى بعد تحقيق المصالحة الوطنية عام 1970 واعتراف الدولتين بالنظام الجمهوري. انتقل من هذه الخلفية التاريخية إلى واقع اليوم والسلوك الحكومي الذي ظل على ثباته ومبدئيته ولم يتغير برغم تغيير مظهر الموظف الحكومي وارتدائه أفضل الماركات العالمية وارتفاع دخل الشريحة العليا في الجهاز الإداري المنوط بها تقدم البلد ورفاهه والذود عن استقلاله الاقتصادي .و هنا أود التوضيح بأن مشكلة استيعاب العون الاقتصادي الخارجي -رغم استفحالها في اليمن- لاينفرد بها وحده دون سائرمعظم دول العالم الثالث ولقد قالت لي دبلوماسية فرنسية في لندن بأن الاتحاد الأوروبي يخصص معونات للدول العربية بالمليارات من اليوروات ولكن العرب لايستفيدون إلا من القليل منها ومع ذلك يشكون من تقصير الأوروبيين نحوهم . وللحقيقة لقد كان الشطر الجنوبي من الوطن وبشهادة المنظمات الدولية من الدول القلائل في العالم الثالث التي تستوعب المساعدات الدولية وتتابع تدفقها في مواعيدها.وأجزم أننا لو لم نتخذ إجراءات تعسفية وغير قانونية ضد آلاف من الموظفيين المدنيين الجنوبييين بعد حرب 1994 ومنهم اقتصاديون أكفاء لكان استيعابنا للعون الخارجي أفضل وأداؤنا الإداري بشكل عام أكفأ. في مطلع الألفية الجديدة قام الرئيس علي عبد الله صالح بزيارة للصين ونتج عن الزيارة تقديم الصين دعما قدره مليار دولار وكان هذا مكسبا كبيرا لم يكن ليتحقق بدون هذه الزيارة وبدون أن يكون تعبيرا عن مصالح حاضرة ومستقبلية مهمة للصين في اليمن.و برغم عدم علمي كغيري عن مدى الاستفادة الكلية أو الجزئية من هذا القرض إلا أن مصيره ليس أفضل من مصير قرض ستينيات القرن الماضي السوفييتي السابق الذكر. ويلحق بالحالة السابقة نتائج زيارة الرئيس لليابان قبل عدة سنوات التي عادت على البلد بثمار طيبة وكان من فرط ابتهاج الرئيس بها تصريحه عن نيته القيام بالمتابعة الشخصية للاستفادة من التزام اليابان بدعم التنمية في اليمن وفعلا استقبل الرئيس السفير اليابانيبصنعاء بعيد الزيارة لهذا الغرض وحده . ماالذي حدث بعد ذلك وكم نسبة الاستفادة مئويا؟ لاأحد يعلم . ويمضي مسلسل الفرص الضائعة أكثر وأكثر، ففي مؤتمر لندن في فبراير عام 2006 خصص المانحون لليمن 5,7 مليارات دولار، قدمتها دول عربية وغربية ولكن بعد مرور ثلاث سنوات ونصف اتضح أن استفادة اليمن كانت أقل من 10% من المبلغ المرصود وبحساب السنين فإن اليمن بوتيرة العمل البيروقراطي الحالية تحتاج إلى نصف قرن لكي تستوعب كل هذا المبلغ أي بعد أن يصبح سكانه خمسين مليونا يحتاجون لعشرات المليارات لإنقاذهم من الفقر والجهل والأمراض المستوطنة.مؤتمر الرياض في نهاية الشهر الماضي ذكر اليمنيين بأن حكومتهم قصرت في واجبها نحوهم وأنها لم تكن في مستوى المسئولية والتحديات الهائلة التي تحيط بالبلد وأنها أضاعت وبددت فرصة كبيرة وفرها مؤتمر لندن 2006وأهدرت سنوات كان يمكن خلالها قطع أشواط مهمة في مضمار التنمية الاقتصادية الشاملة ونقل اليمن من المراتب الأخيرة في تصنيف الدول الأكثر فقرا والأقل تقدماإلى مرتبة أعلى في نفس التصنيف والتخفيف من البطالة والفقر وخلق فرص عمل ومايتبعها من تحسن فرص التعليم والتطبيب لكل من يعمل . اليمن الرسمية وغير الرسمية لاتتحدث عن هذا التقصير الحكومي الذي يدعو للخجل ولاتلوم أو تحاسب، وهي مشغولة فقط بالسياسة وبصراع الديكة و تدفن رأسها في الرمال كالنعام وتبتعد عن أهم مايشغل الناس ويوفر أسباب النهوض والتقدم . لقد برأت الحكومة ذمتها برفعها سقف توقعاتها من مؤتمر الرياض وجازفت وبطريقة غير ناضجة بإعلان مطالب بعشرات المليارات من الدولارات من مانحين حاذقين يرقبون وضع اليمن جيدا في كل مناحيه ويدركون نقاط ضعفه وقوته . وقدبدت الحكومة هناك وكأنها تخلي طرفهاوتسلم مقاليد أمورها للغير، لأن قرابة 45 مليار دولار لاتعطى بدون قيود مشددة وأحيانا مهينة ،هذا لو تمت الاستجابة للمطلب اليمني. لقد خرجت الحكومة بخفي حنين وتم تقريعها لأنها لم تستفد مما قرره مؤتمر لندن في 2006 ومن لايستفيد من مبلغ يقل عن الستة مليارات دولار لن يستفيد من العون الجديد الذي توهم أنه سيطاله وأنه في متناول يديه. في هذا المؤتمر أكد المانحون أن لاأحد يساعد لله وأن على اليمن أن يساعد نفسه أولا وذكروا حكومتنا الموقرة التي تعد أضعف حكومة في تاريخ اليمن الحديث بأنها لم تستوعب ماسبق أن قدمه نفس المانحين في لندن وأن خزائنهم ليست مفتوحة على مصراعيها لبيروقراطية كسلى لاتعمل ولاتستفيد من الفرص المتاحة التي لم تتح لغيرنا من الدول إلا في النادر . بعد مؤتمر الرياض كان الأحرى بنا أن نتجه نحو تشكيل حكومة جديدة أو على الأقل أن يقوم مجلس النواب -لو كان سلطة تشريعية يقظة ومسئولة وتملك حساسية نحو المصالح العامة- بإحدى مسئولياته الدستورية والوطنية للمطالبة بإقالة الحكومة أو لمحاسبتها ومساءلتها عن أسباب التقصير الذي يحدث، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى جرع إنقاذ متواصلة بعد أن سلمنا مرضنا الاقتصادي لطبيب غير يمني لمداواته وانسحبنا من ميدان المسئولية الوطنية والدستورية وقبلنا -عن طواعية وعن عجز- أن يتولى غيرنا المشاركة في إدارة أخص شئوننا. وفي اعتقادي أن غياب وزارة الخارجية عن أن تكون طرفا ثالثا في التفاوض ومتابعة القروض والمعونات والاستفادة منها هو أحد أسباب المشكلة. لقد استبعدت الخارجية قبل الوحدة بسنوات عن أن تكون طرفا في علاقات اليمن الاقتصادية الدولية برغم أن الشأن الاقتصادي سياسة خارجية وليس سياسة داخلية. لقد كان وزير الخارجية حاضرا في المؤتمرات الثلاثة ، لندن 2006 ولندن 2010 والرياض فبراير 2010 و سيكون في برلين في مارس 2010 وهذا اعتراف محلي وخارجي بدور وزارة الخارجية الذي ينبغي أن يكون رديفا ومتكاملا مع دور وزارتي التخطيط والاقتصاد وغير قاصر على حضور المؤتمرات الدولية . إن اعتمادنا على المانحين الذين أوكلنا أمورنا إليهم واعتمدنا عليهم وعلى شيمهم وعطفهم وأعلنا الاستقلال عن أداء دورنا التنموي الوطني والسيادي يجعل من دور وزارة الخارجية لاغنى عنه. ولكي تكون الأمور أكثر تحديدا في ظل الاعتماد المتزايد على الغير يمكن استحداث منصب وزير دولة للتعاون الدولي في وزارة الخارجية . لكن علينا أن ندرك أن الاعتماد المفرط على الغير -الذي استملحناه وغرقنا فيه وهو من مخلفات الحرب الباردة ومرحلة ماقبل استخراج النفط في اليمن- معيب وطنيا وأخلاقيا وقصر نظرويهمش الرقابة المحلية، لأنه يحيط العلاقات الاقتصادية الدولية بالأسرار والغموض غير البناء ويهدر في نفس الوقت الاستفادة المثلى من العون الخارجي . يقول سفير سنغافورة السابق في الأممالمتحدة السيد كيشور محبوبيان مؤلف الكتاب الهام (العالم الآسيوي الجديد): إن الدعم الخارجي يقوي الحكومات في الدول الفقيرة ويجعلها تعامل شعوبها بازدراء و لاتهتم بمشاكل المواطنين لأنها تعتمد على الخارج في التمويل.. ويضيف ،أنه عندما يقل الاستثمار الأجنبي ويزداد العون الخارجي يكون البلد المعني في وضع غير عادي.