كتب/البرفيسور. سيف العسلي على الرغم من الحديث المتكرر عن الاهتمام بالتعليم و اصلاحه، و على الرغم من استراتيجيات التعليم المتعددة، و على الرغم من الموارد المالية التي خصصت للتعليم فان الحقيقة المرة هي ان التعليم في اليمن لا زال متخلفا. بل انه يمكن القول بانه فاشل بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى. و بما ان التعليم هو مفتاح تقدم و تطور اليمن فانه لا بد من البحث عن الاسباب التي تسببت في فشله من السعي لإصلاحه وفقا لذلك. ان اصلاح التعليم لم يعد رفاهية و انما اصبح حاجة و ضرورة. فالاستقرار السياسي و ترسيخ الممارسات الديمقراطية يتطلب تعليماً فعالاً. و تحسين الاوضاع الاقتصادية يتطلب توفر حد ادنى من مستوى التعليم. و التغلب على المشاكل الاجتماعية يتطلب حدا ادنى من التعليم. ان فشل عملية التعليم في اليمن يرجع ،من وجهة نظري، و في المقام الاول الى تغليب الاعتبارات المذهبية والسياسية على الاعتبارات الفنية للتعليم. لقد بني على ذلك عدم وضوح مفهوم التعليم و العوامل المرتبطة به لدى الجهات المشرفة عليه و على مراكز القوى في البلاد. فبدلا من التركيز على متطلبات التعليم الفنية فقد تم اعطاء الاوية للاعتبارات المذهبية و السياسية. و نتيجة لذلك فقد أضحت العملية التعليمة مرتعا للأيدولوجيات المذهبية و السياسية. و بدلا من ان يكون التعليم وسيلة لتقليل الصراعات المذهبية و السياسية فقد اصبح مسرحا لها و مصدرا لتغذيتها و تبريرها و اشعالها. ان اصلاح التعليم في اليمن يتطلب ازاحة الاعتبارات المذهبية و السياسية عنه بشكل كامل. فحقيقة التعليم الحقيقي و الفعال تنبع من اعتبارين اساسيين. التعرف على وسائل الاستشعار و القدرة على فهمها كما هي. ان هذين الاعتبارين مستقلان و لا علاقة لهما لا بالتمذهب و لا بالسياسة. فقد خلق الله وسائل الاستشعار و اعطى لكل انسان قدرات تمكنه من تحليلها و فهمها. فالله قد امتن على آدم عليه السلام و ذريته بهذه الهبة و كرمه بها. و قد من الله على آدم و ذريته بأنه لم يحرمهم منها حتى في حال عصيانهم له او حتى في حال كفرهم به. فها هو آدم عليه السلام لم يحرم من هذه الهبة عندما عصى ربه. فبها تعرف على خطئه لأنه تلقى كلمات من ربه ففهمها فتاب فتاب الله عليه. و التاريخ يشهد ان القدرة على الفهم -أي القدرة على التعليم- ظلت متوفرة في من كفر بالله. فمعرفة الله ترتبط بالقدرة على التعلم. و كذلك معرفة الحق و الباطل. لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". فاذا كان لا اكراه في الدين فانه من باب أولى لا إكراه في المذهب و لا في السياسية. ان الدين الحقيقي هو الذي يقوم على الإقناع و الاقتناع و كذلك التمذهب و كذلك السياسة. فمن الملاحظ انه تم السماح بتعدد الاديان بشكل أو بآخر لكنه لم يتم السماح بالتعدد المذهبي على الاطلاق و كما انه لم يتم السماح بالتعدد السياسي خلال المراحل التاريخية الانسانية السابقة لعصر انتشار العلم. فقد ارتبط التسلط السياسي بالتعصب المذهبي اكبر من ارتباطه بالتعصب الديني. لقد تمكن الانسان المعاصر في بعض مناطق العالم من التغلب على التعصب الديني و المذهبي و التسلط السياسي من خلال نشره للتعليم الحقيقي الفعال. إنه ينبع من الفطرة التي فطر الانسان عليها بدون تشويه او تلاعب او خداع او اكره. لذلك فانه أفضل الوسائل التي تمكن الانسان من إيصال مشاعره و ما يدور في خلجاته إلى الآخرين بصدق وإخلاص. وفي نفس الوقت فإنه أيضا يمثل أفضل الوسائل للتعرف على مشاعر و ما يدور في خلجات الآخرين. فمن خلال هذا التفاعل تكونت الحضارة الانسانية. فقد كانت مهارات القراءة و الكتابة و الحساب هي أسس التعليم الفعال. فقد مثلت مهارة القراءة تفوقا على مهارة التحدث لأنها قد سمحت بتطوير عملية التواصل لتكون قادرة على تجاوز الزمان و المكان. فالقراءة قد مكنت من يجيدها أن يطلع على تجارب من سبقه من حيث الزمان و من لا يعيش قريبا منها. و ذلك فقد جعلتها أكثر استقلالا في رأيه ممن لا يتواصل الا مع من حوله اي من خلال التحدث. و قد مثلت القراءة دافعا لتطوير الكتابة. فلا قيمةلأي كتابة ما لم يكن هناك من هو قادر على قراءتها. وبالإضافة الى ذلك فان الكتابة قد سمحت بتراكم المعرفة و دقتها. فالكتابة هي الطريقة الوحيدة التي تسجل الافكار بدقة و تنقلها بدقة كذلك. انها تسمح بالاستفادة من تجارب الآخرين. اما مهارة الحساب فإنها تسمح بتحديد الحقوق و الواجبات بدقة و كذلك فإنها تمكن من التأكد من الحصول على الحقوق و القيام بالواجبات. ولا يمكن ان تستقيم الحياة الاجتماعية و السياسية من دون ذلك. بالاضافة الى ذلك فان مهارة الحساب تسمح باتخاذ القرارات من خلال المفاضلة بين الخيارات المتاحة. فعلى الرغم من ان الانسان يخلق و لديه القدرة على تعلم كل من القراءة و الكتابة و الحساب فان الطريقة التي يتعلم بها هذه المهارات تأثر على فعاليتها. و يتم ذلك من خلال التركيز على متطلبات هذه المهارات كما هي من غير خلطها باي اعتبارات اخرى مثل التعصب المذهبي و التسلط السياسي. فمن ذلك فانه لابد من احترام ما توافق عليه الجميع حول دلالات رموز الكتابة. فبدون ذلك فلا معنى للقراءة. و كذلك فانه لا بد من القبول بقواعد الحساب بحسب طبيعتها. تقوم اسس العملية التعليمة في اليمن على الحفظ و الرواية و المرجعية الشخصية. و لا شك ان ذلك يتناقض مع كل من القراءة و الكتابة و الحساب. فالقراءة تختلف عن الحفظ. اذ ان القراءة الصحيحة لا بد و ان تكون صامتة وشاملة في حين ان الحفظ يعتمد على الترديد و التجزئة. فغالبا ما يكون الحفظ من خلال رفع الصوت و الترتيل والتركيز على الكلمات من حيث النطق و لكنه يتجاهل المعنى. من الملاحظ ان منهاج التعليم الاساسي في اليمن (السنوات الست الاولى للتعليم) تحتوي على قدر كبير من مهارات التحفيظ و الترتيل و التقليد و النقل غير المنضبط. و لا تحتوي هذه المناهج الا على النذر اليسير من المهارات الحقيقية لكل من القراءة و الكتابة و الحساب. و لذلك فإن هذا النهج من التعليم لا يساعد على الفهم و التحليل و الإدراك و انما على التقليد الاعمى الذي يؤدي الى التعصب و الشقاق و الفراق و التناحر. و الاكثر اهمية من ذلك ان التعليم لا يؤدي الى مراجعة الممارسات الماضية و الحالية بهدف تقييمها و اكتشاف مكامن القصور فيها و العمل على تصحيحها. فلا علاقة للتعليم و التغيير والتطور بما يفقده اهم هدف من اهدافه. إن إصلاح التعليم في اليمن لن يتحقق إلا إذا تم إعادة صياغة التعليم الأساسي بحيث يركز على المهارات الأساسية؛ اي القراءة و الكتابة و الحساب. ان الكتابة تختلف عن الرواية. إنها تنبع من الفرد نفسه و لذلك لا بد و ان تشرح نفسها بنفسها. اما الرواية فإنها تعتمد على النقل. و كل الأبحاث في هذا المجال قد أوضحت ان النقل اللفظي اي الرواية ليست منضبطة نتيجة لقصر ذاكرة الإنسان و لسهولة التلاعب بها. ان الحساب يختلف عن المرجعية الشخصية. فالحساب يملك قواعد تصحيح نفسه بنفسه في حين المرجعية الشخصية تعتمد على التقديس و القبول بالرأي لا لأنه صادق بحد ذاته وإنما لان من صدر منه صادق. و بما انه لا عصمة الا للأنبياء فانه لا يمكن الوثوق بالآراء فقط لأنها صدرت من أشخاص نحترمهم. فحتى لو كانت آراؤهم صادقة في أوقاتهم و متوافقة مع ظروفهم فإنها لا يمكن ان تكون كذلك في أوقاتنا وظروفنا. ولا يمكن الاستفادة منها إلا إذا تم تفكيكها. وإذا ما تم ذلك فإنها تفقد كونها مرجعية وإنما يمكن اعتبارها مرشدة.