لم تعد مكانة الدولة تتحدد في امتلاك عناصر القوة الكلاسيكية الاقتصاد والتقنية العسكرية وحدهما وإنما بالقوة الناعمة من ثقافة وفنون ورياضة وسياحة وتعليم وحكم رشيد التي يمكن أن تجعل من بلد كبريطانيا قوة ناعمة عالميا ومن مصر قوة ناعمة إقليميا . في 18/11 نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية تقريرا يقول "إن بريطانيا أكبر قوة على الأرض برغم أن الإمبراطورية قد ولت ولم تعد تتحكم في الأمواج".وذكرت الصحيفة بأن هذه القوة تعتمد على القوة الناعمة لبريطانيا وهي طبقا لتعريف جامعة هارفارد عام 1990تعتمد على الأداء الحكومي،والبنية الدبلوماسية،والمخرجات الثقافية ومستوى التعليم والجاذبية لرؤوس الأموال. وقد حازت بريطانيا على المركز الأول ثم تلتها الولاياتالمتحدة، فألمانيا ثم فرنسا وخامسا السويد. وفي مصر ينادي مصريون كثر بأن تستثمر حكومتهم القوة الناعمة التي تتمتع بها مصرللتعويض عن فقدانها للمركز القيادي ودورها القومي ابتداء من عام 1970. ويعرف الدكتور العراقي خضر عباس عطوان الدور بأنه " توجه سياسي يبغي تحقيق أهداف معينة في نطاق المكان/الإقليم والزمان" .في اليمن بعد اغتيال الحمدي أضعنا البوصلة والدور والمكانة. وطيلة ثلث قرن "ضحكوا علينا". نعم، ضحكوا علينا حتى صدقوا أننا بلداء وأنهم أذكى من الشعب واخترعوا أدوارا وهمية وألقابا للحاكم كفارس القدس والرئيس الضرورة وغيرهما مما لا يمت لطبيعة الحكم وأفعال الحاكم بصلة لأن الدور عطاء ورسالة وليس تسولا وكذبا. ولا ننكر أن سنوات قليلة من عهد صالح كانت رغيدة نسبيا وسادها وفاق محدود النطاق لأنه كان يريد أن ينسى الناس الحمدي وعهده. ونتج عن سياسات خاطئة تراكمت ولم تعالج لغياب الديمقراطية والشجاعة في نفس الوقت عند معاونيه ثم حرب صالح وحلفائه في 1994 تدهور مكانة اليمن وضعف لحمة أبنائه، فتح شهيته للدم فخاض بعدها ستة حروب فاشلة في صعدة وظن أنه سيتاجربها كما تاجر وتربح من الصراع المسلح في المناطق الوسطى ولم يدرك أن البيئة الإقليمية التي حلب ضرعها حتى غزو العراق للكويت قد تغيرت وأن بضاعته قد بارت برغم استمرار تخويفه لها من بعبع حليفه القاعدة ومن البعبع الإيراني. ترافق تراجع مكانة اليمن مع تدهور اقتصادي وازدياد حالات الفقر والبطالة والتذمر الشعبي وتصاعد واضح في الفساد صم صالح أذنيه عنه واتهم غيره به على طريقته وحده في الهروب إلى الأمام. وبدءاً من مؤتمر لندن الأول عام 2006عومل اليمن كرجل مريض ودولته كدولة هشة ورخوة وفاشلة. شكل مؤتمر لندن طوق نجاة لصالح لم يحسن استخدامه بل تمادى في غيه ولم يعد يسمع إلا مايطرب أذنيه. وفي نفس الوقت قبل وصاية أطراف إقليمية ودولية وفي نيته الانقلاب عليها ليس غيرة على السيادة والكرامة الوطنية ولكن لكي يخلو له الجو في العبث بشؤون البلاد. أدركت نفس أطراف مؤتمر لندن الأول خطورة تفاقم أوضاع اليمن على مصالحها وأمنها أكثر من إدراكه هو، ثم أدت تراكمات وتوترات استمرت سنوات في الجنوب إلى أن انفجر البركان الجنوبي وتحولت المطالب الحقوقية إلى مطلب سياسي واضح وهو استعادة الدولة وتقرير المصير. ووقتها كان لابد لبعض الدول أن تتحرك لإنقاذ مايمكن إنقاذه ولكنه لم يفهم الرسالة. عن الوضع في الجنوب يقول باحث يوناني راقب الوضع في عدن كان الجنوبيون إلى ماقبل 2007يصفون الشماليين بالدحابشة وهم يبتسمون أو تظنهم يمزحون ولكن منذ أن انطلق الحراك لم تعد كلمة دحباشي تتداول لأنها لم تعد معبرة عن مرحلة جديدة ومزاج مختلف واختفت الابتسامه وبدأ التجهم.وفي يناير 2010 انعقد مؤتمر لندن الثاني بعد فشل صالح في استثمار نتائج المؤتمر الأول مسبوقا بتصريح لجورج براون رئيس الوزراء البريطاني السابق في 2 يناير قال فيه " إن اليمن حاضنا وملاذا للإرهاب ويشكل تهديدا إقليميا ودوليا". لم يأت هذا التصريح من فراغ بل عقب محاولة فاشلة في ديسمبر 2009 للنيجيري عبدالمطلب لتفجير طائرة في الجو استقلها من صنعاء. بعدها وحتى الآن منعت طائرات الخطوط اليمنية من الهبوط في مطار هيثرو ولم يعد من السهل على المواطن اليمني الحصول على تأشيرة حتى لزيارة دول شقيقة. وتقديرا لموقع اليمن حاولت بعض الدول أن تخرج صالح من مآزق صنعها بنفسه كتشكيل مجموعة أصدقاء اليمن على مستوى الدبلوماسية متعددة الأطراف وعلى المستوى الثنائي حاولت بريطانيا المساعدة بتقديم خبير لإصلاح الوضع المالي والإداري الخارب. قابل الخبير صالح وبناء على رغبته هو وليس الخبير قابل ابنه وهو غير ذي صفة في مجال مهمة الخبير. وعاد الخبير بانطباع واضح وهو أن صالح غير جاد في الإصلاح ولايريده. بدأ صالح يدرك أن العطار لن يصلح ما أفسده هو لأن الأوضاع خرجت عن سيطرته وحتى قوله صراحة لمسؤولين كبار كفى سرقات فإن أحدا لم يعد يصغي له. ومع هذا ظل يدس رأسه في التراب غير مقدر أن العالم بدأ يضيق به. وفي ذات الوقت استمر خطابه التقليدي الذي كان يوسع الشقة مع المعارضة وآخرها كان في ديسمبر2010 في جامعة عدن وفيه كرر اكتشافاته المتأخرة حول ظروف قيام الوحدة والحرب الباردة والهروب إلى الأمام...الخ، وسط تصفيق وانبهار نعاج لاتملك من وعي اللحظة شيئا. ومن يقرأ تقديم التوجيه المعنوي للقوات المسلحة للخطاب يظن أن صالح أعاد اكتشاف الجاذبية.. لو كان صالح رجل دولة لتصرف مع خصومه كما تصرف نهرو بعد استقلال الهند عندما استعان بثلاثة من المناوئين لحزب الكونجرس والمتعاونين مع الإنجليز لكفاءتهم مصغيا ومطيعا لغاندي الذي قال له لقد أتى الاستقلال للهند كلها وليس لحزب الكونجرس.صالح اعتبر الوحدة فيدا له وحده. إن دافعي لكتابة هذا المقال هو الاستقبال غير المتوقع في دولتين خليجيتين للرئيس عبدربه هادي قبل أيام . في الكويت وحدها استقبل الاستقبال اللائق برئيس دولة كبيرة ذات تاريخ وحضارة برغم أنها مثقلة بالمشاكل من قبل أميرها بما يشير إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات اليمنية - الكويتية بعد أن تدهورت في عهد صالح ابتداء من عام 1987 عندما لم يحضر مؤتمر القمة الإسلامية "لأسباب أمنية" ولخوفه المزعوم من عمل ما تدبره إيران في الجو ضده بسبب تحالفه مع صدام حسين في الحرب ضد إيران.وبعد ثلاث سنوات زاد صالح الطين بلة بموقفه المراوغ من احتلال الكويت من قبل العراق. والحقيقة أن السبب الرئيسي لحنقه هو عدم فتح الكويت خزانتها له لكي يتربح من الصراع في المناطق الوسطى لأن الإنفاق فيها يخضع لرقابة برلمانية بما في ذلك مخصصات الأمير. وفي هذا المقام أتصور أن منطق الرئيس هادي سيكون هو نفس منطق الشهيد إبراهيم الحمدي عندما قال" سأعمل أي شيء من أجل اليمن"بعد أن علم الحمدي أن البعض استاء لاستقباله في مطار صنعاء الأمير الراحل سلطان وزير الدفاع السعودي آنذاك. والتدهور في المكانة يتم بالتدريج وليس دفعة واحدة وغالبا مايكون الوضع الاقتصادي من أهم عوامل هذا التدهور. والتدهور لايتحمل مسؤوليته سوى رئيس الدولة وخاصة ذلك الذي يمسك بكل مفاتيح السلطة ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة.. تسارعت وتيرة التدهور الاقتصادي بعد احتلال العراق للكويت وطرد قرابة مليون يمني من الخليج. وكان من الخسائر الفورية في المجال الدبلوماسي منافسة السعودية لليمن على منصب رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1991وفوزها بالمنصب. الرئيس هادي ذهب إلى هذه الدول مدعوا وليس طالب دعوة و لم يفعل ما كان يفعله صالح الذي كان يأمر بعض السفراء بتسول دعوات له لزيارة بعض البلدان الغربية وكان السفير الناجح عنده هو الذي يفلح في حث الدولة المعتمد لديها على دعوته لزيارتها لكي يستثمر الزيارة داخليا ولو لأسابيع أو اشهر . لقد كان الهدف الرئيسي لتلك الزيارات هو الترويح عن النفس فقط لأنه كان يضرب بكل الارتباطات المكتوبة والمتفق عليها مع الدولة الداعية عرض الحائط. ولم تكن تستفز صالح مستويات الاستقبال المنخفضة أو التوديع لأنه في كثير من زياراته لم يكن مدعوا أو يقوم بزيارة رسمية. خلاصة القول إن صالح أوصل اليمن إلى مايقرب من الحضيض وهاهو الواقع شاهد على ذلك ونحن نقوم الآن بدور التلميذ المجتهد ولكن الذي لا يدرس سوى حصة واحدة يبذل كل الجهد في حضرة سفراء بعض الدول للبرهنة بأنه قام بحل واجباته المدرسية (المبادرة الخليجية).. وحكاية التدرج في الوصاية قديمة ومرتبطة بالفساد المالي وسأضرب مثلا واحدا يعود إلى سبع سنوات عندما رافق السفير الهولندي وفدا ثقافيا كبيرا يرأسه وزير إلى لندن ليصرف بنفسه دعم بلاده المالي لمعرض للآثار اليمنية في المتحف البريطاني لأن الثقة بنزاهة من يتلقى الدعم الهولندي تلاشت.. هذا الوضع المهين لم يكن بخافٍ على الرئيس السابق الذي لم تكن تخفى عليه خافية وأضاع في زحمة طموحات غير ديمقراطية ما يجب أن يتسم به رجل الدولة من غيرة على سمعة الوطن والحفاظ على كرامته.. ولكن أليس هو القائل مرارا وتكرارا بأن فاقد الشيء لا يعطيه.