انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    "استحملت اللى مفيش جبل يستحمله".. نجمة مسلسل جعفر العمدة "جورى بكر" تعلن انفصالها    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    الدكتور محمد قاسم الثور يعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    بن مبارك يبحث مع المعهد الملكي البريطاني "تشاتم هاوس" التطورات المحلية والإقليمية    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    رئيس مجلس القيادة يناقش مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي مستجدات الوضع اليمني مميز    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    مليشيا الحوثي تنظم رحلات لطلاب المراكز الصيفية إلى مواقع عسكرية    بعد أيام فقط من غرق أربع فتيات .. وفاة طفل غرقا بأحد الآبار اليدوية في مفرق حبيش بمحافظة إب    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تهريب 73 مليون ريال سعودي عبر طيران اليمنية إلى مدينة جدة السعودية    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على ضوء أحداث مصر الأخيرة:
"الإسلاميون".. إلى أين يدفعون المنطقة؟
نشر في الوسط يوم 29 - 12 - 2012


الحلقة الرابعة
لا يزال حديثنا في هذه الحلقة من إطلالتنا العامة حول الأحداث العاصفة والخطيرة التي شهدتها ولا تزال مصر تشهدها مع بداية مرحلة استلام "الإخوان المسلمين" للحكم ومعهم حلفاؤهم من قوى وأحزاب وجماعات "الإسلام الحزبي"، متواصلاً ومستكملاً لحديثنا طوال الحلقات الثلاث السابقة، حول الأسس والمرتكزات العقائدية الحاكمة والمحددة لخطها السياسي وطبيعة نظرتها وتعاملاتها مع القوى والأحزاب والجماعات السياسية والمنظمات المدنية الأخرى ومعالم مشروعها المتصور لبناء الدولة والمجتمع وأساليب إدارتهما، ومستقبل الجماعة على المدى المستقبلي المنظور.
وكنا قد استعرضنا على مدى الحلقتين الأخيرتين طبيعة ومعالم البرامج التربوية والتثقيفية والتنظيمية والسياسية والأخلاقية المعتمدة في إعادة تشكيل وبناء عقلية وشخصية عضو الجماعة ومنهجية تفكيره الناظمة لطبيعة تعامله وعلاقاته وتعاطيه داخل الجماعة وخارجها فيما يخص سائر القوى والأحزاب والجماعات والمنظمات المختلفة في الساحة وكذا الأسرة والمجتمع بشكل عام، ووفقا لكل ذلك كان قد اتضح لنا أن حزب أو جماعة "الإخوان المسلمين" قد نجحت في خلق "مجموعة إنسانية" متجانسة ومتماسكة وشديدة الترابط، على امتداد العقود التسعة منذ تأسيسها، في إطار منظومة حزبية تنظيمية بالغة الصرامة والانضباط والسرية المطلقة، على نحو يفوق على حد كبير ما عرفناه من تنظيمات حزبية وسياسية على امتداد العالم، وهو نجاح يرجع أساسا إلى قدرة الجماعة على استغلال واستثمار الدين وتوظيفه إلى أقصى الحدود في نشأتها وحركتها ومراحل نموها وتطورها، على نحو ما بيناه بشكل عام في سياق الحلقات السابقة، وكانت محصلته النهائية إقامة "تنظيم دولي" له انتشاره وتأثيره وثقله الملموس، نشأ وتطور على قاعدة صلبة من شعور نفسي وإيماني عميق وراسخ لدى الفرد والجماعة معا، بأنه مؤسس على مشيئة وإرادة إلهية اختارته على علم ودراية ليكون، وحده دون سواه، الجماعة المؤمنة النقية الصافية لحماية الدين والدفاع عنه وإعلاء كلمته وفرض تعاليمه وشرائعه على المجتمع بأسره، بالحكمة والموعظة الحسنة إن نفعت أو بالقوة والجهاد المقدس والاستشهاد طريقا إلى الجنة والنعيم، ولم يكن الشعار الذي اتخذته الجماعة منذ بدء تأسيسها وحتى الآن، اختيارا عشوائيا عارضا بل كان يعبر تعبيرا دقيقا وصارما عن طبيعة الجماعة وأهدافها وأساليب عملها من خلال السيفين المتقاطعين القائمين على عبارة "وأعدوا" اجتزاء من الآية "وأعدوا لهم من استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" الأنفال، وبهذا نجحت الجماعة، عبر مسيرتها وبرامجها في الإعداد والتنشئة والتكوين، إلى فرز المجتمع وتقسيمه إلى قسمين من الناحية الشعورية النفسية الوجدانية، القسم الأول تمثله الجماعة وهو الفئة أو الأمة أو الجماعة أو المجتمع المؤمن المتمسك بدينه وإسلامه ونقائه وتميزه.. والقسم الثاني المكون من سائر فئات ومكونات المجتمع بأغلبيته المسلحة وغير المسلحة، وهو الذي أطلق عليه وفقا لبرامج التثقيف والإعداد والتكوين الفكري الداخلي "المجتمع الجاهلي"، والأخطر من هذا التقسيم والفرز الثنائي الشعوري النفسي الوجداني، ما تمخض عنه وما ترتب عليه من قيم وممارسات وأساليب تعامل وعلاقات لا تتفق ولا تنسجم لا مع تعاليم الإسلام وأخلاقياته وقيمه السامية ولا مع القيم والأخلاقيات والقيم الإنسانية الأصيلة، والتي لا تتعارض مع جوهر وتعاليم الدين الإلهي، فلقد أعطت الجماعة لنفسها، ورسخت في عقلية وشخصية أعضائها، الحق والمشروعية الدينية والأخلاقية بأن لا تتعامل مع أفراد ومكونات وقوى ومنظمات المجتمع، خارج نطاقها، والذي اعتبرته "مجتمعا جاهليا" وفق معايير وقيم وسلوكيات وتعاليم الإسلام السامية، بل جوزت، أو قل شجعت ضِمناً، ممارسة الكذب والاحتيال وإلصاق التهم الباطلة ضدهم وأخذ حقوقهم، وعدم إنصافهم، ومصادرة أشيائهم، بحجة أن مثل هذه الجرائم لا غبار عليها إذا مارسها فرد من الجماعة المؤمنة أو مارستها الجماعة ضد أفراد وجماعات المجتمع الكافر، وكم من هذه السلوكيات غير السوية مورست بحق الآخرين سواء أكانوا مسلمين وهو الغالب أو كانوا من أتباع الديانات والمعتقدات الأخرى! منها من عشناها وشهدنا عليها بل واكتوينا بنارها وآثارها المدمرة، طلبة في كليات عسكرية، مثلا، حيث كان معلموها المسيطرون من المنتمين لجماعة الإخوان، كانوا متفوقين ومتميزين وناجحين تمت مضايقتهم وتعذيبهم وترسيبهم وهم ناجحون لا لشيء إلا لمجرد أنهم ليسوا من أعضاء الجماعة، وآخرين من المنتمين للجماعة تم إنجاحهم وهم راسبون وحظوا بتسهيلات ومعاملات تفضيلية بدون حق أو استحقاق.. أذكر ذات مرة في جلسة جمعتنا ببعض الأشقاء المصريين في القاهرة صعقت حين انبرى أحد أساتذة جامعة عين شمس منتشياً ومتفاخراً بأنه لم يقصر يوما ولم يتوان عن ترسيب وإسقاط طلبة مسيحيين يدرسهم رغم أنهم ناجحون! وذلك جزء مما اعتبره واجبه الديني ابتغاء مرضاة الله سبحانه!! وكم حقوق تم الاستيلاء عليها سواء بتزوير وثائق أو تواطؤ قاض في محكمة، وكم من الأموال العامة نهبت بالفساد والتزوير والاحتيال بحجة أن نهب أموال الدولة "الكافرة" جائز ومباح!! وكم من أحكام قضائية استصدرت بإعدام أناس أبرياء لفقت لهم تهما باطلة وشهادات زور كاذبة لمجرد أنهم يناصبون الجماعة العداء أو حتى لا يتفقون مع خطها ونهجها، كل ذلك وغيره كثير جرى ويجري من منطلق أفكار وتصورات خاطئة جرى زرعها وغرسها في عقول وتفكير أعضاء الجماعة على اعتبار أنها تستند إلى تعاليم وشرائع الإسلام ظلما وبهتانا والإسلام منها براء بل يمقتها الإسلام ويذمها ويحرمها تحريما قاطعا "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" و"لا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى" و"يا أيها الذين آمنونا كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين".. والواقع أن هذا الفهم المغلوط فيما يخص التعامل مع الآخرين وفقاً لمعايير وقيم وأخلاقيات الدين، كأن "جماعة الإخوان المسلمين" قد وقعت من حيث تدري أو لا تدري في ذات منهج بني إسرائيل الخاطئ كما توضحه الآية الكريمة "ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"..
والواقع أننا نريد، من خلال حديثنا السابق، والذي استغرق الثلاث الحلقات السابقة كلها، أن نصل على ضوئه الوقوف أمام جملة من أهم وأبرز الإشكاليات الجوهرية التي برزت وتشكلت وتنامت وتعمقت بفعل نتائج وتأثيرات وتمخضات البرامج التثقيفية والإعدادية والتكوينية سياسيا وفكريا وتنظيمياً، استنادا إلى الأسس والمرتكزات العقيدية الايديولوجية التي بلورتها جماعة "الإخوان المسلمين" وطورتها ورسختها عبر مراحل وظروف مختلفة، منذ تأسيسها عام 1928م وحتى الوقت الراهن، إشكاليات ومعضلات بالغة الأهمية لا يقتصر تأثيرها ونتائجها وما يترتب عليها، على نطاق جماعة "الإخوان المسلمين" سواء على مستوى تنظيمه الدولي أو على مستوى فروعه في البلدان العربية والإسلامية فحسب، بل تمتد لتشمل مختلف الساحات السياسية والاجتماعية والثقافية في تلك البلدان مجتمعة أو فرادى، وتتحدد أهم وأبرز تلك الإشكاليات والمعضلات السياسية الكبرى التي نريد مناقشتها هنا على النحو التالي:
أولا: إشكالية الدين والسياسة والحزب:
يبدو أننا ملزمون، قبل البدء في مناقشة هذه الإشكالية، على تحديد وتوضيح وضبط "المصطلحات" ومفهومنا لها في سياق هذا النقاش، منعا لسوء الفهم والتباس المعاني وخلط المفاهيم، ولهذا فإننا نعني ب:
*الدين: ونعني به، إجمالا، منظومات القيم والتعاليم والشرائع التي تضمنتها رسالات الله الخالق وحملها رسله وأنباؤه الكرام ليبلغوها للناس على اختلاف المراحل التاريخية وتعدد المجتمعات الإنسانية، ودين الله سبحانه هذا الذي بلغ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام رسالته، حدد الله سبحانه وماهيته وهدفه بآية كريمة تقول "ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"، إذن واضح تماما بأن هدف الدين الرئيس والمحوري هو إقامة حياة الناس كافة بموازين القسط والعدل، ورسالة "القرآن" العظيم، التي هي ما اصطلح على تعريفه بالإسلام، في السياق العام لمسيرة دين الله الواحد، حددتها بشكل جلي وواضح تمام الجلاء والوضوح الآيتان الكريمتان: "الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون" والآية: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا عظيما".. هذا هو الدين، كما حددت الآيتان الكريمتان معالمه وهدفه، ومئات الآيات الكريمة في القرآن العظيم.
*السياسة: هي العلم الإنساني الذي يبحث ويستقصي المراحل والظروف والعوامل التي سار عليها الفكر السياسي والفلسفة السياسية والنظم السياسية في نشأتها وتطوراتها واختلاف مناهجها وصيغها ومضامينها منذ المراحل التاريخية الموغلة في القدم التي مرت بها الإنسانية جمعاء على اختلاف أماكنها وأممها وثقافاتها وحضاراتها وحتى اللحظة الراهنة، مبينا مجالات وأوجه الاختلاف والاتفاق فيما بينها وتباين منطلقاتها وغاياتها وأساليب عملها، والتي تتجه، في مجملها وهدفها العام، نحو إقامة وبناء الصيغة أو النموذج المثالي والأرقى والأكمل في نظم الحكم أو الدولة ورسالتها ووظيفتها في خدمة المجتمع وتحقيق رقيه وتقدمه واستقراره وأمنه وازدهاره عبر التنظيم الدقيق والشامل والسليم لمؤسساتها وسلطاتها والعلاقات الناظمة والضابطة لها وببعضها البعض، وعلاقتها بموظفيها ونوعية الحقوق الممنوحة لهم والواجبات أيضا، وعلاقتهم بدولتهم وأسس ومعايير بنائها وحركتها..الخ، على اختلاف مناهج البحث والدراسة المتضمنة تباين منطلقاتها الفلسفية والفكرية والسياسية والاجتماعية.
*الحزب: هو، بشكل عام، إطار سياسي تنظيمي حركي تعبوي، يستمد شرعية أو مبرر قيامه من امتلاكه لأيديولوجية أو نظرية أو برنامج نظري يتضمن رؤى وتصورات أو قناعات فلسفية وفكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإدارية وأخلاقية، تحدد طبيعة تشخيصها وتحليلها لواقعها المعاش وماهية مشكلاته وأزماته ومعوقات تطوره ورقيه ونهوضه الشامل من ناحية، وتحدد معالم وطبيعة ومضامين مشروعها المتكامل للبديل الذي تريد إقامته في كافة مجالات حياة الفرد والجماعة وشكل النظام السياسي والمجتمع الجديدين اللذين يسعى هذا الحزب أو ذاك لإقامته كبديل حضاري تتصور بأنه الأفضل والأسلم، متضمنا الأسس والأهداف العامة التي يسعى للانتصار لها وتنفيذها على أرض الواقع، ويضم في صفوفه وفي تشكيلات المؤمنين بها والمقتنعين بعدالتها والمستعدين للعمل والتضحية من أجلها بالحزب ومن خلاله، والواقع أن فكرة الحزب أو الأحزاب قد نضجت وتبلورت ونشأت، تاريخيا، وسط بيئة وتربة وثقافة وحركة المجتمعات الأوروبية إبان عصر نهضتها الصناعية والعلمية الكبرى، وهي إحدى أبرز تجليات وإبداع الفلسفة والايديولوجية والرأسمالية وقانونها الأساس المعلي والمقدس للفرد والحرية الفردية المطلقة، ونظريتها السياسية المسماة بالليبرالية، وقد برزت فكرة الحزب مع بدايات التشكيل الطبقي الناتج عن قيادة الرأسمالية والليبرالية للدولة والمجتمع الأوروبي المتقدم صناعيا وعلميا وحضاريا، بحيث نظر لمبرر وقيام فكرة الحزب على أنه بمثابة الإطار السياسي التنظيمي المعبر والممثل والمدافع عن الطبقات الاجتماعية المتبلورة والمكتملة التشكيل، وهكذا نشأ الحزب كمعبر وممثل سياسي منظم ومدافع وعامل من أجل طبقة اجتماعية وتحقيق مصالحها والانتصار لها.. وهكذا كان الحزب إطارا سياسيا يستند إلى ايديولوجية أو نظرية، معبراً عن مصالح وتطلعات طبقة اجتماعية، وتجمع في صفوفه وتشكيلاته وهيئاته أفراد وجموع تلك الطبقة، وخاصة المتحمسون منهم والناشطون والفاعلون، ويتولى الحزب تأطير وتجميع قواهم وتنظيمها وتنسيقها وتوجيهها في عمل منظم ومخطط وهادف وفعال سواء من خلال تشكيلات وهيئات ومستويات الحزب المتسلسلة والمترابطة أو عبر النقابات والاتحادات والمنظمات المدنية التي ينشئها الحزب أو يسيطر عليها ويجعلها شكلا من أشكال وأساليب حركة الحزب وأنشطته وفعالياته السياسية المتعددة والمتكاملة، بهدف الوصول في المحصلة النهائية، باسم الطبقة وبقواها وفعالياتها، إلى الوصول، ديمقراطيا وبالوسائل السلمية، عبر الانتخابات، إلى تسلم مقاليد السلطة وقيادة الدولة لتحقيق الأهداف والغايات والمصالح التي تضمنها إطاره الايديولوجي أو نظريته أو برنامجه السياسي المعلن. هذا هو الحزب في تعريفه ومفهومه وطبيعته ودوره بحسب وجهة نظرنا.
بعد هذا الضبط للمصطلحات وتحديد تعاريفها ومفهومها الذي رأينا أهميته لخدمة أغراض هذه المناقشة، نواصل الآن حديثنا فنقول بأن جماعة "الإخوان المسلمين" التي تأسست، على ما أذكر، في العام 1928م في المملكة المصرية، آنذاك، تعتبر أول من دشن وأدخل ما نسميه "الإسلام الحزبي"، تاريخيا، وذلك عبر عملية المزج أو الخلط بين ثلاثي، الدين - الحزب والسياسة، فكانت، تقريبا، أول حزب سياسي معاصر اتخذ من الإسلام أساسا ومرتكزا ومرجعا عقائديا له في العصر الحديث، والواقع أن جماعة الإخوان في البدايات الأولى لإعلان تأسيسها بدت طبيعتها مختلطة ومضطربة حيث ظهرت في البدء وكأنها جمعية دينية تهتم بالوعظ والدعوة والإرشاد بطابع صوفي في برنامج تثقيفها أضفاه عليها مؤسسها ومرشدها الأول الإمام حسن البنا الذي أخذ بالمنهج الصوفي وتأثر به وعكسه، إلى حد ما، على الرعيل الأول المؤسس والذي تلاه، إضافة إلى نظرة البعض لها، آنذاك، وكأنها أخذت بأساليب وأنشطة الحركات الكشفية من حيث التركيز على ممارسة أشكال الرياضات والاهتمام بالبنية الجسدية وكمال الأجسام وأنواع المصارعات الحرة..الخ، مع الاهتمام اللافت والمبكر بالمال وتنميته عبر مشاريع تجارية استثمارية محدودة ومتنامية، مع نظرة أخرى لها وكأنها منظمة شبابية شبه ثقافية..الخ، ولكنها وجدت نفسها تدلف بخطوات واسعة ومتسارعة وحثيثة نحو عالم السياسة، بأجوائه الملبدة ودهاليزه الغامضة ورماله المتحركة المتغيرة ومصالحه المتصارعة الرهيبة، ومن أوسع أبوابه ومداخله وممراته، ولما يمض على إعلان تأسيسها سوى بضعة سنوات قليلة، فواجهت أول تحد بالغ الخطورة والأهمية حين أصدر رئيس وزراء مصر، المخضرم والبارز محمود فهمي النقراشي باشا قرارا يوم 8 ديسمبر 1948م بحل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها وممتلكاتها واعتقال معظم أعضائها، وما أعقب ذلك من قيام "النظام السري الخاص" التابع للجماعة باغتيال النقراشي باشا يوم 28 ديسمبر 1948م، بعد أيام قليلة من قراره بحل الجماعة، وما نتج عن ذلك من اغتيال الإمام حسن البنّا، مؤسس الجماعة ومرشدها الأول يوم 12 فبراير 1949م من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للقصر الملكي، على أن تلك التطورات الدراماتيكية العاصفة كشفت عن عدة حقائق أساسية أهمها:
*إدراك السلطات الحاكمة لحقيقة التنامي والتوسع السريع والكبير للجماعة واستشعار ما يمثله من خطورة تهدد النظام الحاكم.
*أن سرعة توسع الجماعة وتناميها الكبير برهن على سعي الجماعة وتصميمها على السيطرة على الحكم، خاصة الشروع المبكر لإنشاء "النظام السري الخاص" كمنظمة عسكرية مدربة ومسلحة ونوعية تختص بعمليات الاغتيالات وسائر العمليات الخاصة التدميرية والتخريبية، وهو ما يقترن، عادة بالقوى والأحزاب المنظمة السرية التي تهدف أساسا إلى إنجاز عمل انقلابي تغييري عنيف لإسقاط نظام الحكم والحلول محله.
ورغم كل ذلك، بما فيه حل الجماعة، لكنها ظلت مستمرة في حركتها وأنشطتها وعلاقاتها واتصالاتها وإن كان في إطار من السرية المطلقة، إلى أن قامت ثورة 23 يوليو 1952م والتي كان للجماعة صلات وعلاقات ببعض قادتها وضباطها، بل وشاركت الجماعة فيها من خلال أحد كبار قادتها العسكريين الذي كان عضوا في مجلس قيادة الثورة، ورغم علاقتها الطيبة، عموما بالثورة، التي استثنت الجماعة من قانون حل الأحزاب السياسية في مصر، إلا أن الجماعة كانت مسكونة برغبة مهووسة لتصبح هي الممسكة بالسلطة والحكم وقيادة الدولة، ولهذا أقحمت نفسها في معمعة الخلافات المبكرة بين قادة الثورة ورجالاتها الجدد، مستغلة إياها لتصفية جميع أطرافها من العسكريين والتفرد بالحكم لوحدها، ومرة أخرى كان جهاز "النظام السري الخاص" حاضرا، مرتين، في تدبير مخططات للتدمير وتخريب المنشآت الحيوية لخلق حالة من الفوضى والإرباك ومن ثم تدبير محاولة اغتيال قائد الثورة جمال عبدالناصر في الاسكندرية وكان ما كان وما تلا ذلك من إجراءات إعدام عدد من قادة الجماعة المرتبطين بالنظام السري الخاص وحملات الاعتقالات والملاحقات الواسعة التي تعرضوا لها على مدى سنوات طويلة، وهو ما لا يدخل في صلب حديثنا هنا الآن، ونعود إلى مناقشة الموضوع الرئيسي هنا والمتعلق بابتكار الجماعة وتأسيسها ولأول مرة في التاريخ، تقريبا، لتجربة "الإسلام الحزبي" أو بعبارة أخرى حشر الدين وقولبته وشرنقته في إطار سياسي تنظيمي "حزب" يمنح نفسه حق التعبير عن الإسلام الدين، ويخلع على نفسه شرعية تمثيله واحتكاره سياسيا كما تدل على ذلك بوضوح التسمية التي تسمى بها وهي "الإخوان المسلمون"!! وذلك بحسب ظني ومعرفتي، واقع لم يسبقهم إليه أحد طوال التاريخ الإسلامي على امتداده، صحيح أن عددا كبيرا من الفرق والمدارس الفلسفية والفكرية نشأت وظهرت خلال القرون الأولى من تاريخ الإسلام، وكذا عدد كبير من المذاهب الفقهية التي أسسها أئمة كبار، كاجتهادات وتصورات لمواجهة تطور حياة المجتمع ومشكلاته المتجددة انطلاقا من رؤاهم وفهمهم لتعاليم الدين وفحوى نصوصه ومقاصده، إلا أن أيا من هؤلاء العلماء والأئمة والمفكرين الأفذاذ، لم يتجرأ أو يتجاسر في ادعاء "الإسلام" أو يمنح نفسه حق ادعاء "الإسلام" أو احتكار تمثيله والتعبير عنه على الإطلاق، بل سمعنا بأسماء سميت بها إبداعاتهم واجتهاداتهم العلمية مثل "الأشاعرة" و"المعتزلة" و"المرجئة" والمذاهب الفقهية "الحنفي" أو "المالكي" أو "الحنبلي" أو "الشافعي" أو "الجفري" أو "الزيدي" أو "الأباضي" أو "الإسماعيلي" أو "الظاهري" وهلم جرا، ولم يحدث أن سمى أي واحد منهم ما ذهب إليه باسم "المذهب الإسلامي" أو ما شابه، وإن تنكب أتباعهم بعدهم الطريق القويم وانحرفوا عن مقاصد أئمتهم وعملوا على "تجميد" المذهب أو الفكر و"تحنيطه" وإضفاء هالة من التقديس والتأليه عليه باعتباره الحق الديني المطلق وأتباعه هم "المؤمنون" الحق، وكل ما عداهم كفرة أو مرتدون أو فاسقون..الخ، والحقيقة أن ما فعله الأئمة الكبار والمفكرين الأفذاذ من تلاميذ "المدرسة القرآنية" لم يكن فعل "سهو" منهم أو مجرد "اختيار عشوائي" أبدا، بل كان متعمدا ومقصودا وناتجا لفهمهم واستيعابهم ومعرفتهم العميقة بجوهر الدين وطبيعة أحكامه وشرائحه، الذي يوجب عليهم ويلزمهم إيمانيا، بالتمييز والتفريق الحاسم والجذري بين "الثابت" و"المنزه" و"المتعالي" و"المطلق" و"الحق المبين" الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو مقتصر ومحصور بالله سبحانه وتعالى و"القرآن" العظيم فقط لا غير، وبين "النسبي" و"المحدود" و"المتغير" و"القابل للخطأ والقصور" و"التبديل والتغيير" واستحالة "الكمال"، وهو من صفات وطبائع البشر، مهما عظم شأنهم ولمعت عبقرياتهم، وما قد يظهر من قصور أو خطأ فيما احتوته مذاهبهم الفقهية أو أفكارهم ورؤاهم الفلسفية والفكرية، وإن استندوا على مرجعية كتاب الله المجيد، يكون منسوبا إلى أشخاصهم واجتهاداتهم الشخصية البشرية وعائدا إليها، ولا يمس، لا من قريب ولا من بعيد، قدسية وتنزيه الله جل جلاله ومطلق الحق والصواب في أحكام ونصوص وتعاليم وشرائح دين الله القويم كما وضحتها نصوص "القرآن" قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وبهذا المنهج القويم نبعد الله جل جلاله ودينه وكتابه العزيز عن التأثر بأهواء أنفسنا وشرور أعمالنا ومحدودية فهمنا ومقتضيات مصالحنا الدنيوية وتغليب أغراضنا ومطامعنا الشخصية.. ووفقا لمنظار الرؤية هذه، فإن جماعة "الإخوان المسلمين" كحزب سياسي وأمثاله من الأحزاب والجماعات التي تأثرت به وسارت على نهجه من جماعات "الإسلام الحزبي" قد ارتكبت، ولا تزال ترتكب، خطأ إيمانيا فادحا وخطيرا بخلطها ومزجها، بدون وجه حق أو مسوغ، بين "الإسلام" و"السياسة" و"الحزب" في دورها وحركتها وأنشطتها السياسية في المجتمع، وأوقعت نفسها في شكل خطير من أشكال "الشرك" و"الإشراك" بالله، بادعائها تمثيل "الإسلام" والتعبير عنه وتسمية نفسها باسم "الإسلام" وانزلاقها في هاوية المحذور الذي نهانا الله سبحانه عنه "ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"، وقوله تعالى: "يمنون عليك أن أسلموا، قل لا تمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين".. إنهم، في الحقيقة المؤسفة، يشاركون الله (تقدست أسماؤه) في سلطانه وعلمه وقدرته ودينه، في أسوأ وأبشع عملية استغلال واستثمار وتوظيف للدين في الأهواء والمصالح والأغراض الدنيوية الزائلة.
لكننا نتوقف عند هذا الحد لنواصل الحديث في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.
عبدالله سلام الحكيمي
بريطانيا - شيفلد 22 ديسمبر 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.