اجتماع بصنعاء يناقش جوانب التحضير والتهيئة الإعلامية لمؤتمر الرسول الأعظم    تعز .. إحياء الذكرى السنوية لرحيل العالم الرباني السيد بدرالدين الحوثي    لملس يزور الفنان المسرحي "قاسم عمر" ويُوجه بتحمل تكاليف علاجه    روسيا تحذر أمريكا من مساعدة تل أبيب «عسكريا»    محلل سياسي تهديد ترامب باغتيال خامنئي سيفجر المنطقة    رسميا.. برشلونة يضم خوان جارسيا حتى 2031    البيضاء : ضبط ستة متهمين بجريمة قتل شاب من إب    الأطراف اليمنية متخادمة مع كل المشاريع المعادية للمنطقة    انتقالي شبوة يتقدم جموع المشيعين للشهيد الخليفي ويُحمّل مأرب مسؤولية الغدر ويتوعد القتلة    الرهوي يناقش التحضيرات الجارية للمؤتمر الدولي الثالث للرسول الأعظم    ترقية اليمن إلى عضوية كاملة في المنظمة الدولية للتقييس (ISO)    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الاربعاء 19 يونيو/حزيران 2025    مأرب.. مقتل 5 اشخاص بكمين استهدف شاحنة غاز    السفارة الروسية في "إسرائيل" توصي رعاياها بمغادرة البلاد    وسط تصعيد بين إسرائيل وإيران.. اختفاء حاملة طائرات أمريكية خلال توجهها إلى الشرق الأوسط    مدارج الحب    طريق الحرابة المحمية    انهيار كارثي مخيف الدولار بعدن يقفز الى 2716 ريال    صراع سعودي اماراتي لتدمير الموانئ اليمنية    واتساب يقترب من إطلاق ميزة ثورية لمسح المستندات مباشرة بالكاميرا    إيران تخترق منظومة الاتصالات في الكيان    أزمة خانقة بالغاز المنزلي في عدن    لاعبو الأهلي تعرضوا للضرب والشتم من قبل ميسي وزملائه    شرب الشاي بعد الطعام يهدد صحتك!    ألونسو: لاعبو الهلال أقوياء.. ومشاركة مبابي تتحدد صباحا    بن زكري يقترب من تدريب عُمان    عاشق الطرد والجزائيات يدير لقاء الأخضر وأمريكا    شرطة صنعاء تحيل 721 قضية للنيابة    الكشف عن غموض 71 جريمة مجهولة    فقدان 60 مهاجرا قبالة سواحل ليبيا    موقع أمريكي: صواريخ اليمن استهدفت الدمام و أبوظبي وتل إبيب    بين صنعاء وعدن .. على طريق "بين الجبلين" والتفاؤل الذي اغتالته نقطة أمنية    ترامب يؤكد ان مكان خامنئي معروف ويستبعد استهدافه وإسرائيل تحذّر من انه قد يواجه مصير صدام حسين    الحديدة.. فعاليتان في المنيرة والزهرة بذكرى يوم الولاية    شاهد الان / رد البخيتي على مذيع الجزيرة بشأن وضعه على قائمة الاغتيالات    الإمارات توضح موقفها من الحرب بين إيران وإسرائيل وتحذر من خطوات "غير محسوبة العواقب"    الصحة العالمية: اليمن الثانية إقليميا والخامسة عالميا في الإصابة بالكوليرا    من يومياتي في أمريكا .. بوح..!    من يومياتي في أمريكا .. بوح..!    لأول مرة في تاريخه.. الريال اليمني ينهار مجددًا ويكسر حاجز 700 أمام الريال السعودي    حوادث السير تحصد حياة 33 شخصاً خلال النصف الأول من يونيو الجاري    استعدادًا لكأس الخليج.. الإعلان عن القائمة الأولية لمعسكر منتخب الشباب تحت 20 عاما    على خلفية أزمة اختلاط المياه.. إقالة نائب مدير مؤسسة المياه والصرف الصحي بعدن    تلوث نفطي في سواحل عدن    اسعار الذهب في صنعاء وعدن الثلاثاء 17 يونيو/حزيران 2025    طبيب يفند خرافات شائعة عن ورم البروستاتا الحميد    بالأدلة التجريبية.. إثبات وجود ذكاء جماعي لدى النمل!    صنعاء .. التربية والتعليم تعمم على المدارس الاهلية بشأن الرسوم الدراسية وعقود المعلمين وقيمة الكتب    وجبات التحليل الفوري!!    كأس العالم للأندية: تشيلسي يتصدر مؤقتاً بفوز صعب ومستحق على لوس انجلوس    القائم بأعمال رئيس المجلس الانتقالي يتفقد مستوى الانضباط الوظيفي في هيئات المجلس بعد إجازة عيد الأضحى    تعز.. مقتل وإصابة 15 شخصا بتفجير قنبلة يدوية في حفل زفاف    علماء عرب ومسلمين اخترعوا اختراعات مفيدة للبشرية    هيئة الآثار :التمثالين البرونزيين باقيان في المتحف الوطني    وزير الصحة يترأس اجتماعا موسعا ويقر حزمة إجراءات لاحتواء الوضع الوبائ    سرقة مرحاض الحمام المصنوع من الذهب كلفته 6ملايين دولار    اغتيال الشخصية!    فشل المطاوعة في وزارة الأوقاف.. حجاج يتعهدون باللجوء للمحكمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على ضوء الأحداث الأخيرة في مصر:
"الإسلاميون".. إلى أين يدفعون المنطقة!
نشر في الوسط يوم 15 - 01 - 2013

انتهى بنا الحديث في الحلقة الخامسة السابقة، عند تساؤلين رئيسيين..
الأول: حول المستقبل المتوقع لقوى وأحزاب "الإسلام الحزبي"؟
والثاني: إلى أين يقودون أو يدفعون بالمنطقة العربية؟
وسيكونان مدار حديثنا في هذه الحلقة الأخيرة لإطلالتنا العامة..
وحول آفاق المستقبل الذي نتصوره لقوى وأحزاب "الإسلام الحزبي"، ونقصد بها "الإخوان المسلمين"، كجماعة وحزب، وحلفائهم من القوى "السلفية" جماعات وأحزاباً، وذلك على مدى المستقبل المنظور، وبعد أن وصلوا مؤخرا إلى سدة الحكم وسيطروا عليه في عدد من الدول العربية، ومصر في مقدمتها وأهمها، وما تشير إليه التوقعات من الوصول إلى الحكم في عدد من الدول العربية الأخرى خلال فترة زمنية ليست بالبعيدة فيما يبدو.. وبالرغم من صعوبة وتعقيد تكوين صورة عامة لمستقبلهم السياسي في المنطقة العربية، نظرا لأنها المرة الأولى التي تهيأت لهم ظروف وأجواء وتطورات الوصول إلى الحكم منذ إعلان تأسيسهم التنظيمي قبل حوالى تسعة عقود خلت، ولا توجد لهم سوابق مماثلة يمكن القياس عليها واستخلاص نتائجها، ولعدم امتلاكهم لبرنامج سياسي محدد ومعلن لنظام الحكم البديل الذي يسعون لإقامته وإدارة شئون الدولة، والمعالجات والحلول لأزمات الواقع ومشكلاته، ولهذا فإننا سنلجأ إلى محاولة تصور معالم اساسية لمستقبلهم السياسي استنادا إلى ما تضمنته الحلقات الخمس السابقة من إطلالتنا العامة هذه، بشكل رئيسي، إضافة إلى بعض المؤشرات المستخلصة من إدارتهم القصيرة جدا للحكم والكاشفة لطبيعة رؤيتهم ومنهجهم في التعامل مع المشكلات والأزمات المعاشة ونظرتهم وتعاطيهم مع القوى والاحزاب السياسية الأخرى وسائر منظمات المجتمع المدني المتنامية الدور والأداء في المجتمع.
والواقع أن أخطر وأكبر مشكلة أو معضلة ستواجههم لا محالة، وتؤثر تأثيرا حاسما على دورهم ومستقبلهم السياسي برمته، تكمن في إصرارهم وتركيزهم الدائم والمكثف على "حصر" استنادهم ومرجعهم الفكري الايديولوجي والسياسي على الدين والإسلام بالكامل والمطلق، وما نتج عن ذلك وترتب عليه من الاستغلال والاستثمار والتوظيف المفرط للغاية للدين والمشاعر الدينية في تبرير وشرعنة وجودهم وتعزيز وتقوية وتنامي قوتهم وانتشارهم الشعبي والحزبي التنظيمي، ولا شك أن هذا الاستغلال والاستثمار والتوظيف المفرط للغاية للدين الإسلامي وادعاء تمثيله والتعبير عنه وحمايته والدفاع عنه حياضه، يعد سلاحا خطيرا وفتاكا بحدين متناقضين، فهو وإن حقق لهم مكاسب واسعة وأمدهم بأسباب وعوامل القوة والانتشار والتوسع والنفوذ، لكنه سيتحول، بالتأكيد، إلى بذرة فناء سياسي ومعول تدمير لقوتهم وكيانهم ودورهم، وخاصة في حالات تمكنهم من السيطرة على الحكم وإدارة شئون الدولة والمجتمع، التي تتطلب، أول ما تتطلب، خبرات متراكمة في إدارة تلك الشئون وسط خضم من المصالح والتطلعات لقوى ومكونات المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية، والتي هي بحكم طبيعتها متباينة ومعارضة، وتتطلب إلى جانب ذلك برنامج عام أو برامج وخطط تشخص تشخيصا دقيقا وعميقا مشكلات وأزمات حياة المجتمع في كافة المجالات وتحدد وترسم الحلول والمعالجات العلمية والناجحة والفعالة لها وتستشرف من ثم آفاق النهوض والتطور المطلوب للبلاد والشعب صناعيا وعلميا وزراعيا وتعليما وحضارة وازدهارا، وتحدد طبيعة وآليات وغايات إدارة الدولة والحكم وعلاقات ودور الشعب وقواه السياسية والاجتماعية والمدنية والدولة ومؤسساتها وسلطاتها ومكوناتها المختلفة..الخ، والواضح أنه لا الخبرات ولا البرامج والخطط العلمية المتكاملة ولا الرؤى السياسية للحاضر وإدارته وللمستقبل وبنائه من متطلبات وشروط إدارة الدولة والحكم سياسة واقتصادا ومجتمعا وثقافة ومستقبلا، يبدو أنها متوافرة، ولو بحدودها الدنيا، لدى قوى وأحزاب وجماعات "الإسلام الحزبي" التي بدأت تصعد إلى الحكم في عدد من الدول العربية مؤخرا للمرة الأولى في تاريخها.. ومسألة الاتكاء على الدين أن الإسلام والإفراط السيئ في استغلاله واستثماره وتوظيفه سياسيا باعتباره سندا ومرجعا وحيدا لها ولدورها وحركتها وأدائها في السياسة والمجتمع، وافتعال التجانس والتطابق القسري الكامل بين دين الله الخالق وبين السياسة والحزب الذي يمارسها سواء في المجتمع أو الدولة، هو مجانسة وتطابقية تعسفية وغير مشروعة، بالنظر إلى ما أوضحناه في سياق الحلقات السابقة من حديثنا، من اختلاف وعدم تطابق طبيعة وغاية كل منهما مع الآخر، فالإسلام هو دين إلهي أنزله الله الخالق في كتب ورسالات سامية عبر رسله وأنبائه المكرمين، لهداية الإنسان الفرد، ومن ثم المجتمع الإنساني، والارتقاء به إلى الأرفع والأسمى والأكمل عبر مجموعة من القيم والمثل والمبادئ والأخلاق الرفيعة القويمة والممارسات السلوكية المتطابقة معها في تعامله مع أفراد مجتمعه وأسرته وعلاقاته الحياتية تجاه محيطه وخالقه، وهو منظومة متكاملة تمثل ذروة السمو والكمال وتتميز بالديمومة والثبات والصلاحية باختلاف مقتضيات الزمان والمكان، وترك الإنسان والمجتمع وفقا وعلى أساس منظومة القيم والأخلاقيات والمثل والمبادئ والسلوكيات الرفيعة والقويمة تلك مسئولا وحرا في إدارة شئون حياته وتنظيمها وتطويرها على الدوام وفقا للإرادة الجمعية للجماعة الإنسانية.. "وأمرهم شورى بينهم".
أما السياسة والحزب والممارسة السياسية وأساليبها وغاياتها فهي ذات طبيعة (خلافية) واجتهادية قابلة للخطأ والصواب، وهي عادة ما تختلط وتتداخل وتتلون بالمصالح والمطامع والأهواء البشرية المتضاربة المتعارضة، وتتخللها منذ أقدم العصور أساليب ووسائل الخداع والكذب والقتل وسفك الدماء والظلم والقهر والطغيان ويكتوي بنيرانها الخصوم والأبرياء معا، وإن كان الأبرياء هم أكثر ضحاياها وأكبر المتضررين منها.. وهي، بهذه الطبيعة والكيفية، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تتجانس أو تتطابق أو تمت إلى الدين الحنيف بأية صلة أو علاقة، وهي كلها من أعمال وأفعال البشر التي يحاسب من جرائها الإنسان، عقابا وثوابا، في يوم الحساب الإلهي العظيم.
إن ادعاء الجماعات والأحزاب، التي تندرج في إطار ما أسميناه "الإسلام الحزبي"، بأن قيامها ووجودها وحركتها ودورها قد استند ويستند، إلى كونها تمثل الإسلام وتعبر عنه وتحميه وتدافع عن وجوده واستمراره، وأنها لا تهدف ولا تبتغي سوى تطبيق شرع الله وتحكيمه وإنفاذه بالكامل على الإنسان والمجتمع والدولة، وفي ممارستها السياسية داخل المجتمع حين تكون في موقع المعارضة، وفي الحكم والدولة عندما تكون هي الحاكمة، هو أمر بقدر ما يتنافى ويتعارض مع طبيعة دين الله القويم وجوهر تعاليمه السامية الرفيعة، فإنه يتسبب ويلحق أفدح الأضرار والأذى والإساءة البالغة للدين وطبيعته وجوهره بتحميله، ظلما وعدوانا وبهتانا، ما لا يتحمله ولا يقره من أخطاء ومساوئ البشر وممارساتهم للسياسة بوسائلها اللاأخلاقية بل والإجرامية الناتجة عن المصالح والأهواء ونزعات النفس البشرية الأمارة بالسوء، وتصويرها باعتبارها من شرع الله وتعاليم الدين وأحكامه السمحة العظيمة، وما قد يفضي إليه مثل هذا النهج المنحرف من تدنيس للمقدس وامتهان للمنزه وتخطئة وتجريم للحق المبين والعدل المطلق سبحانه وتعالى عما يصفون.
ولا شك بأن اللعب والعبث بمسألة الدين وادعاء تمثيله واحتكاره والتعبير عنه وفرض الوصاية البشرية عليه من خلال "تحزيبه" و"تسييسه" وتوظيفه على نحو بالغ السوء لجعله بمثابة الأداة أو القنطرة لتحقيق مصالح ومطامع ومكاسب وأهواء شخصية أو حزبية، وسط خضم هائل من المذاهب والفرق والمدارس الفقهية والفلسفية والسياسية التي تمثل الاجتهادات البشرية لأئمتها ومؤسسيها وإضافات أتباعهم المتعاقبين على مختلف مراحل التاريخ الإسلامي الأول وما تلاها مباشرة، إضافة إلى تعدد كتب روايات أحاديث نسبت إلى الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، وبكل تبايناتها واختلافاتها التي وصلت عند بعضها، إن لم يكن غالبيتها، حد تكفير أو تفسيق أو تبديع اجتهادات غيرها من المذاهب والفرق والمدارس والكتب وإخراجها من دائرة "الملة" أو الإيمان، نقول إن اللعب والعبث بمسألة الدين وسوء استغلاله واستثماره وتوظيفه لخدمة وتحقيق مصالح ومطامع دنيوية زائلة، من شأنه الدفع وتشجيع عملية توالد المزيد والمزيد من مدعي ومستثمري الدين ونصب أنفسهم الممثلين الحقيقيين والأصلاء للإسلام والتعبير عنهم، ويعتبرون أنفسهم أصحاب الشرعية الدينية الصحيحة، ويتهمون غيرهم بأوصاف تتفاوت بين الكفر والزندقة والفسوق والمروق وأصحاب البدع والهوى! وفي هذا الاتجاه فإنهم لن يواجهوا أية صعوبات أو معوقات في العثور على أسانيد كافية من بين ذلك الخضم الهائل من المذاهب والفرق والمدارس وكتب الحديث الشريف، الصحيح والضعيف، لتأصيل شرعيتهم الدينية وإخراجها باعتبارها تمثل الإسلام الصحيح أو النقي أو القويم!!
وبناء على كل ما سبق، وغيره كثير، أعتقد بأن جماعات وأحزاب "الإسلام الحزبي"، وعلى رأسها وفي مقدمتها جماعة أو حزب "الإخوان المسلمين" وحلفاؤها الحاليون من الجماعات والأحزاب "السلفية" ستكون في المستقبل المرئي، خاصة بحكم أنها صارت حاكمة وقائدة للدولة والمجتمع، عرضة لسلسلة من الإشكالات المستعصية والمعضلات العميقة تؤثر بعمق وعلى نحو خطير على دورها السياسي ومستقبل وجودها، فهي من ناحية، وهي تضطلع بمسئولية إدارة الحكم وقيادة الدولة والمجتمع، أمام معضلة إيجاد وتسويغ كل قراراتها وقوانينها وخططها وبرامجها ومواقفها بالأسانيد والأدلة الدينية والشرعية المتمثلة بالنصوص من "مصادر الشريعة الإسلامية ومناهج أهل السنة والجماعة"، في ظل وجود جماعات وأحزاب دينية أخرى لا بد أن تكون أكثر "مزايدة" و"تطرفا" و"غلوا" منها سواء من بين من هم حلفاؤها في الوقت الراهن أو من قوى وأحزاب جديدة سوف تنشأ مستقبلا.. ليس هذا فحسب، بل إن الأمر سيمتد ليشمل بتأثيراته وانعكاساته، جماعتها الحزبية ذاتها ومن داخلها.. حيث تشير التوقعات والاحتمالات، إلى اشتداد حدة التنافس والصراع والمواجهات الواسعة بين تلك الجماعات والاحزاب المندرجة ضمن إطار "الإسلام الحزبي" من ناحية وتبلور وتصاعد حدة الخلافات والانقسامات داخل كل جماعة وحزب على حدة.. هذا إضافة إلى اشتداد حدة الصراعات والمواجهة بينها وبين سائل القوى والأحزاب السياسية المعارضة الأخرى "غير الدينية" بفعل ما تتعرض له من محاولات التهميش والإقصاء السياسي من قبل "الإسلاميين" الحكام! كل ذلك وسط توقعات سلبية خطيرة بتدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية وانتشار البطالة والفقر الناتجة عن الافتقار إلى السياسات الحكيمة والكفؤة في إدارة وتوجيه تلك الشئون المهمة، وخلاصة تلك التوقعات تشير إلى أن تجربة الجماعات والأحزاب "الإسلامية" في الحكم ستعاني من الإخفاق والفشل وغالب الظن أنها ستسقط سقوطا سياسيا مدويا خلال فترة ليست بالطويلة.
ويبقى أمامنا، في الأخير، أن نقف لمناقشة سريعة حول التساؤل الثاني: "إلى أين يدفع أو يقود الإسلاميون منطقتنا العربية"؟ وفي محاولتنا لتسليط بعض الأضواء حول هذا التساؤل وبهدف تحقيق قدر ما من وضوح الصورة لا بد من استعراض سريع لأهم المحطات في المسار التاريخي لجماعة "الإخوان المسلمين" منذ بداية تأسيسهم في عشرينيات القرن العشرين وتنامي حركتهم وقوتهم، وصولا إلى تحولهم إلى "تنظيم دولي" وطبيعة علاقاتهم وتحالفاتهم الدولية حتى الوقت الراهن، وضمن هذا السياق العام، واستنادا إلى بعض الدراسات التي اهتمت بتاريخهم، فإن "الإخوان المسلمين"، وهي أول تجربة في التاريخ لتأطير "الإسلام" داخل إطار حزبي سري منظم، حظيت منذ بدء تأسيسها بتعاطف ودعم مالي للقوى الدولية الاستعمارية التي كانت تمثلها، آنذاك، كل من بريطانيا وفرنسا، واتخذ "الإخوان" في ظل الاحتلال البريطاني لمصر وخلال فترة حكم النظام الملكي، موقفا سياسيا مواجها أو معاديا لحزب "الوفد" الذي كان يعرف وقتها ب"حزب الشعب" أو حزب الأغلبية، والذي لعب الدور السياسي الأبرز في مقاومة واقع الاحتلال الأجنبي لمصر والتحرر من الاستعمار في سلسلة من عمليات الشد والجذب مع النظام الملكي آنذاك، ولا أريد هنا أن أكرر ما سبق أن أشرنا إليه في الحلقة الأول حول بعض أبرز محطات تاريخ الإخوان في مصر، بل اكتفي بذكر حقيقة، أخالها واضحة لدى الجميع، وهي أن "الإخوان المسلمين" منذ تأسيسهم في ظل النظام الملكي وبعدها في ظل نظام ثورة 23 يوليو 1952م ونظامها الجمهوري، كانوا يرتبطون بعلاقات طيبة وربما شبه "تحالفية" مع القوى الدولية الغربية آنذاك والتي آلت زعامتها خلال فترة أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن القول بأنها، أي جماعة الإخوان المسلمين، كانت على علاقة "صداقة" بالمعسكر الغربي العالمي الرأسمالي، في مواجهة المعسكر الشرقي الاشتراكي العالمي، ولعبت الجماعة دور القوة المحلية في مقاومة ومواجهة حركات التحرر الوطني وسلطاتها الحاكمة في العديد من الدول العربية بمختلف توجهاتها الثورية والقومية واليسارية، والتي ربطتها علاقات صداقة شبه تحالفية مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي العالمي الموالي له، وهو دور تم بالتنسيق والتعاون مع المعسكر الغربي العالمي وحلفائه بدون أدنى شك، وتأسس واستند على موقف وقناعة فكرية دينية، من وجهة نظرهم، بضرورة التحالف مع قوى الغرب الرأسمالي لمواجهة ومقاومة المعسكر الشرقي الاشتراكي ذي الايديولوجية الشيوعية الملحدة والمعادية للدين عموما! دون أن يقيموا اعتبارا أو وزنا للحقائق الملموسة على أرض الواقع التي تؤكد موقف الغرب المعادي للعرب والمسلمين عموما والمؤيد بالمطلق لإسرائيل وسياستها التوسعية، ووقوف المعسكر الشرقي الاشتراكي إلى جانب دول عربية وتسليمها ودعمها ومساعدتها اقتصاديا وسياسيا! وظل هذا الموقف ثابتا وراسخا لدى "الإخوان المسلمين" وسائر الجماعات والأحزاب الإسلامية التي نشأت بعدهم أو تفرعت عنهم في الغالب، ولم يطرأ عليه أي تغيير جوهري باختلاف المراحل والظروف والمتغيرات، تؤكده وتبرهن عليه الممارسات العملية على أرض الواقع، حيث خاض "الإخوان" ومعهم سائر الجماعات والاحزاب الإسلامية التي جاءت بعدهم، كافة المواجهات المسلحة والمعارك التي يخطط لها الغرب بزعامة أمريكا ويدعمها ويمولها لخدمة مصالحه وأهدافه الاستراتيجية العالمية في السيطرة والنفوذ، سواء بمواجهة وقتال نظم الحكم العربية المتمردة على الهيمنة والنفوذ الغربي، وفي محاربة السوفييت في أفغانستان ومن بعدها الشيشان والبوسنة والهرسك وغيرها من بلدان البلقان، ومحاولة دفع الأقلية المسلمة في الصين للتمرد وغير ذلك، ولم يحدث أن خاضوا أو شاركوا في أية حروب أو معارك لا يريدها الغرب وليست في صالحه على الإطلاق.. والواقع أن القوى الدولية الغربية بقيادة أمريكا كانت، منذ وقت طويل، تعطي أهمية واهتماما خاصا وكبيرا لبسط نفوذها وسيطرتها على المنطقة الغربية والإسلامية الممتدة من مراكش على سواحل المحيط الأطلسي وحتى اندونيسيا في أقصى الشرق على سواحل المحيط الهادي، بإقامة ودعم أنظمة حكم صديقة وموالية وإنشاء الأحلاف والتكتلات العسكرية الإقليمية، لإحكام طوق الحصار على الاتحاد السوفييتي سابقا وروسيا الاتحادية على أنقاضه والصين الشعبية، في إطار استراتيجية التنافس والصراع الدولي على بسط السيطرة والنفوذ والهيمنة على مصادر الطاقة العالمية وطرق وخطوط المواصلات العالمية...الخ.. وبحسب ما أكده الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل فإن أمريكا أدركت منذ فترة ليست بالقصيرة بأن العقيدة الدينية أو "الإسلام" هي وحدها القادرة على تحريك وحشد وتعبئة شعوب تلك المنطقة المترامية الأطراف والمهمة، استراتيجيا واقتصاديا، والسيطرة عليها وتوجيه حركاتها وتحديد اهدافها وتوجهاتها، وأن المشاعر والعواطف الدينية عميقة الجذور وشديدة الرسوخ هي وحدها القادرة والمؤهلة على جعلها سياجا منيعا وطوقا صلبا لمحاصرة وعزل وصد أية محاولات لبسط النفوذ والسيطرة عليها من القوى الدولية الكبرى التي تصنفها أمريكا والغرب كقوى منافسة لها وكعدوة خطيرة في المستقبل المنظور أي روسيا والصين، إضافة إلى الهند الصاعدة حثيثا نحو القمة! وهذا يجعلنا نفهم دوافع أمريكا في إنشاء "حركة طالبان" في أفغانستان وإعدادها وتدريبها وتسليحها سريعا وتمكينها من السيطرة شبه الكاملة على أفغانستان وحكمها بعد أن ضربت وهزمت قوى وفصائل المجاهدين السابقين ضد السوفييت!
والواقع أن "الإخوان المسلمين" قد نجحوا نجاحا كبيرا في إقامة وبناء أقوى حركة حزبية انضباطية ودقيقة التنظيم، وذات قاعدة شعبية واسعة في مختلف البلدان العربية وكثير من البلدان الإسلامية وبلدان المهاجر الإسلامية في مختلف دول العالم، وأصبحت تنظيما دوليا قويا ومؤثرا وفعالا، يليها بعض الحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية ذات المنحى "السلفي" والجهادي لدى بعضها، وهو ما يؤكد صواب ودقة الرؤية والتشخيص الأمريكي للمنطقة والدور الحاسم للدين في إحكام السيطرة عليها، وذلك ما سعت أمريكا وعملت من أجل استثماره وتوظيفه ضمن استراتيجيتها الكونية ومصالحها العالمية الشاملة.
ومثال أوضح على ذلك، وعقب حرب أكتوبر 1973م بين العرب وإسرائيل، طلبت القيادة العسكرية الأمريكية العليا "البنتاجون" من مجموعة من الباحثين الأكاديميين المتخصصين إعداد دراسة علمية شاملة حول الصراع العربي - الإسرائيلي المزمن والمستعصي، اسبابه - جذوره - غاياته - عوامل استمراره ووضع تصور لكيفية حله حلا نهائيا ودائما، وقد قام فريق البحث بدراساته وزياراته الميدانية الاستطلاعية لكل من الدول العربية المحيطة بإسرائيل والأساسية، إضافة إلى "إسرائيل" وأجرى دراساته البحثية حول الحركات الدينية الأصولية والمتطرفة وسائر القوى السياسية في المجتمع "الإسرائيلي" من حيث ايديولوجياتها وأساليب عملها ورؤيتها السياسية وثقلها الشعبي، ونفس الشيء بالنسبة للحركات والقوى الدينية والمتشددة في البلدان العربية، وأسباب وجذور ودوافع الصراع العربي - الإسرائيلي، ليخرج على ضوء كل ذلك بتصور لمعالم الحل الأمثل والفعال والنهائي للصراع المزمن على ضوء آراء وتصورات وقناعات قادة ومفكري تلك الجماعات والأحزاب الدينية الأصولية المتشددة، على الجانبين، وتتلخص أهم معالم الحل المتصور، في حدود ما سمح بنشره لاحقا، بالآتي:
1- من المهم لديمومة الحل وثباته، أن يتم، بشكل أو بآخر، التنازل عن كامل "أرض فلسطين التاريخية" لليهود، وهو ما يرضي اليهود وكل القوى الدولية، وخاصة الغربية منها.
2- أن يجرى تعويض الفلسطينيين، عبر إنشاء صندوق مالي دولي على غرار مشروع مارشال، لإعادة توطينهم في الأردن وشبه جزيرة سيناء، وإقامة دولة لهم فيها تضمن إقامة حياة كريمة ولائقة ومزدهرة لهم، مع ضمان تعديلات جغرافية تحقق التواصل والامتداد الجغرافي بين الأردن وسيناء، وبالتالي بين شرق العالم العربي ومغربه.
3- أن القوى الوحيدة القادرة والمؤهلة لإنفاذ الحل ووضعه موضع التطبيق العملي هي القوى الدينية الأصولية المتشددة على الجانبين بالنظر إلى نفوذ وتأثيرها الحاسم على الجماهير وتمتعها بتأييدها وثقتها.
4- غير أن القوى والأحزاب الإسلامية العربية تحتاج لتمرير الحل وإنفاذه وإقناع الشعوب العربية به، إلى منحها مكسبا وإنجازا قوميا استراتيجيا مقابلا يكون مكافئا للتنازل عن أرض فلسطين، ولذا يقترح الحل تحقيق أمل قومي عربي عزيز بتحقيق وحدة عربية عبر شكل من أشكال "الاتحاد العربي" على غرار يماثل، على نحو أو آخر تجربة الاتحاد الأوروبي، تحت قيادة تلك القوى والأحزاب الإسلامية النافذة والقوية التي يتوقع وصولها إلى حكم الكثير من الدول العربية، إن لم تكن جميعها، وبهذا يكتب لها نجاحا تاريخيا عظيما بتحقيقها أغلى أماني الشعوب العربية وأمانيّهم الاستراتيجية..
ومن هنا نفهم أسباب ودوافع وأهداف تصميم القوى الغربية وحلفائها وسعيها المستميت بكل الإمكانات والوسائل لإسقاط نظام الحكم في سوريا، لأن بقاءه يربك ويعوق تنفيذ باقي خطوات وحلقات المخطط الشامل المرسوم بدءاً بضرب وتجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها والشروع في المعركة الكبرى لإسقاط النظام في إيران بالتزامن مع محاولات إسقاط سائر أنظمة الحكم العربية وخاصة الغنية بالثروات النفطية لصالح القوى والأحزاب الإسلامية، وخاصة "الإخوان المسلمون"، الذين تتوافق معتقداتهم "السنية" مع معتقدات غالبية شعوبها، مما يسهل عملية تغييرها من قبل قوى دينية من ذات المعتقد والمذهب، وبذلك يتم ضمان إقامة طوق حصار ايديولوجي ديني راسخ الجذور شعبيا على امتداد العالم الإسلامي كله إزاء روسيا والصين والهند، ولكن إلى أي مدى تتوفر عوامل وإمكانية تحقيق هذا السيناريو الاستراتيجي؟، وذلك مرهون ومعلق بمسألة أو إخفاق تجربة حكم "الإخوان المسلمين" وقيادتهم للدولة والمجتمع وخاصة في مصر.. فلننتظر قليلا لنرى.
عبدالله سلام الحكيمي
بريطانيا - شيفلد 30 ديسمبر 2012م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.