في سياق الحلقتين السابقتين، القينا نظرة سريعة حول أهم وأبرز عوامل وأسباب السقوط المثير لحكم جماعة "الإخوان المسلمين" لمصر والذي لم يدم أكثر من عام واحد، ولاشك أن هناك أسباباً وعوامل أخرى كثيرة لحرصنا على تحاشي الدخول في إسهاب التفاصيل من ناحية، ولأن التفاصيل والحقائق والوثائق المتعلقة بها لم تتكشف كلها بعد، وسوف تتواصل نظرتنا، في الحلقات التالية، لتسليط أضواء حول الآثار والتداعيات المتوقعة لهذا السقوط المثير والدراماتيكي سواء على حاضر ومستقبل مصر، الدولة المحورية الأكبر والأقوى في الوطن العربي وامتداده الاقليمي اسلامياً وأفريقياً، أو على صعيد هذا الاقليم المترامي الأطراف على قارتين كبريتين من قارات العالم، ملتزمين فيها، أيضاً، المنهج الذي سرنا عليه في الحلقتين السابقتين الحريص على تحاشي الدخول في الاسهاب والتفاصيل الكثيرة والتي نعتقد بيقين أنها ستكون، في المرحلة القريبة القادمة، محوراً لدراسات وأبحاث وتحليلات ومناقشات عميقة وشاملة وواسعة النطاق لمدة من الزمن لن تكون قصيرة. أولاً: التداعيات المتوقعة على الجماعة: أود، قبل البدء في تسليط الضوء على هذه النقطة الرئيسة، أن أوضح بأننا حين نوجه المآخذ والانتقادات للأخطاء والسياسات الهوجاء التي وقعت الجماعة في فخاخها ومطباتها فإننا شديدي الحرص على التفريق والتمييز بين القيادة العليا للجماعة وقيادات وكوادر وقواعد الجماعة الأدنى، وانطلاقاً من هذا التفريق والتمييز الواضح فإن كل المآخذ والانتقادات نوجهها، أساساً، إلى القيادة العليا صاحبة السلطة والقرار، أما القيادات الوسيطة والكوادر والقواعد الواسعة فإنها تحظى من جانبنا، في الغالب والأعم، بالاحترام والتقدير.. فالقيادة العليا للجماعة هي التي تتحمل المسئولية عن تلك الأخطاء والسياسات غير الحصيفة وهي المتسبب الرئيس عن سقوط حكم الجماعة القصير زمنياً، وبرهنت على حقيقة افتقارها، بل ربما افتقادها، للحنكة والحكمة السياسية وخصوبة الخيال وبعد النظر، مما جعلها، أولاً، غير قادرة على إدراك النتائج والانعكاسات وردود الأفعال للقرارات والمواقف والسياسات التي وضعتها، وثانياً أنها بعد ذلك لم تستطع، أو انها لم ترد، أن تستشف وتلتقط المؤشرات والإرهاصات والتململات الشعبية والسياسية التي ترتسم في الأفق العام المرئي، منذرة بانفجار البركان الغاضب، وثالثاً أنها استخفت وتجاهلت كل التحذيرات والإنذارات سواء عبر المظاهرات والاحتجاجات الشعبية المتسعة النطاق والمتصاعدة الحدة، أو بيانات ومواقف وتحركات الأحزاب والقوى السياسية والشبابية والاجتماعية، أو نواقيس الخطر التي قرعتها قيادة الجيش ومبادراتها العديدة والمعلنة والتي كان آخرها تحديد مهلة أسبوع للأطراف والقوى السياسية للتوافق من أجل الانقاذ الوطني ومهلة ال 72 ساعة كل ذلك قابلته قيادة الجماعة بصم الآذان وإغماض العيون والاستخفاف المغرور، وخاصة بعد الطوفان الشعبي المهول الذي اندفع يوم 30 من يونيو الماضي، والذي لم تقتصر على العاصمة القاهرة فحسب، بل شمل مدن ومحافظات مصر من أقصاها إلى أقصاها، والذي قدره المراقبون والأوساط الإعلامية من المشاهدة الميدانية المباشرة أو التغطيات الإعلامية والتلفزيونية أو الصور والأفلام الأرضية والجوية، حجم المشاركين فيه أكثر من 33 مليون إنسان مصري واعتبرته مؤسسات إعلامية عالمية كبرى أعظم حشد شعبي على امتداد تاريخ البشرية كله! وظهرت قيادة الجماعة أنها تفتقد تماماً لأهم وأبرز صفة من صفات القيادة الناجحة والمسئولة، وهي ملكة الحركة السريعة الطليقة المستشعرة والمستجيبة للمتغيرات والمستجدات الطارئة والتعامل الإيجابي والمقتدر معها بمبادرات وحلول مبتكرة وناجحة، ولو كانت القيادة تمتلك هذه الصفة لتحركت سريعاً، ولو أثناء انفجار الطوفان البشري الرهيب يوم 30 يونيو، بتقديم مبادرات حلول وبدائل وصيغ سياسية للحيلولة وتفادي الأسوأ والأخطر بالتفاعل والتشاور والتفاهم مع كافة الأطراف والقوى السياسية والثورية، لكانت استطاعت أن تبقي زمام المبادرة في يدها ولحالت دون وصول تداعيات الثورة الشعبية الأضخم والأعظم إلى إسقاط حكم الإخوان المسلمين كخيار أخير في ظل فراغ وغياب وجود صيغ وبدائل وخيارات أخرى مطروحة على الطاولة، خاصة وأن قيادة الجماعة رفضت التعامل الإيجابي مع دعوات الحوار السياسي الوطني الا على أساس شروطها هي ووفقاً لرؤيتها وتصورها، وتحت مظلتها وهيمنتها. ورغم هذه الانتكاسة الكبرى، التي افقدت الجماعة فرصة تاريخية في حكم مصر، لا أظن أنها ستكرر على الأقل في المدى المستقبلي القريب والمتوسط، إلا أن قيادة الجماعة تستوعب فداحة وكارثية خطأها الاستراتيجي وغباء إدارتها السياسية، بل راحت وبعد وقوع الفأس على الرأس، تواجه وتتعامل مع الحدث الدراماتيكي المثير، بخطأ أفدح وأشد تدميراً، بإعلانها خيار المواجهة وعبأت عناصرها وحرضتهم دافعة بهم إلى النزول إلى الشوارع والميادين وسط خطاب تحريضي تعبوي تتمازج فيه دعاوى العنف واستخدام السلاح والتوظيف المبتذل والقبيح للدين الإسلامي الحنيف عبر مطابقة ساذجة ومفضوحة بين الله جل جلاله ودينه القويم ومقاصده العظيمة السامية وبين الجماعة تنظيماً ورئيساً للجمهورية ومجلس شورى وفكراً وسياسة وأصبح الخروج على الجماعة وما يتفرع عنها ومعارضتها خروجاً ومعارضة لله سبحانه ودينه الحق أو أن نزول أنصار الجماعة للمواجهة هو نفسه جهاداً في سبيل الله ونصرة لدينه، وأن عشرات الملايين من المصريين الذين صنعوا الطوفان البشري الهائل وكل القوى والأحزاب السياسية والثورية والاجتماعية المناصرة لهم اعداء الله وعلمانيون وكفرة ومارقون أو اتجهت قيادة الجماعة على اعتماد أسلوب ووسائل العنف المسلح في المواجهة، ويبدو واضحاً من خلال وقائع الهجمات المسلحة بإطلاق الرصاص الحي والخرطوش والآلات الحديدية والعصى والسلاح الأبيض والقنابل الغازية واليدوية التي حدثت ضد المتظاهرين السلميين أو أفراد الشرطة والجيش والتي تم توثيق عدد منها بالصوت والصورة، وحركت القيادة المجاميع الارهابية "الجهادية" التي عملت على استقدامها وزرعها ودعمها مالياً وسلاحاً منذ سنوات ماضية في سيناء، وإعداد شبه جزيرة سيناء كفخ ومستنقع لاستدراج الجيش المصري وقوات الأمن وجره للغرق في وحوله بغرض انهاكه واستنزافه وإشغاله بعيداً عن الساحة السياسية وأحداثها وتطوراتها، مستعينة بمسلمين وخبرات عسكرية قتالية وتدريبية من منظمة "حماس" في غزة، إضافة إلى تجنيد عناصر إرهابية من خارج مصر، وراح ضحية أعمال العنف المسلح هذه، وخاصة خلال الفترة الأخيرة من شهر يونيو الماضي وحتى الآن، العشرات العديدة من الشهداء والمئات من الجرحى مدنيين وعسكريين، وبدأت تتكشف وتتضح حقيقة مسئولية القيادة ووقوفها خلف أعمال العنف والقتل للمتظاهرين خلال الشهور الماضية وأساليب الترهيب والتخويف من خلال الاغتصابات لبعض المتظاهرين في ميادين التحرير وحول الاتحادية وقنص النشطاء وعمليات الخطف والتعذيب والضرب المبرح وغيرها، والحقيقة عناصر قيادة الجماعة درجت في خطاباتها وتصريحاتها وأحاديثها على التلويح بالعنف والتهديد باللجوء إليه في مواجهة ما أسموه الانقضاض على الشرعية، ومع تصاعد مضامين هذا الخطاب التحريضي والتهديد باللجوء إلى العنف في الآونة الأخيرة لم يتورع بعض من عناصر القيادة عن التصريح العلني بأن الجماعة وحلفاءها لديهم خطة كاملة وجاهزة لمواجهة أي تهديد للشرعية. لقد قفزت قيادة الجماعة، في لحظات التوتر والارتباك، إلى ظهر الأسد لتمتطيه فركبت ظهر الأسد، بقرارها اللجوء إلى خيار العنف، ووضعت نفسها وجماعتها وحلفاءها في موقف ومأزق بالغ الخطورة لا تعرف كيفية النزول بأمان من على ظهر الأسد ولعل الأكثر خطورة في عواقب وإفرازات اللجوء إلى العنف وممارسته والتحريض عليه، أن هذا الخيار، بالغ السوء، الذي اتخذته قيادة الجماعة قد استدعى وأنعس ذاكرة وذكريات الأحزاب والقوى السياسية والشعبية والشبابية، تاريخ الجماعة الطويل منذ تأسيسها وحتى الآن والمحطات الرئيسة التي جنحت فيها قيادة الجماعة ومارست عمليات الاغتيالات والتصفيات الدموية لخصومها والاستعداد للقيام بعمليات اغتيالات وتدمير وتخريب واسعة النطاق منذ اتخاذها للقرار الخطير والمدمر بإنشاء "الجهاز الخاص السري" كتشكيل عسكري قتالي مسلح ومدرب على القيام بكافة اشكال الاغتيالات والتفجيرات ونسف المنشآت والمرافق الحيوية الخ، ورغم أن الكثير من الأحزاب والقوى السياسية والإعلاميين والمثقفين شعروا في السنوات القليلة الأخيرة أو سادهم اعتقاد بأن الجماعة، بعد سلسلة التجارب المريرة والقاسية التي تعرضت لها، وصلت إلى قناعة سياسية بإنهاء وإلغاء خيار العنف والتشكيلات المسلحة السرية، خاصة بعد أن أصبحت جماعة أو حزباً أو تنظيماً دقيقة التنظيم والدقة والانضباط ويتمتع بقاعدة شعبية عريضة وواسعة، على نحو تنتفي فيه الحاجة والضرورة لوجود تشكيلات قتالية ومسلحة سرية، إلا أن سلسلة الاخطاء والممارسات والأعمال المنسوبة للجماعة كاللجوء إلى لغة القوة والسلام والقتل والترويج في مواجهة الخصوم السياسيين في الآونة الأخيرة، وخاصة منذ وصول الجماعة إلى سدة الحكم قبل عام، دفعت هؤلاء ومعهم قطاع واسع من الرأي العام في مصر والبلدان العربية ودوائر عالمية إلى إعادة النظر في شعورهم واعتقادهم السابق الذي تبين لهم عدم دقته وصحته، واستدعوا مجمل المسار التاريخي للجماعة وتجاربها، وأخضعوه مجدداً للدراسة وإعادة التقويم، وتوصلوا إلى جملة من النتائج والاستخلاصات التي تدور حول محور رئيس يقول بأن تأسيس وبناء الجماعة منذ تأسيسها الأول استند وبني على فكرة الدين أو الإسلام في نصوصه ومضامينه العمومية كأساس فكري نظري يعفي الجماعة عن جهد وعناء ومزالق بل وضرورة أن يكون لها برنامجاً سياسياً شاملاً يشخص الواقع المعاش بمشكلاته وهمومه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويضع لها الحلول والمعالجات المحددة والواضحة، وتخلصت من مأزق غياب مثل هذه الرؤية البرنامجية الشاملة بالتحصن وراء شعار هلامي وفضفاض يقول الاسلام هو الحل" أي اسلام... أي حل.. وكيف؟ هذا ما ظل مغيباً وغائباً حتى اللحظة، وإلى جانب الاستناد في النشأة والبناء والممارسة والخطاب على هذه الفكرة الدينية كبديل فكري نظري برنامجي، نشأت لجماعة وبنيت على منطق القوة والعنف والبناء القتالي المسلح كوسيلة عملية في مواجهة الخصوم والمناوئين السياسيين والاستيلاء على الحكم لا ترى الجماعة، منذ تأسيسها وحتى اللحظة، ولا تؤمن ولا تعترف بأي وسيلة أخرى من وسائل العمل السياسي السلمي في تحقيق أهدافها سوى بمنهج القوة والعنف والقوة والترهيب، وبلغ من اعلاء وتقديس الجماعة لهذا المنهج إلى حد صياغة شعارها الرسمي وجعله عاكساً ومعبراً ومخلداً لمنهج القوة والعنف والقوة، من خلال رسم السيفين المتقاطعين وتحته الكتاب القرآن وليس فوقهما أو يقومان على قاعدة كلمة مختارة بعناية ووعي وأعدوا وهي فاتحة أو بداية الآية القرآنية الكريمة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفى إليكم وأنتم لا تظلمون) سورة الأنفال، ورغم إفراطهم في الاستغلال والتوظيف السيئ للدين والآيات القرآنية في غير محلها وعلى نقيص مقاصدها فإن اختيارهم لفاتحة تلك القرآنية جاء للتأكيد على منهج وأسلوب القوة والعنف لترهيب وقهر وترويع كل مخالف وخصم ومعارض للجماعة وتوجهاتها وممارساتها، وتغليفه بهالة من القداسة الدينية الواجبة والملزمة باعتباره انفاذاً وتطبيقاً لأوامر الله جل جلاله وجهاداً في سبيله يجب أن تقدم له الهبات والتبرعات والإنفاق المالي بسخاء وبذل لا محددين لأن الله سيوفي من ينفقون في سبيله كاملاً يوم القيامة، وهذا الشعار، برمزيته ومغازيه ومدلولاته الدينية والعملية التنفيذية لا يزال ثابتاً دون أي تغيير أو تعديل منذ لحظة تأسيس الجماعة قبل أكثر من ثمانية عقود من الزمن وحتى اللحظة أو لهذا ظلت قيادات الجماعة - على تعاقبها - تعطي حيزاً كبيراً من الاهتمام الخاص منذ بداية النشأة لمسألة اخضاع عناصرها للإعداد والتدريبات القتالية وإكسابها مهارات عسكرية، وأيضاً لشراء وتخزين الاسلحة وتهريبها وهو جانب شهد مؤخراً قفزة واسعة ونوعية كبرى بتدفق مختلف أنواع الأسلحة الليبية، بعد سقوط نظام القذافي، خفيفة ومتوسطة وثقيلة على الجماعة عبر الحدود الواسعة والمفتوحة ويشك بأنه ربما تسربت بعض أنواع الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية، إضافة إلى كميات الأسلحة التي حصلت عليها من (حماس) أو عبرها، ويتجلى تأصل وتجذر نهج القوة والعنف والغرام به وعشقه في فكر وممارسة قيادات الجماعة، بأبهى وأوضح صورة من خلال ممارسة واستعراض التدريبات القتالية والاشتباكية داخل أماكن ومناطق مظاهرات واعتصامات انصار الجماعة في الشوارع والميادين، والواقع أن الخطأ السياسي بالغ الفداحة الذي وقعت قيادة الجماعة في شراكه بالتصريح والتلويح والتهديد العلني باللجوء إلى خيار القوة والعنف المسلح وممارسته وتنفيذه بالفعل بصفة متكررة وفي مختلف المدن والمحافظات وخاصة بعد اقصاء وتنحية الرئيس محمد مرسي وحكومته، إضافة إلى ما تكشف ووضح حتى الآن عن مسئولية عناصر من الجماعة في أعمال عنف وقتل إرهابية دامية قبل ذلك وفي ظل حكم الإخوان فيما كانت تنسب إلى ما سموا - آنذاك - بالبلطجية أو الطرف الثالث، قد أدى وتسبب، سواء وعت قيادة الجماعة ذلك أم جهلت، في وضع الجماعة وتصنيفها، من قبل القطاع الأوسع من الرأي المحلي المصري وإلى حد ما الخارجي، بأنها جماعة تشكل خطراً وتهديداً جدياً وداهماً على سلام وأمن واستقرار المجتمع ووحدته الوطنية وأيضاً، وبقدر أكبر، على حاضر ومستقبل تطور ونضج وتكامل المسيرة الديمقراطية السلمية والتداول السلمي للسلطة والتعايش والقبول بالآخر، بما في ذلك الحريات والحقوق الإنسانية والعامة وحفظ الحياة والكرامة الإنسانية، ويمتد خطرها وخطورتها إلى المحيط الإقليمي والدولي أيضاً، ولعله من المفيد للتدليل والتأكيد على مدى عمق وتجذر العقلية الأحادية والشمولية والاستحواذ والتفرد المطلق التي تسيطر وتتحكم بقرارات وسياسة ومواقف قيادة جماعة الإخوان المسلمين ونزوعها الاقصائي لكل الأحزاب والقوى والتيارات السياسية والاجتماعية والثقافية القائمة من الخصوم والمناوئين وأصحاب الآراء والتوجهات المختلفة معهم وعنهم، ما أكدته الأحداث والتطورات السياسية في مصر وتحديداً خلال عام من حكم الإخوان، من أن تلك القيادة بلغ بها ضيق الأفق والانغلاق والتعصب حداً جعلها تسيء التصرف والتعامل مع التيار السلفي الإسلامي الذي يعتبر أكثر القوى قرباً وتماثلاً وايديولوجية، واستهدفته بأساليب بوليسية تآمرية بشعة باختراقه وزرع ورعاية بذور الفرقة والانقسام داخل حزبه السياسي الناشئ "حزب النور" بتفريغ وتشجيع ورعاية تشكيلات حزبية جديدة منشقة عنه تدين بالولاء للجماعة وتضعف قوة "حزب النور" ونفوذه وتأثيره الذي ظهر كقوة منافسة للجماعة على نحو جدي ومهدد لنفوذ وتأثير الجماعة، فإذا كان تصرف وممارسة الجماعة تجاه هذه القوة السياسية الإسلامية والأكثر قرباً وتماثلاً من الجماعة، فكيف يا ترى يكون تصرفها وممارستها تجاه القوى والأحزاب القومية واليسارية والليبرالية والعلمانية وغيرها!! والواقع أن سلسلة القرارات والسياسات والمواقف والإجراءات الهوجاء والرعناء التي اقترفتها قيادة الجماعة العليا والتي ساهمت وهيئات وخلقت الأجواء والمبررات الموضوعية لإسقاط حكم الإخوان، على نحو ما استعرضناه وسلطنا الأضواء حولها في سياق الحلقات السابقة وهذا قد أحدث إعصار "تسونامي" وزلزالاً عنيفاً من الناحية السياسية، سوف تنعكس نتائجه وآثار ارتداداته وتوابعه على نحو عميق وخطير للغاية على كامل الكيان التنظيمي لجماعة "الإخوان المسلمين" الذي لا يزال حريصاً جداً على سرية وجودة وأنشطته ودوره وطبيعة تركيبته وتشكيلاته ومنظومة علاقاته وأساليب ووسائل تحركاته وحركته وكذا الأهداف والغايات التي يسعى إلى تنفيذها والانتصار، إضافة إلى شبكة اتصالاته وعلاقاته وتحالفاته الإقليمية والدولية، سواء على مستوى فرعه في بلد (المركز) مصر، أم على مستوى تنظيمه الدولي الواسع.. واستناداً إلى نظريات علم الاجتماع السياسي المتعلقة بسيكيولوجية الجماعات الإنسانية وعوامل وأسباب ودوافع نشوئها وثم تحللها وتفككها، نجد أنه من المنطقي والحتمي أن تتعرض أي جماعة إنسانية، سياسية أكانت أم اجتماعية أم أثنية أم دينية الخ، في حالة تعرضها لضربة عميقة وقاسية ونكسة أو هزيمة ماحقة، للعوامل والأسباب السيكيولوجية الخاصة بتفكك وانحلال الجماعة، بفعل وتأثير ما يحدثه من الصدمة العنيفة للآمال والتطلعات والأهداف العظيمة علقوها على الجماعة وآمنوا بقوتها وقدرتها على الانتصار لها، خاصة إذا كانت برامج الشحن المعنوي للأعضاء والمبالغة في تضخيم القوة والقدرة تتجاوز الواقع والإمكانات المتاحة، ويشعر الأعضاء بفعل عنف الصدمة التي اصابتهم بخيبة الأمل والإحباط واليأس، وهنا تبرز التساؤلات وتثور حول ما حصل وكيف حصل ولماذا حصل؟، وهذه التساؤلات تقود إلى الاستفسار عن قضايا ومسائل أكبر وأهم، وطرحها للنقاش وقد كانت في السابق من القضايا والمسائل المحرم التطرق إليها بالنقاش العام والمفتوح، وتنتشر نتيجة ذلك حالة واسعة جداً من الشكوك وانعدام الثقة والاتهامات بالخيانة والتقصير والتآمر وغير ذلك من الاتهامات والشكوك وفقدان الثقة إلى حد غالباً ما يمتد ليمس الغالبية الساحقة من القيادات العليا والوسيطة والكوادر بل وحتى القواعد، وتتولى الجهود والمحاولات لامتصاص واحتواء النقمة والغضب والاستياء بإصدار أوراق تحليلية حول ما جرى ووثائق نقدية وأخرى تقويمية تعقبها أخرى مخالفة ومختلفة عنها وثالثة الخ وتتصاعد المطالب والضغوط وتتسع دائرتها بضرورة المراجعة وإعادة النظر بكل شيء تتعلق بالجماعة فكراً وتجربة ومساراً ووسائل ومناهج، وكل هذا الحراك الواسع والعميق والمتفجر والمتلاطمة أمواجه وتياراته يخلق البيئة الملائمة والظروف الموضوعية الممهدة للخلافات والصراعات والانشقاقات والتفكك كجماعات منشقة عن الجماعة، تمتد من القمة وحتى القاعدة، ووسط هذه الأجواء والنتائج والحراك العاصف يختار عدد كبير من الأعضاء من مختلف المستويات النأي بالنفس والانكفاء الاعتزالي على الذات ورفض الاستمرار في العمل الحزبي التنظيمي سواء داخل الجماعة أو في إطار الاشكال التنظيمية المنشقة عن الجماعة كأحزاب جديدة مقطوعة الصلة تقريباً، وعلى مستويات متفاوتة، بكل ماضي الجماعة ومسارها التاريخي.. ولاشك بأن كل هذه التداعيات المتصورة التي ستنعكس بقوة على كيان جماعة الإخوان المسلمين ستفرض، ولأول مرة في تاريخ الجماعة، طرح مسائل جوهرية أساسية لم يكن مجرد الاقتراب منها ممكناً من قبل مطلقاً، وأهمها وأخطرها التساؤل حول مدى وجاهة وفاعلية وصواب أن تستمر الجماعة (تنظيماً دولياً) سرياً وواحداً وحجم وطبيعة ما يترتب على ذلك من سلبيات ومخاطر، بأن ينظر العالم، على تفاوت المستويات، إلى الجماعة، باعتبارها قوة خطيرة ومشبوهة تهدد أمن واستقرار الكثير من السلطات والنظم الحاكمة في الكثير من الدول والبلدان الإسلامية بالدرجة الأولى، وكذا بلدان العالم والأمن والسلام الدوليين، ويقترن ويتخلل مسألة التنظيم الدولي وسريته مسألة أخرى على ذات القدر من الأهمية والمتعلقة بفكرة إحياء وإعادة دولة الخلافة الإسلامية، وآخرها كانت الامبراطورية العثمانية، والتي تتبناها الجماعة وتؤمن بها أساساً لوجودها وهدفاً لها، ومدى واقعية وسلامة وإمكانات تحقيقها في ظل الواقع السياسي الذي تعيشه بلدان العالم الإسلامي؟ إضافة إلى ما يقترن بسرية (الجماعة) من إيمان الجماعة بخيار القوة والتسلح والعنف الذي ظلت تعتمده وتعمل وفقاً وعلى أساس مقتضياته ومدة سلامته وصوابيته وفاعليته ونجاحه كأسلوب لفرض أفكار وخيارات وآراء الجماعة سياسياً؟ إضافة إلى قضايا ومسائل أخرى تتعلق بحدود ومخاطر توظيف الجماعة للدين توظيفاً شبه كلي في العمل السياسي وخلافاته وصراعاته ومجالاته، وكذا مسألة الديمقراطية التفاعلية المفتوحة داخل الجماعة. وفي تقرير السياسات واتخاذ القرارات بأوسع مشاركة حقيقية داخلية وبشفافية كاملة على خلاف الحال في السابق، وأيضاً تحديد موقف فكري سياسي واضح ومحدد وقاطع ازاء موقف الجماعة من مسألة الديمقراطية والتعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة وأسس التعامل والتعايش والقبول بكل الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية والتعدد المذهبي والديني والأثني واعتبار كل ذلك من ثوابت الجماعة وقناعاتها المبدئية. والواقع أن هذه القضية المتعلقة بالآثار والتداعيات المتوقعة لزلزال سقوط حكم الجماعة على كيان الجماعة نفسها، قد استغرقت لأهميتها كامل هذه الحلقة المطولة على غير إرادتي وسوف أحاول مواصلة التطرق إلى باقي التداعيات في حلقات قادمة غالباً بعد شهر رمضان المبارك إن شاء الله وكل عام وأنتم بخير. عبدالله سلام الحكيمي بريطانيا - شيفلد في 6 يوليو 2013