أبدأ مقالي هذا متسائلا عما يحدث ويقال: أتستحق حضرموت الغالية التي أطعمت من جوع وآمنت من خوف، كما أنها أرض الانبياء التي بزغ منها وانطلق شعاع الكون نورا وضياء، أن تحاصر وتدك مدنها بالمدفعية، وهي ورجالها يحمون الثغور ومواقع الثروة التي تأتي لكم بالخير الوفير؟. إنها لمعادلة صعبة يستعصى فك رموزها على كل ذي بصر وبصيرة، ويا للأسف، يا قادة وجند اليمانية، أتدرون من هم هؤلاء الذين تقصفونهم وتصفونهم بالإرهابيين؟ إنهم أحفاد (وائل ابن حجر) الذي شكل مع جنده الحضارمة العمود الفقري لجيش الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس، ولكنه الجهل بالتاريخ وبالدور (لبلاد الأحقاف ورجالاتها العظماء) الذين ملئوا الدنيا ضجيجاً وشهرة. (اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر... ضاع قوم ليس يدرون الخبر)، فعدم المعرفة بالتاريخ أو تجاهله، من شأنه أن يعمل على سد منافذ المعرفة أيها الأشقاء (اليمانيون). إن هذه هي الهبة الحضرمية التي يقودها البواسل من قبائل حضرموت التي قضت مضاجع مراكز القوى والنهابين للثروة الحضرمية، وبرغم سلميتها، ومطالبها الحقة في حماية ثروتها والإشراف عليها من العابثين والمفسدين الذين لا ينتمون إلى هذه التربة الحضرمية، فهذه المطالب والحقوق، والتي وعد النظام في صنعاء (اليمن) بتحقيقها على الفور، باعتبار أنها حق سيادي لحضرموت وشعبها، إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث. ومن هذا المنطلق وبناء على ما تقدم، فما كان من رجالات الوطن وقادة الحلف القبلي، طلائع الهبة، إلا أن لبوا نداء الوطن في حمايته وثرواته وأهله من ناهبيه. فالهبة الحضرمية، وما يقوم به رجالها من حماية وبسط نفوذهم على مواقع الثروة الطبيعية لاستتباب الأمن والنظام، كل هذا هو عطاء وطني بامتياز، وحرصا وحماية للسيادة على أرضهم يتسم بالسلمية ومطالبة بعودة الحق والثروة لأهله وفي ربوع الوطن الحضرمي، ولم تتجاوز أو تعتدي على أيٍ من حقوق الغير، وإنما لرفع الظلم الذي حل بأهلهم وبني جلدتهم من تسلط الناهبين، وفي غياب القانون والعدالة التي أقرتها جميع الشرائع السماوية منها والكونية، إلا أن كل ذالك لم يلق أية استجابة أو رغبة في التنفيذ من قبل صانعي القرار في صنعاء (اليمن) بل وصل الأمر بهم أن يصفوا هؤلاء الرجال البواسل (بالإرهابيين).. إنها حقا لمهزلة. وإذن.. ماذا ستطلقون على النهابين ولصوص الثروة الحضرمية القابعين وراء ظهرانيكم؟ أليس هم الإرهابيون الحقيقيون الذين سلبوا ونهبوا واعتدوا على حقوق الغير؟. وبناء على ما تقدم تحاول الهبة الحضرمية الشعبية تدشين حقبة جديدة في تاريخ بلاد الأحقاف قوامها اكتشاف الحضارمة لأنفسهم، وحضورهم على المسرح السياسي، ومحاولتهم إمساك مصيرهم، والانسجام مع التاريخ الإنساني المتأسس على الحرية والمواطنة الحقة والدولة العصرية الحديثة، دولة المؤسسات والقانون والعدالة الاجتماعية، لكن ما يجب علينا ملاحظته في هذا المقام هو أن هذه الهبة المباركة التي قادها رجالات القبائل الحضرمية، قدانطلقت من وسط جموع الشعب، واندلعت نتيجة تراكم حالات من الظلم والإحباط واليأس وانعدام الثقة في من تولى أمرهم من غير جلدتهم وتربتهم الحضرمية، ولعل هذا ما يفسر لنا عفوية الهبة الحضرمية، فهي قد اندلعت فجأة من خارج أية توقعات، ومن دون ممهدات سابقة أو هياكل تنظيمية أو هيئات قيادية، ومن دون برامج سياسية، فالهبة انطلقت في حضرموت التي عانت لعقود من التهميش والحرمان والمحو للهوية الحضرمية التي كانت تملأ بطون وصفحات كتب التاريخ الإنساني قاطبة شهرة وعالمية، وهذا ما يفيد أن الهبة لا تسير وفق الرغبات المرجوة، ولا وفق الأهواء، وإنما تشق طريقها في المطالبة بالتغير، والبدء بتنفيذ ما يمكن تنفيذه حماية للوطن وثرواته من ناهبيه. إن هذه الهبة الحضرمية على عفويتها، والمشكلات التي تتعرض لها من قبل أجهزة السلطة، هي التي جلبت المترددة والمحايدة من العامة في حضرموت إلى السياسة، وقتلت الخوف عندهم، وحولتهم إلى قوى فاعلة أكثر مما فعلت القوى السياسية وأحزابها، وهذا يعزز الاعتقاد بأن أي تغير في واقع المجتمع الحضرمي يتطلب أولاً إزاحة نظام الغزو والاستبداد الغريب عن هذه التربة الحضرمية، والذي فرض قسراً علينا منذ عقود مضت، باعتبار ذلك شرطا لأي تغير واقع في مجتمعنا، ثقافياً واقتصاديا واجتماعياً وسياسياً، وهذا الوضع يعني إدراك المواطن لذاته، ووعيه لحقوقه، وانخراطه في السياسة وفي تقرير مصيره هو بحد ذاته ثورة في أوضاعنا الخاصة كما أنه أيضاً يعني أن ظهور المواطن والقيام بدوره الوطني يفضي إلى ظهور المواطنة وصوغ هويتهم الحضرمية كشعب، وفي كل الاحوال فقد أثبتت تجربة العقود الماضية بأنه من دون كسر هذا الانغلاق الذي شكله نظام الاستبداد، والذي أدى إلى حجز شعبنا خارج التاريخ، لا يمكن أن يحصل أي تطور سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وعلمي في بلادنا . خلاصة القول.. إن مجرد نزول الجماهير - الحضرمية - إلى الشوارع تحت شعار المطالبة بحقوقهم المشروعة وسيادتهم المنتهكة ثم حمايتها من قبل جميع رجالات الهبة وطلائعها القبلية، ومعها كل فصائل العمل الوطني على امتداد الرقعة الجغرافية لحضرموت التاريخية، والتي تجسد آمال وطموحات شعبنا في الانعتاق، وبروز الهوية، يعني أننا إزاء تحولات تاريخية سوف تنتقل بها بلادنا من عصر الظلام ومستوى العبودية للحاكم الفرد وغياب الحرية وهيمنة الفساد والمتنفذين، إلى مستوى الحرية والدولة التي تعبر عن ضمير الشعب الجمعي وهويته الحضرمية وخياراته السياسية. وبناء عليه فإن ما حدث في بلادنا لم يكن نضالا تقليديا كلاسيكيا، ولا حركة تمرد، ولا إرهاب، كما وصفه رموز النظام في صنعاء ( اليمن ) بل هو إعصار جماهيري كاسح دشن لميلاد جديد من المقاومة السلمية المحلية كما أعطى مفهوماً واقعياً لمنطوق العصيان المدني تجاوز القائمون به، من رجالات القبائل وكل الطلائع الوطنية المقاومة، كل التوقعات في تلقائيته وانسجامه وتنظيمه واتساع دائرته وخلوه من جميع الأصباغ الأيديولوجية. ومن هذا المنطلق فإن التغيير لن يمر بسهولة على الإطلاق، فهذه القوى الحاكمة التي تحكمت في السلطة والثروة في حضرموت لن تفرط في ما حصلت عليه من مكاسب بسهولة ويسر، وسوف تستخدم القمع وستعمل بكل قوة من أجل أن تثبت من وجهة نظرها بأن الهبة الحضرمية هي فعل خاطئ وتدميري، ولكن هيهات لها أن تحقق مبتغاها، فالأحداث المشاهدة والمتوالية تثبت زيف ما تدعيه، وهذا هو ما تحقق من نتائج مترتبة على فعل الهبة، ومن أهم هذا هو كسر حاجز الخوف، وهو أمر ليس بالهين ونتائجه ستكون ذات قيمة فائقة الأهمية، فكسر هذا الحاجز هو انتصار للمواطن وعزيمته ضد السلطة القمعية التي حاولت بكل الوسائل ترويضه ومنعه من تحديها، وانتقادها أو الخروج عن طاعتها خلال عقود مضت. وفقنا الله جميعاً لما فيه خير الوطن وعزته ومجده.