وضاح المقطري - عادت اليمن- وهي التي لم تغادر جدياً- إلى مربع التكفير والفتاوى المسلوقة على هوى أعداء الحداثة والفنون والحريات الشخصية، وكان الأسبوع الماضي مساحة واسعة لجدل حول قضايا خطيرة تمَّ خلاله إدراك أن البلد ما زالت قابلة لتجريم الكثير؛ من الأفعال والممارسات الشخصية بحجة أنها لا تتفق مع موروثات وعقائد المجتمع، وكانت منتجات الحداثة –التي هي عدو الإسلام الأوَّل بحسب هذا المنطق – هي السبيل الأكثر نفعاً في نقل رؤى الطرف الأكثر عنفاً في هذا الجدل إلى الرأي العام، إذ أغرقت شبكات الهاتف النقال يومي الأربعاء والخميس الماضيين هواتف مشتركيها بفتاوى تحريم الاحتفال بعيد الحب لكلٍ من القاضي "محمد إسماعيل العمراني" والنائبين البرلمانيين "محمد ناصر الحزمي" و"هزاع المسوري" عبر رسائل (sms)، وقد اعتبر "مقبل الكدهي" عميد معهد التوجيه والإرشاد اليمني صدور فتوى في هذا الشأن عن القاضي "محمد بن إسماعيل العمراني" حجة قاطعة ومانعة على الجميع للاحتفال، حيث إن القاضي العمراني –بحسب الكدهي- هو المرجعية والمفتي اليمني وإذا صدرت فتوى منه فلا عودة عنها، ورأى "يحيى النجار" وكيل وزارة الأوقاف إن الاحتفال بهذا اليوم بدعة فارغة ليس من تقاليد الشعوب العربية والإسلامية، فيما وزعت مؤسسة "الفتاة اليمنية" منشورات باللون الأحمر على طلاب وطالبات جامعة صنعاء تقول: "إن عيد الحب لا عادة ولا عبادة". وعلى نفس السياق سار السياسيون الفطنون ودخلوا مربع التكفير والتحريم أيضاً، "وإن باستحياء وبطريقة مراوغة قليلاً" إذ فوجئ المتابعون ب "محمد قحطان" عضو الهيئة العليا للتجمع اليمني للإصلاح" يدعو الشباب إلى "عدم التقليد الأعمى" محاولاً تجاوز المأزق الذي سيقع فيه نتيجة هذا التدخل غير المنطقي من قبله بضم صوته لمن رأى أنهم لا يفضلون أن تؤسس في اليمن مناسبة عيد الحب، وهي المحاولة التي رأى الكثيرون أنها لم تكن أكثر من إمساك العصا من المنتصف، حيث لم يشأ "قحطان" استعداء التكفيريين في حزبه، أو على الأقل إساءة العلاقة معهم، وسعى لإرضاء شركاء حزبه في المشترك، فلم يتقدم بفتوى صريحة، وإنما أعطى رأي رجل يحاول أن يبدو حريصاً على العادات والتقاليد، ونصح الجناح السلفي -داخل حزبه وخارجه- بعدم الخوض في مسألة التكفير بالقول "لا تقل جني وسط ضاحة"، وبذلك يكون قد نطق باسم الحزب نيابة عن التكفيريين، وقدم رؤية تدل علمانيي المشترك على أن حزبه يهتم بتقاليد البلد أكثر من رغبته في التكفير، ولكن هل أفاد ذلك في تبرأة الإصلاح من العودة إلى مربع أو منبر التكفير..؟ وما الذي يدفع محمد قحطان إلى الخوض في مسألة كهذه، وبهذه الطريقة.؟ وبارتباط كل ذلك برفض التكفيريين إقامة حفل فني للمطربة السورية "أصالة نصري" في عدن في توقيت مناسبة عيد الحبِّ، والهجمة الشرسة تحت قبة البرلمان ضد النائب والناشط الحقوقي "أحمد سيف حاشد" وصحيفته "المستقلة" بحجة نشر الصحيفة لتحقيقات صحفية عن مواضيع –عدَّت مجرَّمة- كالعادة السرية لدى الفتيات، وما شابه ذلك؛ فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا في هذه اللحظة بالذات عادت فتاوى التكفير واستهداف الفن والفنانين والحقوقيين والصحافة والحريات الشخصية؟ بالرغم من أنه تم استدعاء شخصيات فنية أخرى خلال الأعوام الماضية، فحضر اللبناني "مارسيل خليفة" ومعه "أميمة الخليل" و"جوليا......" بداية مايو 2005 وأقاموا حفلتين فنيتين في صنعاء وعدن، ولم يتم مسَّهم حتَّى في خطاب أو منشور عابر على اعتبار أن "خليفة" اتهم وحوكم في نهاية التسعينيات بتهمة غناء آية من القرآن ضمن قصيدة "أنا يوسف يا أبي" للشاعر "محمود درويش"، وعودته في العام التالي في زيارة سياحية أحيا خلالها حفلاً فنياً في المكلا، وحضور المطربة "صباح" والفنانة "مريام فارس" للاحتفاء بعيد الوحدة العام 2006 وهما-بحسب منطق الحشمة- أكثر تبرجاً من "أصالة". ونفس الشيء يمكن قوله عن "نوال الزغبي" التي أحيت حفل افتتاح شركة "هيتس يونيتل" العام الماضي، ومن ثم إحياء "راغب علامة" لحفل تدشين خدمات الشركة في عيد الفطر الماضي، ولم يحدث أي رد فعل تكفيري أو تحريمي إلا بعض التصرفات الفردية العابرة من أشخاص حطموا اللوحات الإعلانية لصور راغب علامة في شوارع بعض المدن.؟ ولكن "أصالة" وُوجهت بتهديدات بمصير مشابه لمصير الزعيمة الباكستانية الراحلة "بنظير بوتو"، وفي نفس السياق التكفيري والتحريمي صمتت كل الأصوات عن قضايا الاستغلال الجنسي للأطفال الذين يتم تهريبهم عبر الحدود إلى الدول المجاورة، ولم تتحرك سوى قلة من الأصوات الدينية في قضايا الزواج السياحي، ثم انفجرت دفعة واحدة وتحت قبة البرلمان لإرهاب صحيفة شعبية ومالكها من أجل بعض المواضيع العادية المسكوت عنها..؟ لا يوجد تفسير واضح لكل هذا..!!.. ولا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة بدون النظر إلى خارطة التحالفات السياسية القائمة، وطبيعة الحراك الحاصل ضمن هذه التحالفات، فالسلطة الحاكمة اليوم وجدت نفسها معزولة في زاوية خالية من الحلفاء، وأوشكت أن تفقد البقية الباقية من مناصريها، وفوجئت بحركات احتجاجية عارمة في عموم جنوب البلاد، ولم تستطع بعد التخلص من وقع هزائم عسكرية متلاحقة في أقصى الشمال، فيما أحزاب المعارضة تتمنَّع من الاستجابة لرغباتها أو تأييدها في أي مواقف سياسية أو الاتفاق معها على أي قضية. وعلى هذا يبدو أن أجهزة أمن واستخبارات السلطة لجأت إلى اللعب بأوراق ووسائل قديمة تحاول استحداثها والاتكاء على موروث قديم من التحالفات، وربما باستغلال سيءٍ لبعض الملفات المتعلقة بماضي بعض الجهات والشخصيات الدينية. من خلال استقراء قائمة النواب المطالبين بالاحتساب ضد النائب "حاشد" وإحالة صحيفته إلى التحقيق يلاحظ أن أغلبية النواب الموقعين على الاحتساب من كتلة المؤتمر البرلمانية والبقية تنتمي إلى الكتلة الإصلاحية، وهو ما يدفع إلى القول بأن استخبارات السلطة دفعت باتجاه استهداف "حاشد" رداً على رسالة اتحاد البرلمان الدولي بخصوص الانتهاكات التي تعرض لها خلال الأعوام الماضية من قبل أجهزة الأمن وجهات رسمية منها البرلمان نفسه، وذلك ربما باستغلال ملفات أمنية سابقة خاصة بنواب محسوبين على كتلة الإصلاح، والتهديد بها، ومن ثم ربط كل ذلك بمناسبات أخرى لاستفزاز مشاعر التكفيرين والتحريمين كعيد الحب، ومشاركة "أصالة" في حفل فني، والهدف من وراء كل ذلك ليس أكثر من محاولة الإيقاع بالإصلاح في فخ التكفير من جديد لفكَّ تحالفه بقوى يسارية وعلمانية، واستخدامه أيضاً ضد الحركة المطلبية الجنوبية التي كان لأعضائه الجنوبيين مواقف شديدة التأييد لها. الأمر لم يعد في يد التكفيريين والتحريميين من الإصلاح أو خارجه، بل انتقل إلى أعلى قيادة المشترك، و"قحطان" لم يفعل أكثر من أنه "جا يكحلها عماها" حين لم يكن ثمة داعٍ لإبداء رأيه في قضية مناسبة ترفيهية يمارس الناس فيها عادات، وإن كانت جديدة؛ إلا أنها كحرية شخصية لم ولن تمس أحداً بسوء، ولن تكون خطراً إلا على عقليات التحريم والتكفير التي لم تستفز أصحابها آلاف المنكرات والمصائب "اللي تتحدف على رؤوس الناس" بتعبير إخوتنا المصريين، وأزعجتهم الورود الحمراء، وعبارات يتبادلها العشاق بمناسبة وبدونها، ولم يقلقهم على أخلاق المجتمع سياسات التجويع والإفقار وتهريب الأطفال والنساء، وجزعوا على تلك الأخلاق بسبب تحقيق صحفي عن العادة السرية التي تمارسها حتى بناتهم. لم يقل الإصلاحيون شيئاً واضحاً عن تكفير واستهداف "حاشد"، ولم يوضِّحوا موقف ممثليهم في البرلمان، واهتم "قحطان" _بدلاً عن ذلك _بنصيحة حاولت التذاكي لا أكثر، وفي وقتٍ ذهبت فيه السلطة لتوقيع اتفاق مع من استخدموا القوة في الحوار معها، وتجاهلت مطالب الذين طالبوا بحقوقهم سلمياً. لم يقل المشترك أكثر من طلب الإطلاع على نص الاتفاق براءة من دماءٍ سالت طوال أربعة أعوام برغم أن قوميي وإسلاميي المشترك كانوا –بطريقة أو بأخرى- إلى جانب السلطة في تلك الحرب. احتفل اليمنيون بعيد الحب كثيراً هذه المرَّة، وغنت "أصالة" لأجل اليمن –كما أكدت- والتفَّت قوى المجتمع المدني حول "حاشد" وزاد إقبال الناس على صحيفته، ولكن "الحزمي" و"المسوري" باءوا بالتجاهل إلا قليلاً، وبرر "قحطان" فتاوى زميليه، ولم يدرك المشترك سر اللعبة بعد، في حين ما يزال لدى السلطة الكثير لتفعله وتقوله بعقلية التحريم التي ستنفتح شهيتها أكثر خلال المرحلة المقبلة، وستكون ثمة فتاوى تُحرِّم ما يُسمى ب"دعوات الانفصال"، وسيجد المشترك نفسه في مفترق طرق لن تفيد معه تخريجات "قحطان".