خلال اليومين الماضيين، لم ينشغل أياً منا (كما أعتقد) بغير القضية اللبنانية وما يجري هناك من لعلعة الرصاص، والأجواء المتوترة وجولات الكر والفر، ومراجعة المحطات المختلفة كلٌ بحسب هواه وبحسب التيار الذي ينتمي إليه عقدياً أو نفسياً ليرى فيها ما يود أن يصدقه لا ما يجري بالفعل، لأن لا أحد تحديداً يعرف ما الذي يجري بالفعل. فجأة عادت الصور نفسها لأشخاص آخرين غير الذين كانوا، أسرة نووية عادية، تجر ما خف وزنه وغلا ثمنه وعين والدها قلقة معلقة بالأفق لا يدري إلى أي الفوهات يلوذ، وأي الطرق يسلك للحفاظ على من هم في عهدته.. وكثرة من الناس اعتصموا في بيوتهم عساها سحابة صيف وتنقشع عما قليل، بينما زعامات الحرب ترفع عقيرتها تارة، وتهادن تارة وتوزع الوطنية والخيانة كما شاءت بينما البلد مشلول لا يستطيع حراكاً.. إنه أشبه بمناظر تعيها الذاكرة تماماً من تلك السنوات الكالحة الحالكة التي عاشها لبنان في الربع الأخير من القرن الماضي. حرب تتهم فيها المعارضة الحكومة بأنها منساقة إلى إرادات خارجية، وهي كذلك للإرادات الخارجية منساقة، فالدول الكبرى تساند حكومة الحريري، وهذا دليل على تفاهمها المسبق، وعناصر حزب الله يكشطون صور رفيق الحريري من بيروت ويثبتون مكانها صور الرئيس السوري بشار الأسد، وهذا أيضاً في مجرى الائتمار العلني بالخارج. والفارق بين الانسياقين هي المسافة الجغرافية الفاصلة بين الأقطاب، والأسس التي انبنت عليها منطلقات كل منها. ليس لبنان إلى نقطة في محيط دائرة النار التي تمتد شرقاً إلى العراق المبتلى بمحاصصته الطائفية، وبالاستقواء الذي يؤخر كل شيء في سبيل تقديم مصالح الطائفة، ولا أحد يلام في هذا، إذ أصبح الحديث الوطني العراقي في تلك الأرض التي تضج بالتاريخ، وتعج بالأسماء، وترتج لها بدايات العلوم وأنهار المعارف وتوشية الفنون؛ ضرباً من «الخبل» السياسي، وتعبيراً عن الضعف الطائفي، ولا أحد يود أن يبدو ضعيفاً مغفلاً في سبيل أطراف لا تعترف إلا بالمزيد من المكاسب، ولا تشبع، فالكل مدعو إلى وليمة كبيرة اسمها «العراق»، ومن فاته اللحم فعليه بالمرق، حتى ينتهي الأكلة من قصعتهم خاسرين جميعاً مادامت ليست هناك مكاسب. تدور النقطة شرقاً أيضاً إلى إيران التي تلعب ببيضة القدرة النووية وحجر الحرب، إذ لاتزال طهران تقذف هذه تارة وتلك تارة أخرى في توازن جيد إلى الآن، ولا يدري أحد - بمن فيهم اللاعبون - متى تصطدم البيضة بالحجر فتسيل خيراتها على الأرض لا يمكن جمعها، بينما ينزل الحجر على الرؤوس مخلفاً الدماء والأورام وغيرها مما لا يحمد عقباه، علاقاتها المتأرجحة تاريخياً مع جاراتها الخليجيات، وملاعبتها للاتحاد الأوروبي منذ سنين، وأصابعها الممتدة شرقاَ وشمالاً في أكثر من قضية كلها تعقد الأوضاع وتوتر الأجواء. ينزل محيط الدائرة إلى اليمن، وتبادل الكر والفر بين الحكومة والحوثيين الذي إن هدأ لم ينقطع، والذي يسقط الضحايا بسخاء من الجانبين، ويجعل من هذا البلد الوديع قبلة تجار السلاح وحفاري القبور. يرتفع محيط الدائرة إلى الشمال الغربي حيث المشكل الصومالي الذي لم ينتهِ منذ أن سقط حكم الرئيس السابق أحمد سياد بري في غفلة من الانشغال العالم بالغزو البعثي على الكويت في ,1990 ومنذ ذلك الحين لم ينعم الصوماليون بحكم ثابت وحكومة قوية. بلد ينهشه سرطان الجوع والفقر والجهل والتردي على كل الأصعدة، فيما عدا صعيد شهوة السلطة ومقعد الحكم، بينما الموت بالرصاص يحصد آلافاً، والموت بالأمراض ونقص التغذية وتردي الأوضاع الصحية يحصد المتبقين من هذا الوطن. شمالاً حيث السودان الذي طغت أحداث الثماني والأربعين ساعة الماضية على أحداث لبنان والعراق، بالصراع الدائر في أم درمان وكردفان والعاصمة بين حركة العدل والمساواة والقوات الحكومية، كلٌ يتفاخر بدحر الآخر، وتكبيده الخسائر الفادحة، وكل يدّعي سيطرته على الوضع ويبشّر بزوال الآخر، ويفتح الأبواب على مصاريعها في سبيل التدخل الدولي أكثر مما هو حاصل الآن. تقترب دائرة النار من الانغلاق عند مصر، حيث الحركات الشعبية لا تتوقف منذ أن وجدت حركة «كفاية» سبيلاً لها في النزول إلى الشارع وإخراج ما يتداوله الناس على المقاهي إلى مطالبات، سياسية أحياناً، ومعيشية أحياناً، و«عاوزين شغل يا كبير».. حركات لا تخلو مرات من الصبيانية، ولكنها صبيانية من ليس في يده إلا الجأر بالشكوى والبوح بها. قدّر مراقبون أن تقف المسألة منذ أكثر من أربع سنوات عند حدود المسيرات، ولكنها وصلت إلى المصادمات، إن خفت حدتها فإنها مرشحة للبروز من جديد. لتنغلق الدائرة في فلسطين.. وكفى. في محيط من النار والتوتر والموت والطأفنة واستجلاب العداوات الإقليمية والدولية، والإسراع إلى الموت حثيثاً من أجل عناد ومكابرة أحياناً، ومن أجل الانعتاق أحياناً.. هل يلام المرء إن لم يستطع التفكير في غده؟! *الوقت البحرينية