في مطلع الشهر الثامن من العام 2006م، حلت بالرئيس الكوبي فيدل كاسترو أزمة صحية بَدَتْ حينها شديدة الوطأة، ما دعاه الى تفويض أخيه راؤول لسلطاته كلها، في حين تردَّدت شائعات في هافانا عن احتمال إصابة الثائر القديم بمرض عضال قد لا يعود بعده إلى سدَّة الحكم ثانية!.. ولعل ذلك ما دعا الرئيس الأميركي -حينها- جورج واشنطن بوش الى التعجيل بالدعوة لتشكيل حكومة إنتقالية في هافانا، عارضاً دعماً كاملاً لمن يسعى من الكوبيين إلى القيام بهذه الخطوة! والزعيم الكوبي الكهل هو آخر العتاة الكبار في الساحة السياسية الدولية .. وقد كانت حياته سلسلة من الأحداث والحوادث التي كان معظمها موغلاً في الدرامية إلى حدّ التراجيديا .. وخلالها تخَلَّص من أقرب رفاقه, وتخلص منه أقرب أقاربه (زوجته وابنته) وظل أخوه راؤول إلى قربه حتى هذه اللحظة، شقيقاً ورفيقاً وصديقاً ومعاوناً أميناً. ولم يتعرض زعيم الى محاولات الإنقلاب بتلك الكمية والنوعية التي عرفها فيدل .. وكانت وكالة المخابرات المركزية الأميركية تتفنن دائماً في مؤامراتها ضده، غير أن الفشل كان رديفاً لازماً لكل تلك المؤامرات .. فلا الثياب المسمومة ولا السجائر الملغومة، ولا غيرها من الوسائل والأساليب والأدوات أجْدتْ يوماً. وخارج نطاق الثورة والسياسة، يعشق كاسترو السيجار الكوبي الفاخر والنساء الصغيرات الجميلات، غير أنه يعشق الخطابة والكلام أكثر من أيَّ شيء آخر! وقد كانت خطبه - بكل مناسبة وبغيرها - تتجاوز الساعات الخمس في معظم الأحوال. غير أن صاحب ملاحم المونكادا والسييرا مايسترا وخليج الخنازير أدرك مؤخراً ومتأخراً أن المزاج الشعبي -ليس في كوبا وحدها وإنما في جميع بلاد العالم- لم يعد متناغماً مع الموجات الطويلة في الكلام، وبالذات مع خطابات الزعماء والحكام التي ينبغي أن تكون مرسلة على الموجة الشعبية القصيرة. هذا ما أدركه الزعيم الكوبي، فشعبه لم يعد يطيق الوقوف - أو حتى القعود- لسماع خطابه الإحتفالي السنوي، بمناسبة ذكرى الثورة الكوبية التي أطاحت بنظام باتيستا العتيد - لعدة ساعات متواصلة .. ما دعاه إلى اختزال المساحة الزمنية لخطابه "التاريخي" الأخير من خمس ساعات الى .. ساعة! وعلق فيدل على هذا الإجراء "الإستثنائي" بقوله: "إن وسائل الإعلام العالمية باتت تضع الحقائق كاملة أمام الكوبيين والعالم أجمع".. أي أن خطابه - في هكذا حال- لن يأتي بجديد أو مفيد .. وربما لهذه القناعة أيضاً عمد كاسترو - منذ تركه السلطة لأخيه - إلى كتابة أعمدة صحفية مختصرة في غالب الأحيان! وبمناسبة الخطابات طويلة التيلة, كان الرفيق ليونيد بريجنيف يقف متحدثاً - لا سيما في المناسبات الكبرى - لساعات وساعات، دون أن يرف له جفن أو يجف له عصب .. وكان مستمعوه أسوأ حالاً منه وأكثر بعثاً على الشفقة .. غير أنه اكتشف - متأخراً - أنه كان طوال عهده المديد، يقرأ خطاباً مؤلفاً من صفحة واحدة فقط .. لكنه منسوخ في مائة نسخة! *رئيس تحرير صحيفة الوحدة [email protected]