من الواضح الجلي ان تطور و تقدم اي شعب من الشعوب لا يتحقق إلا من خلال جهود ابنائه. ان ذلك يعني انه اذا ارادوا تطوير بلادهم فان عليهم ان يكونوا مستعدين لبذل الجهد و تقديم التضحيات في سبيل ذلك. فالله لا ينزل ملائكة من السماء ليقوموا بهذه المهمة و ان طلب البشر منه ذلك لان ذلك من مهامهم. و كذلك فانه لا ينبغي لابناء اي شعب من الشعوب التعويل على الخارج للقيام بهذه المهمة. فقد يساعد الخارج لكنه في اي من الاحوال لا يمكن ان يكون بديلا عن ابناء الشعب. المقصود بالتطور و التقدم هنا هو ان يعيش ابناء الشعب حياة كريمة. و تتمثل الحياة الكريمة في قدرة افراد الشعب على اشباع حاجاتهم الاساسية و التكميلية بمستوى يتقارب مع مستويات الشعوب الاخرى. و كذلك في حصولهم على حماية كافية لانفسهم و اموالهم و اعراضهم. و الأهم من ذلك ان يكونوا قادرين على ان يختاروا اسلوب الحياة الذي يفضلونه. و من الواضح كذلك ان تحقيق التطور و التقدم ليس مرتبطاً بزمن معين و لا بظروف محددة انه فقط مرتبط ببذل الجهد. ان ذلك يعني انه يجب على اي شعب من الشعوب يرغب بالتقدم و التطور ان يبدأ أبناؤه ببذل الجهد فورا و عدم الانتظار حتى تكون الظروف مناسبة و مواتية. فلا يوجد زمن مناسب للتطور و زمن غير مناسب له فالاوقات بالنسبة له كلها سواء. و كذلك فانه لا توجد ظروف مناسبة لتحقيقه و ظروف غير مناسبة. فتحقيقه يحتاج الى نفس الجهد في كل الظروف. و لذلك فانه يجب على كل من يرغب في ذلك ان يبادر إلى القيام بهذه المهمة في الحال. لكن و في نفس الوقت فانه ينبغي ملاحظة ان جهود تحقيق التطور ليست كلها سواء فيما يخص فاعليتها و كفاءتها. فبعض الجهود اكثر فعالية و كفاءة من غيرها. فالجهود الاستراتجية اكثر كفاءة و فعالية من الجهود التكتيكية. فالاولى تعني تلك الجهود التي تؤثر على العوامل الرتبطة بالتطور بشكل مباشر و غير مباشر و ربما كان التأثير غير المباشر اكبر بكثير من التاثير المباشر. اما الثانية فهي التي تؤثر على تلك العوامل بشكل مباشر فقط. فاذا ما تركزت جهود تحقيق التطور على الاولى فان عملية تحقيق التطور سيكون اسرع. اذ ان هناك عددا من الشعوب و الامم لم تدرك هذه الحقيقية و بالتالي فقد ظلت متخلفة منذ ان خلق الله العالم و الى يومنا هذا و اذا لم تغير تفكيرها فانها سوف لن تتقدم حتى تقوم الساعة. و كذلك فان هناك امما و شعوبا ادركت هذه الحقيقة فغيرت تفكيرها فتطورت و تقدمت بعد ان كانت متخلفة. لذلك فان الشرط الضروري -و ان لم يكن كافيا لتحقيق التقدم و التطور- هو ان تدرك الشعوب و الامم انها تستطيع ان تحقق ذلك. اما الشرط الثاني و الكافي فهو ان تبحث عن الطرق و الوسائل التي تمكنها من تحقيق ذلك بأسرع وقت ممكن في حدود الامكانيات المتاحة لها. و من اجل تحقيق ذلك فان على النخب في هذه الشعوب ان تحثها على ضرورة ذلك. ان ذلك يحتم على هذه النخب خلق و تطوير رؤيا عملية التطور و التقدم. فبدون ذلك فلا يمكن حشد جهود الشعوب و الامم لتحقيق ذلك. و بدون ذلك فانه لا يمكن تحديد متطلبات تحقيق الرؤياء على ارض الواقع. فاذا ما نجحت هذه النخب في ذلك فان عليها أن تسعى لاقناع شعوبها او على الاقل القوى الفاعلة فيها بفوائد هذه الرؤيا. المقصود بالنخب هنا المبدعون و الموهوبون و المفكرون و العلماء. ان هؤلاء وحدهم قادرون على خلق الرؤى الاستراتيجية الضرورية لتحقيق عملية التطور لانهم يملكون النظرة البعيدة و يستطيعون تخيل المستقبل الافضل القابل للتحقيق. ذلك ان تحقيق الرؤيا على أرض الواقع يحتاج الى جهد بشري شاق، الأمر الذي يحتم التعرف على السنن الكونية و القوانين الطبيعية. و لذلك فان بلورة الرؤى و غربلتها يحتاج الى خبرات و مهارات لا يملكها إلا هؤلاء. لكن لا ينبغي ان تسعى هذه الرؤى لخدمة هؤلاء فقط و انما يجب ان تكون مفيدة للجميع. ان ذلك هو الذي يعطي لها بعدا اخلاقيا من ناحية و من ناحية اخرى فان ذلك يبرر عملية التضحية في سبيل تحقيقها. صحيح ان تحقيق اي رؤيا على أرض الواقع يتطلب مشاركة الجميع و على وجه الخصوص القوى الحية في المجتمع لكن لا يمكن بأي حال من الاحوال تحقيق التناسب بين الجهد المبذول و الفائدة المتحصل عليها. فقد يكون على المبدعين و الموهبين و المفكرين ان يكونوا مستعدين لبذل جهد اكبر من غيرهم من فئات المجتمع و ان لم يكونوا الاكثر استفادة منها. صحيح ان الرؤى قد تختلف من شعب الى شعب و من وقت الى وقت و لكن ما يميزها انها لا بد و ان تسعى الى تغيير الواقع الى الافضل و عدم الاستسلام له مهما كانت الظروف و العقبات التي تحول دون ذلك. و اليمن كأي شعب من الشعوب ينطبق عليه ذلك. ان تطوير اليمن يتطلب من ابنائها ايجاد رؤيا تمكنه من ذلك. و بما ان ابناء اليمن بشر مثل غيرهم فانهم بامكانهم خلق رؤيتهم الخاصة بمستقبلهم وان يتعاونوا جميعا في تحقيقها على ارض الواقع. لكن لسوء الحظ فان ذلك لم يتحقق في الماضي و لا توجد مؤشرات على امكانية تحققه في المستقبل القريب. فعلى الرغم من ان ابناء اليمن ناضلوا من اجل يمن أفضل منذ 1962 فان نجاحهم في ذلك لا زال محدودا. و ربما يرجع ذلك الى غياب الرؤيا الإستراتجية الضرورية لتحقيق ذلك مما صعب من عملية حشد جهود اليميين لتحقيقها على ارض الواقع. فعلى سبيل المثال فان أهداف ثورتي سبتمبر و إكتوبر كانتا في الحقيقة انعكاسا لاهداف ثورة يوليو في مصر. و بالتالي فانها لم تمثل رؤيا استراتجية لمستقبل افضل لليمن. لانها لم تعكس تطلعات ابناء اليمن. و الدليل على ذلك انه قد ترتب عليها حدوث شقاق كبير بين ابناء اليمن بعد الثورتين. و نتيجة لذلك فلم يبذل ابناء اليمن الجهود الكافية لتحويل هذه الاهداف من شعارات الى واقع معاش. و الاكثر اهمية انه تم و بسهولة تغيير اهداف و مسار ثورة 14 من أكتوبر بعد وقت قصير من نجاحها لتعكس الفكر الاشتراكي و الذي لم يكن ملائما لواقع اليمن بحسب اسس هذا الفكر نفسه. و لذلك فان اليمن لم تستفد من محاولة تطبيق هذه الرؤى قسرا و قهرا. و لسوء الحظ فانه لم يتم ادراك هذه الحقيقة عند تحقيق إعادة تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو. و لذلك فان تحقيقها لم يتواكب مع خلق رؤيا إستراتجية لمستقبل اليمن الموحد. لقد طغت الاعتبارات الآنية و التوفيقية على الاعتبارات الاستراتيجية مما جعلها هشة. لقد اعتقد خطأ انه بالامكان التوفيق بين الرؤيتين المتناقضتين و اللتين كانتا سائدتين في الشطرين قبل الوحدة. و ايضا فقد اعتقد خطأ ان ذلك سيعمل على تغيير واقع اليمن الموحد الى الافضل. و ما من شك بان هذا الاعتقاد كان خاطئا. فإلى جانب أن ما كان سائدا من رؤى في الشطرين لم يكن يمثل رؤى استراتجية على الاطلاق فان ما كان موجودا لم يتعد تصورات سطحية و فردية ضررها اكبر من نفعها. و الدليل على ذلك إنهما لم ينجحا في تطوير أي من الشطرين. لقد كان من المفترض ان يتبع عملية إعادة تحقيق الوحدة تبني رؤيا إستراتجية جديدة بالاستفادة من التجارب السابقة و الظروف الجديدة. و نتيجة لذلك و لسوء الحظ فان اليمن بعد 20 عاما على إعادة الوحدة لم يحدث اي تغيير جذري. فحتى الوحدة نفسها لم تترسخ بدليل استمرار الخلاف الحاد حولها الى يومنا هذا. و لذلك فانه يمكن القول انه خلال هذه الفترة لم يتم تحقيق اي تقدم يذكر سواء على المستوى الاقتصادي او المستوى السياسي او المستوى الاجتماعي. لقد مثل ذلك اخفاقا كان من الممكن تجنبه لو كان هناك رؤياء استراتجية لمرحلة ما بعد الوحدة. فتجارب العديد من الدول التي حققت انجازات كبيرة في كل هذه المجالات خلال فترة قريبة من هذه الفترة تدل و بدون ادنى شك ان اليمن كان باستطاعته تغيير كل من واقعه الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي الى الافضل. لقد كان بالامكان رفع مستوى المعيشة لجميع اليمنيين و التي ظلت متدنية لغالبيتهم. فمعدل البطالة بين اليمنيين كبير و معدل استقرار الأسعار منخفض. فمتوسط نصيب الفرد اليمني من الدخل في الوقت الحاضر يقل بكل تأكيد عن 1000 دولار. و بذلك فانه يساوي تقريبا نفس متوسط نصيب الفرد اليمني من الدخل في عام 1990. و لا زال عدد كبير من اليمنيين لا تتوفر لهم مياه الشرب النقية و لا الكهرباء. و كذلك فان نسبة وفيات الأطفال لا زالت كبيرة مقارنة بدول كانت تعاني من نفس المشكلة في عام 1990 و لكنها شهدت تحسنا كبيرا في هذا المؤشر خلال الفترة الماضية. و نفس الامر ينطبق على كل من مؤشر وفيات الأمهات و انتشار الأمراض المعدية و العمر المفترض. ان ذلك يرجع الى الضعف المؤسسي و تشتت مشاريع البنية التحتية و غياب إستراتجية الأمن و تداخل كل من القبيلة و الدولة و تشتت السكان. لقد ترتب على الضعف المؤسسي عدم مواجهة التحديات في وقتها واللجوء الى تأجيلها الى المستقبل تعويلا على قدرة الزمن على حلها. لكنها لا تحل مع مرور الزمن بل تزداد ضراوة و حدة. لقد ترتب على تشتت مشاريع البنية التحية زيادة تكاليفها و تدني فعاليتها. و الدليل على ذلك انها لن تستطيع ان تطور القطاعات الاقتصادية لجعلها قادرة على خلق قيمة جديدة و دخل جديد بل ان هذه المشاريع تحولت الى عبء على الاقتصاد اليمني من خلال ارتفاع تكاليف تشغيلها و صيانتها و عدم القدرة على إحلالها. و تدل العديد من المؤشرات المستقبلية مثل انخفاض إنتاج النفط و عدم و جود قطاع آخر يمكن ان يحل محله في قيادة الاقتصاد اليمني و عجز الموازنة الكبير و حجم الدين العام الداخلي و الخارجي الكبير و تدني معدل الاستثمار و تدني مؤشرات التعليم أن مستقبل الاقتصاد اليمني لا يبشر بخير. فمن غير المتوقع ان يكون الاقتصاد اليمني قادرا على المحافظة على نفس المؤشرات الحالية سالفة الذكر ناهيك عن قدرته على تحسينها. و نتيجة لذلك فانه من المرجح ان تشهد هذه المؤشرات تدهورا كبيرا في المستقبل القريب. فبعد عشرين عاما من الممارسات الديمقراطية فان اليمن لا زال يعاني من عدم الاستقرار السياسي النسبي. فالعلاقة بين الأحزاب السياسية لم تستقر بعد. فلا الحزب الحاكم مستعد للتداول السلمي للسلطة و لا المعارضة قابلة للمشاركة فيها بحسب وزنها السياسي. و كذلك فان العلاقة بين عامة الشعب و الأحزاب السياسية لا تتمتع بالثقة المناسبة. فلا الأحزاب السياسية حاولت ان توثق علاقتها مع عامة الناس و لا عامة الناس حاولوا الضغط على الأحزاب السياسية لتغير توجهاتها و برامجها و ممارساتها. و قد ترتب على ذلك توسع الفجوة بين عامة الناس و النخب السياسية. فها نحن نشاهد سعي بعض القوى السياسية الوصول الى السلطة عبر قنوات غير ديمقراطية من خلال التمرد على الدولة ( الحوثية) او العودة التي التشطير ( الحراك الجنوبي). و الأكثر اهمية من ذلك ان غالبية أفراد الشعب يقفون على الحياد. فقد كان عليهم الانحياز للوحدة و الديمقراطية و رفض دعوات التشطير و السطو على السلطة من خلال العنف ايا كان نوعه او مبرراته. أما فيما يخص العلاقات الاجتماعية فقد تأثرت و بشكل مضطرب بالانفتاح غير المنظم و المنضبط. فلا المناطق القبلية سمح لها ان تظل كذلك و لا المناطق التي كانت قد تخلت عنها سمح لها ان تظل كذلك. و لقد ترتب على ذلك خليط من العلاقات القبلية و غير القبلية لا ينسجم لا مع ثقافة القبيلة و لا مع ثقافة الدولة الحديثة. و قد عمل ذلك على عرقلة سلطة الدولة لصالح الفوضى و ليس لصالح ثقافة القبيلة المنضبطة. و الى جانب ذلك فان اليمن يواجه في الوقت الحاضر و في المستقبل العديد من المشاكل و التحديات. لقد ترتب على عملية التحضر الناقصة نقل مشاكل الريف اليمني الى المدن القديمة و الحديثة. صحيح ان العديد من المدن اليمنية قد توسعت من حيث المباني و السكان و لكن من دون ثقافة مدنية. و الدليل على ذلك هو غياب التخطيط الحضري و سيطرة البناء العشوائي. فالشوارع غير منتظمة و البناء غير متناغم. و الأكثر من ذلك غياب الحدائق و المنتزهات و المسارح و المعارض و المكاتب و غيرها من المؤسسات المدنية. و قد عمل التشرذم المذهبي على تعميق الاضطرابات الاجتماعية. و الدليل على ذلك تقسيم المساجد بين التيارات الفكرية المتنافسة الامر الذي ترتب عليه تحريضها للتعصب المذهبي و ربطه بالقبيلة او المناطقية. لقد ترتب على ذلك ضعف الانسجام الاجتماعي. وقد ترافق ذلك مع تصاعد التوترات بين الدولة و القبيلة و بين الأحزاب السياسية و بعضها البعض. لقد اثر ذلك على طموحات ابناء اليمن و زيادة خوفهم من المستقبل. و لا شك ان ذلك قد اثر على المبادرة و الإبداع مما ترتب عليه الجمود في كل المجالات. و لقد ترتب على ذلك ضعف مؤسسات الدولة بشكل كبير. فالعلاقة بين مكوناتها غير واضحة أي انه لا يوجد توازن بين الصلاحيات و المسئولية. و قد نتج عن ذلك قصور واضح في تأديتها لمهامها الاساسية و على وجه الخصوص توفير الخدمات العامة مثل القضاء و الأمن و التعليم و البنية التحتية. و لقد ترتب على ذلك ان اليمن لم يحقق ما كان يمكن له ان يحققه من تطور و تقدم لو احسن استخدام ما يتوفر له من امكانيات و موارد. و من اجل تغيير ذلك في المستقبل فانه لا بد من الاقرار بهذه الحقيقة المرة. ان ذلك يعد شرطا ضروريا للسعي لتحقيق متطلبات التغيير اي خلق رؤيا فعالة له و حشد جهود جميع اليمنيين لتحقيق هذه الرؤيا على ارض الواقع الوسط