الأمة في أبشع صورها وأشدها وحشية. وهي تغلب بقية الشعوب والامم في سباقها الدموي، وفي مسارها الانتحاري. لم يسجل التاريخ البشري هذا المستوى من الاقتتال الداخلي لدى بقية الشعوب والامم، ولا ذلك الصراع الضاري على السلطة، الطارئة أصلا على ثقافة العرب وحضارتهم وتجاربهم السياسية. ما يجري في اليمن تحول من إشارة متقدمة في تاريخ العرب الى وصمة عار على جبينهم. حجم الدم المسفوك يفوق التصور، ويتجاوز حتى المعايير اللبنانية والعراقية الحاسمة في تقييم الحروب الاهلية العربية، ويتخطى التجارب السودانية والصومالية والليبية المتواصلة، والتجربة السورية الداهمة.. التي انضمت مؤخرا الى السباق على الفوز بقلادة الفضيحة. بدأ الامر بقرار شعبي يمني بتقليد الثورة المصرية، استنادا الى ما لدى اليمنيين من مزاعم ومطامح قديمة بأنهم الاقرب الى المصريين، الذين ساهموا في تحريرهم من عبودية الإمامة وساعدوهم في إقامة أول جمهورية في شبه الجزيرة العربية. وطوال شهرين أو أكثر، كانت الحركة الشعبية اليمنية أشبه بمعجزة، واستحقت الكثير من الاعجاب والعطف والتقدير: شعب مسلح يتزين بالخناجر ويتباهى بالمسدسات والرشاشات، يخرج الى الشوارع بمئات الآلاف مرددا الشعارات المصرية نفسها حول إسقاط النظام، ومعتمدا السلوك نفسه لشبان وشابات ميدان التحرير في وسط القاهرة. لكن سرعان ما تبين أن النظام اليمني أشد بطشا ومكرا وفسادا من نظيره ومرشده المصري. رد عسكر الرئيس علي عبد الله صالح وميليشاته على المتظاهرين الذين كانوا يطلقون الهتاف المصري المدوي «سلمية، سلمية» بارتكاب بضع مذابح في صنعاء وتعز والحديدة وعدن عله يتمكن من ردع المطالبين بسقوطه في الداخل، الذين استجاب لهم على مضض الجيران الخليجيون والحلفاء الغربيون، ووضعوا مبادرة خليجية هي واحدة من عجائب الدنيا، لما نصت عليه من اقتراحات للاصلاح والتغيير في صناديق الاقتراع والتداول السلمي للسلطة التي لم تعرف سبيلا اليها في شبه الجزيرة بل في جميع الانحاء العربية غير التوريث. اعتبارا من الاسبوع الماضي، طرأ تحول خطير على مسار الصراع. لم تعد المذبحة وسيلة للردع، صارت خيارا ثابتا لدى نظام خرج عن طوره. لم يعد اليمنيون يتساقطون قتلى وجرحى بالعشرات كل اسبوع، أصبح الرقم اليومي بالمئات. حتى فكرة الحرب الاهلية نفسها، بما هي علامة عربية وإسلامية فارقة، مجرد نزهة بالقياس الى حمام الدم المفتوح حاليا على مصراعيه، والذي ينذر بما هو أقرب الى عمليات الابادة الجماعية.. من دون ان يحتاج الى تلك المبررات السخيفة التي اعتمدها أشقاؤهم اللبنانيون أو العراقيون أو السودانيون أو الليبيون حول الاختلافات القومية أو الطائفية أو المذهبية. اليمن ينفذ على طريقته، واستنادا الى وعي سابق لتأسيس الجمهورية واكتشاف القومية وظهور الدين وحتى القبيلة، عملية انتحار جماعي يمكن أن تتحول في المستقبل القريب الى واحدة من أكبر فضائح الامة وعلامات انحطاطها.. التي لا يمكن ان تنسب فقط الى قسوة غزاتها ومحتليها الاجانب. السفير اللبنانية