وسط إجراءات أمنية مكثفة تفرضها ضخامة الحشد أمام مقر الكاتدرائية المرقسية في حي العباسية القاهري، تشيع اليوم جنازة بطريرك الأقباط الأرثوذكس البابا شنودة الثالث الذي وافته المنية السبت الماضي عن 89 سنة إلى مثواه الأخير في دير الأنبا بيشوي في منطقة وادي النطرون الصحراوية في محافظة البحيرة، فيما أثار نواب التيار السلفي في مجلس الشعب (الغرفة الأولى للبرلمان) جدلاً بامتناعهم عن المشاركة في الوقوف دقيقة حداداً على روح البابا وانسحب بعضهم من الجلسة. وصدق رئيس المجلس العسكري الحاكم المشير حسين طنطاوي على إعلان حال الحداد العام في مصر غدا. وسيمنع أي شخص من الاقتراب من مقر الكاتدرائية اليوم ما لم يكن مدعواً لحضور مراسم التشييع المقرر أن تشارك فيها وفود أجنبية ومسؤولون كبار وأساقفة من كل المحافظات. كما سعى مسؤولو الكاتدرائية مراراً إلى إغلاق أبوابها وحاولت قوات الشرطة العسكرية أمس إخلاء ساحة الكاتدرائية من أجل التجهيز لمراسم الصلاة، لكن الحشود رفضت المغادرة. واحتشد عشرات الآلاف من الأقباط متشحين بالسواد حول مقر الكاتدرائية والشوارع المحيطة بها وافترشوا الطرقات في مسعى منهم لإلقاء نظرة الوداع على البابا. وظلوا يرددون: «أوعى تقول البابا مات، البابا عايش في السموات». وتسبب التدافع والزحام على بوابة الكاتدرائية في وفاة ثلاثة أشخاص وإصابة العشرات، فيما اصطفت سيارات الإسعاف في مواجهة الكاتدرائية التي بدت ثكنة عسكرية تتراص بمحاذاتها مدرعات الجيش التي انتشرت أيضاً في الشوارع المحيطة بها. واعتلى آلاف الأقباط جسراً للمشاة مواجهاً للكاتدرائية في محاولة لرصد ما يدور في ساحتها. وتوقفت حركة المرور تماماً في المنطقة وقبلها ببضعة كيلومترات. وحال الزحام دون إتمام زيارة رئيس الوزراء الدكتور كمال الجنزوري إلى الكاتدرائية. وسينقل جثمان البابا إلى مدفنه في دير الأنبا بيشوى بمروحية تتحرك من مطار ألماظة العسكري، كما خصص الجيش مروحية أخرى لنقل الإعلاميين. وأمنت القوات المسلحة مهبطاً للطائرتين قرب الدير زُود بالكهرباء هو والدير لنقل الجثمان بالسيارات عبر طريق ممهد يصل مباشرة إلى الدير الذي دأب البابا شنودة على زيارته أسبوعياً. ودير الأنبا بيشوي من أهم المناطق الأثرية في مصر، ويرجع تاريخ بنائه إلى القرن الرابع عشر، وهو أكبر أديرة وادي النطرون، ويضم خمس كنائس أكبرها كنيسة الأنبا بيشوي، إلى جانب مبنى للضيافة وحديقة واسعة ومكتبة، وفيه الكثير من الأماكن الأثرية المميزة مثل المائدة الأثرية وبئر الشهداء، إلى جانب الكثير من الأماكن التي يقطنها الرهبان. وأقيم أمس القداس الثاني في وجود جثمان البابا في القاعة الكبيرة في الكاتدرائية بمشاركة 117 أسقفاً هم أعضاء المجمع المقدس للكنيسة القبطية بعد وصول أساقفة الكنيسة في أوروبا وأميركا ودول المهجر. وسيشارك بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الأثيوبية باولوس في جنازة البابا شنودة. وكانت الكنيسة الأثيوبية انفصلت عن الكنيسة المصرية في العام 1959. وأثار نواب سلفيون جدلاً بانسحابهم من الجلسة أثناء وقوف الأعضاء دقيقة حداداً على روح البابا، ولم يقم آخرون من جلستهم. وقال النائب عن حزب «العدل» مصطفى النجار في صفحته على موقع «فايسبوك» إن «النواب المنتمين للتيار السلفي قاطعوا الجلسة ومن حضر منهم غادروا الجلسة قبل الوقوف دقيقة حداداً على روح البابا شنودة الثالث... شكراً لكم، أحزنتمونا جميعاً». ورفض الناطق باسم حزب «النور» السلفي يسري حماد التعليق على موقف نواب حزبه. وقال ل «الحياة»:«لن اعلق على هذا الموقف حتى أستبينه من نواب الحزب، ومبرراتهم إن كان حدث». وكان البرلمان الذي تسيطر عليه غالبية إسلامية نعى البابا شنودة. وقال رئيسه القيادي «الإخواني» سعد الكتاتني إن «مصر فقدت رمزاً كبيراً من رموزها الوطنية رجلاً ترك فراغاً في الساحة السياسية في لحظة فارقة نعيد فيها ترتيب أركان البيت المصري». وأضاف أن «البابا كرس حياته للدعوة للمحبة وللتسامح وكان داعياً من دعاة الوحدة الوطنية وله مواقفه المشهودة، كما كان صمام أمان لهذا الوطن ورمزاً من رموز الوحدة الوطنية وأكد مرات كثيرة أنه لا توجد في مصر فتنة طائفية وإنما محاولات فاشلة لتفريق نسيج الوطن الواحد». وقدم الكتاتني العزاء «لأهل مصرأقباطاً ومسلمين في الداخل والخارج». وتحدث عدد من النواب المسيحيين عن مناقب البابا شنودة وأكدوا أنهم لا يعزون الأقباط في وفاة البابا شنودة وإنما شعب مصر كله لأنه«لم يمثل دينه فقط وإنما الوطنية المصرية كلها». وطالبوا البرلمان بإرجاء جلساته اليوم وحضور جنازة البابا. وأجهشت النائبة ماريان ملاك بالبكاء وهي تنعى البابا. وقالت:«أدعو المجلس إلى المشاركة في الجنازة، فهذا الراجل يستحق أن تسير مصر كلها في جنازته». وطالبت البرلمان بالوقوف دقيقة حداداً على روحه، فوقف الكتاتني ومن بعده غالبية النواب، لكن السلفيين بعضهم لم يقم وآخرون انسحبوا من الجلسة. وانتقدت مواقع سلفية عدة على الإنترنت وبعض رموز الحركة السلفية رئيس «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» الشيخ يوسف القرضاوي لنعيه البابا. وقال القرضاوي في برقية عزاء أرسلها للكنيسة إن «مواقف البابا شنودة الثالث المؤيدة للشريعة الإسلامية لا تنسى، ومواقف مشكورة في نصرة القضية الفلسطينية والوقوف ضد زيارة القدس في ظل الاحتلال». وأضاف أن «البابا كان رجل الكنيسة الجاد، ورجل مصر الوطني، الكاتب، الشاعر، الواعظ... نشاطر إخواننا الأقباط في مصابهم الكبير ونتمنى لهم التوفيق في حياتهم الجديدة واختيار بابا جديد، متعاونين مع إخوانهم المسلمين المصريين ليبنوا معاً مصر الحرة الديموقراطية المؤمنة». ونعى الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي البابا شنودة. وقال: «كان رمزاً دينياً كبيراً وقامة مصرية ووطنية عظيمة حملت هموم المصريين والعرب جميعاً». وقرر العربي تنكيس أعلام الجامعة العربية حداداً على البابا. وبعث الرئيس السوري بشار الأسد أمس ببرقية تعزية إلى المشير طنطاوي في وفاة البابا شنودة قال فيها إن البابا «ترك بصمة راسخة في الحياة الإنسانية والوطنية في مصر والعالم وكان مثالاً لرجال الدين الذين تميزوا بالانفتاح والحكمة والتفاني في حب الوطن والدفاع عن الحق والعدالة وقضايا الأمة العربية ونشر المحبة وقيم الحوار والتسامح». وبعث السفير السعودي لدى القاهرة أحمد قطان برقيتي تعزية إلى كل من المشير طنطاوى ورئيس الوزراء الدكتور كمال الجنزورى في وفاة البابا. وذكر بيان صادر عن السفارة السعودية أن السفير قطان «أعرب عن عميق حزنه لهذا المصاب الجلل، داعياً الله أن يلهم الجميع الصبر والسلوان * الحياة