يتسمر اليمنيون أمام شاشات التلفاز كلما سنحت لهم فرصة مناسبة، لمتابعة فعاليات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، الذي افتتح رسمياً الاثنين الماضي، وبدأت فعالياته فعلياً أول أمس الثلاثاء، فما كان مستحيلاً قبل سنوات أصبح ممكناً اليوم، إذ يلتقي في جلسات الحوار أكثر من 550 شخصاً يطرحون أفكارهم وآراءهم من دون خوف أو وجل، بعد أن كانوا يناقشون مثل هذه الأمور أو أقل منها شأناً في الغرف المغلقة . في الجلسات التي تعقد في فندق "موفينبيك" يجلس المتخاصمون والمتحاربون إلى وقت قريب بجانب بعضهم بعضاً، وحسب الرئيس عبدربه منصور هادي فإن عقد جلسات الحوار تأتي "لكسر الكثير من الحواجز النفسية" التي صنعتها أزمات السنوات الماضية فيما بين المتخاصمين، مخاطباً إياهم بالقول: "أنتم هنا رفقاء حل، لا فرقاء صراع، فيجب أن نتعلم ونتدرب على قبول بعضنا بالآخر، ونطوي صفحة الماضي ونغلقها إلى الأبد" . في جلسات اليومين الماضيين لم يكن أحد يتوقع أن يأتي صوت من الجنوب ليطالب من قلب العاصمة صنعاء ب"حق الجنوبيين باستعادة دولتهم"، أي بانفصال الجنوب عن الشمال، ولم يكن أحد يتوقع أن تهاجم القبيلة في حضور زعماء القبائل أنفسهم، ولم يكن أحد يتصور أن "العلماني" يجلس إلى جانب رجل الدين المتشدد، أو أن الرئيس السابق علي عبدالله صالح ونظامه يمكن أن يكونا عرضة ل"الشرشحة" على الهواء، لكن ذلك كان حاضراً في كلمات أعضاء لجنة الحوار ومداخلاتهم، التي أظهرت حجم الاحتقان السياسي والشعبي الذي خيم على اليمن منذ خمسين عاماً . حوارات اليمنيين اليوم بلا حدود ولم يضع لها أحد أسقفاً لتقف عندها، فقد أظهرت الكلمات التي ألقاها المتحاورون أن الحرية كانت الغائب الأكبر طوال فترة الحكم التي تعاقبت على اليمنيين شمالاً وجنوباً، ولم تنفع ادعاءات صالح بأن نظامه كان ديمقراطياً ويتمتع بحرية صحافة وتعددية سياسية، ذلك أن الحقيقة الوحيدة التي كانت حاضرة هي غياب الحرية . تكشف الجلسات التي بدأت الثلاثاء أن مشاكل اليمن كثيرة وكبيرة جداً ومتشعبة والقدرة على معالجتها لن تأتي إلا بحوار جاد يديره عقلاء البلد لإيجاد "الروشتة المناسبة" للعلاج . الكثير من المراقبين يرون أن الحوارات مفتوحة من أجل التوصل إلى صيغة تكون محل إجماع، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها اليمن، إلا أن الكثير يعتقدون أن السماح بانزلاق البلد في أتون حرب شاملة لن يتم السماح بها . كان ذلك واضحاً في الكلمة التي ألقاها الرئيس هادي أمام المتحاورين عندما طالبهم بأن يعملوا على إيجاد حل "بنكهة يمنية" حتى لا يعطوا الفرصة لحل يأتيهم من الخارج . لا شك في أن مثل هذا الأمر يقع في صميم مهمة مؤتمر الحوار الوطني، فالكل يدرك أن فشل الحوار يفسح المجال للحل الخارجي، الذي اتخذ قراراً بعدم السماح بدخول اليمن دوامة المجهول، لذلك فإن الحوارات التي يخوضها أعضاء مؤتمر الحوار، بعيداً عن المواقف التي سجلها البعض بانسحاب هنا أو هناك، سترسم خريطة مستقبل اليمن، بل يمكن القول إن الوقت لا يسعف أحداً لمناورات بعيداً عن استحقاق مهم يتمثل في الوصول إلى حلول توافقية ومرضية للأطراف كافة . في جلسات اليومين الماضيين تصادمت المشاريع السياسية والأفكار التي تم تقديمها من قبل المتحدثين، فقد طرحت مشاريع الانفصال والوحدة والدولة الاتحادية والدولة الفدرالية، ولم يبق حل إلا وطرح في المؤتمر، لكن يبقى المهم هو أن يتقبل الجميع الحلول التي يتم التوافق عليها، والسعي الجاد من أجل تحويلها إلى واقع، على قاعدة "التنازلات المؤلمة" التي كررها مراراً الرئيس هادي والأمين العام للحزب الإشتراكي اليمني ياسين سعيد نعمان، فبدون هذه التنازلات لن يكون هناك حل حقيقي وستعود الأزمات إلى نقطة الصفر . ما يميز مؤتمر الحوار الوطني استشعار المتحاورين ومعهم ما يقرب من 25 مليون شخص، خطورة الوضع الذي يعيشه اليمن، فالكل يدرك أنه من دون حوار حقيقي ورغبة في الوصول إلى حلول جادة لن تقوم لليمن قائمة، فحقائق الواقع تؤكد أن عوامل الاحتراب أكثر من عوامل التقارب، وهذه المعادلة المختلة يجب أن تزول وأن تزول معها عقلية الاستئثار بالقرار، سواء على مستوى المركز أو حتى على مستوى الأطراف . لقد نجح الرئيس هادي في إيصال اليمن إلى ما وصل إليه اليوم، مع الأخذ في الاعتبار بعض الهنات والنواقص التي كان بالإمكان تجاوزها عبر التسريع بالقرارات الخاصة بإعادة هيكلة الجيش والأمن، لكن الرجل يدرك حقيقة التوازنات السياسية والعسكرية والقبلية والاجتماعية، ويقدم له البعض الأعذار في كونه يسير على حقل من الألغام، لم تزرع خلال عام الاحتجاجات الشعبية، بل أنها تراكمات سنوات طويلة من الحكم الفاشل، سواء في عهد الحكم الشطري أو في حكم دولة الوحدة . اليوم لا يبقى لليمنيين سوى الاتفاق على معالجة الأخطاء التي وقعوا فيها خلال خمسين عاماً من ثورتهم، قتل خلالها رؤساء وسقط رؤساء آخرون باحتجاجات شعبية، وحان الوقت لينبذوا طريقة معالجة أوضاعهم التي كانت تنتهي خلال الأزمات الماضية ب"بوس اللحى"، لكنها سرعان ما تعود هذه الأزمات إلى الواجهة من جديد أكثر حدة . اليوم لا يجد اليمنيون إلا لغة الحوار ليحلوا بواسطته أزمات استمرت لعقود، وقد حان الوقت ليترجموا هذه اللغة إلى واقع حقيقي وملموس يحمي اليمن من الذهاب إلى المجهول . المصدر : الخليج الاماراتية