قوة القضايا النبيلة والعادلة تعكس نفسها من خلال حامليها الذين يظلون أقوياء وعصيين على الكسر مهما بلغ منهم القمع مبلغه، هذا تقريبا كان العنوان الذي خرجت به من جلسة محاكمة مثل فيها الكاتب والصحفي محمد المقالح قبل عامين أمام هيئة محكمة استثنائية تزاول عملها خارج الدستور والقضاء اليمني الطبيعي. في 3 فبراير 2010، دخلت قاعة المحكمة الجزائية المتخصصة في قضايا الإرهاب وأمن الدولة وشغلت مكانا شاغرا في مؤخرة القاعة التي كانت قد امتلأت بالصحفيين والناشطين الحقوقيين وعدد من الزميلات الصحفيات والناشطات الحقوقيات. لم يكن الحضور كبيرا طبعا بالنظر الى حجم الحدث الكبير، لكنها كانت المرة الأولى تقريبا التي تمتلئ فيها تلك القاعة بذلك العدد في حادثة بدت لي غير مسبوقة في تاريخ تضامن زملاء المهنة وناشطي حقوق الإنسان مع زملائهم الذين يقعون ضحايا انتهاكات وقمع النظام لحرية التعبير وحقوق الإنسان. مع هذا، فقد وجدت هذا الحضور ضئيلا، وهي الضآلة التي عزوتها حينها ليس إلى ضآلة تضامن النخب الصحفية والحقوقية والسياسية مع الضحايا فحسب، وإنما إلى ضآلة الفضول لدى هذه النخب أيضا. فمن لن يحضر بهدف التضامن مع الرجل الذي ظهر بعد اختطافه واخفائه قسرا طيلة عدة شهور اعتبره كثيرون خلالها في عداد الموتى، لابد أنه سيحضر بدافع الفضول، هكذا فكرت يومها وأنا في طريقي إلى المحكمة سيئة الصيت. كانت أقدامي قد درجت على السير في الطريق المؤدي الى تلك المحكمة إما لحضور جلسات محاكمة تعقد لقلة من الزملاء كعبدالكريم الخيواني أو ناشطين جنوبيين في الحراك أو لحضور جلسات أمثل فيها أنا مع زميلي نائف حسان ومحمود طه على خلفية إعدادنا ملف صحفي حول الحرب في صعدة. كان الطريق الى هذه المحكمة التي تأسست بدعم أمريكي لكي تكون أداة لمكافحة الإرهاب وشكلت في الواقع أداة لقمع حرية الصحافة والمجتمع المدني وإرهاب المحتجين اليمنيين على سياسات النظام بمختلف أطيافهم، كان الطريق إليها سيئا ومقيتا اعتدت أن يكسو التجهم ملامح وجهي أكثر فأكثر كلما تقدمت خطواتي عليه، لكنه كان مختلفا جدا تلك المرة. لقد كنت مبتسما وأتطلع إلى رؤية الصديق والزميل محمد المقالح الذي كان ظهوره بالنسبة إلي وإلى الكثير من الزملاء والأصدقاء بمثابة عيد حقيقي. فالرجل الذي اختطف ليل 17 سبتمبر 2009، وأخفي قسريا من قبل عصابة اختطاف تعمل لحساب علي عبدالله صالح، كان مصيره مجهولا طيلة الفترة التي سبقت ظهوره في المحكمة ذلك اليوم من فبراير. وقد تعززت القناعة لدى الكثير منا يوما بعد آخر أن الرجل تمت تصفيته في ظل إصرار النظام على نفي معرفته بمكانه أو أية علاقة له باختفائه من قمة هرم السلطة حيث يقف صالح إلى قاعدة الهرم حيث يصرح ناطقوه الرسميون المبتذلون. لابد أن كثيرين مثلي تساءلوا في الطريق عن الصورة التي أصبح عليها الرجل لاسيما بعد تداول معلومات مختلفة عن تعرضه للتعذيب وعن الهيئة التي أصبح عليها. وأتذكر أن أول شيء قمت به بعد دخولي القاعة هو التقدم من الحاجز الشبكي متجاهلا سير الجلسة التي كانت قد بدأت. كنت أسعى الى رؤية المقالح، وقد سألت أحد الزملاء الجالسين قرب الحجز عن مكانه، فأشار الى بضعة رجال خلف الشباك لم أعرف أيا منهم. حاولت تمييزه بينهم فيما كان أحد الجنود يطلب مني الجلوس وأنا أتجاهله. انتهى الأمر بتقدمه مني ودفعي الى مؤخرة القاعة حيث جلست ولم أتمكن من مكاني من مشاهدة أي شخص خلف شبك الحجز الذي لا يكشف الكثير. لكن ابتسامتي أخذت تتسع أكثر فأكثر وأنا أستمع الى المقالح يترافع عن نفسه من خلف الحاجز الشبكي. كان يتحدث بصوت قوي وبصدق وقد أحرج الإدعاء وهيئة المحكمة مرارا وأضحك القاعة أكثر من مرة بتعليقاته الساخرة التي خالطتها دفعات من ضحكته الطليقة. في ذلك اليوم، قال المقالح الخارج لتوه من أبشع جريمة قمع يمارسها نظام صالح ضد كاتب وصحفي على الإطلاق منذ قيام الوحدة وانطلاق التعددية السياسية في مايو 1990، إن الضحايا أقوى من المجرمين. مع انتهاء الجلسة، حاولت الوصول الى الحاجز الشبكي من أجل رؤيته. كان الجميع يحاول الوصول الى المكان نفسه، في حين تركزت جهود السجانين على إخراجه بسرعة الى فناء المحكمة حيث تنتظره عربة المساجين لنقله الى السجن. كانوا حريصين على إبعاده عن عدسات الكاميرات والصحافة وعدم تمكين أي شخص من تصويره حتى تعود إليه بعض العافية الجسدية. وربما، لهذا واصلوا محاكمته من 3 فبراير حتى 25 مارس 2010 قبل أن ينتهي الأمر بإطلاقه دون حكم. لقد بدا واضحا أنهم يسعون الى إخفاء آثار إختطافهم وتعذيبهم له طيلة شهور، وقد أبقوه في السجن على الأرجح حتى يعود إليه بعض وزنه. لقد تركوه يسمن بعض الشيء. سألت أحدهم عنه فأخبرني أنه قد غادر وعلى اللحاق به. ركضت الدرج نزولا هابطا الطوابق الثلاثة الى الفناء حيث شاهدت عربة المساجين واقفة وسألت جنديا عن المقالح. أشار الى رجل كان يحمل حملا الى فوق العربة بمساعدة جنديين، كان أول ما لاحظته رجلا بلا ساقين. بدا لي لحظتها أن الرجل بلا ساقين فعلا ولم يكن هناك سوى فردتي بنطلون أزرق يحاول أن يقف. قلت للجندي إنه ليس المقالح ووجدتني أصرخ فجأة: يا مقالح! إذا التفت إلي، فإنه المقالح فعلا، قلت في نفسي لحظتها. التفت المقالح الذي لم يتبق من جسده سوى الربع تقريبا. كانت لحيته قد طالت ولم يتبق من وجهه سوى العظام. رد بصرخة مماثلة باسمي، ولكن إبتسامته كانت عظيمة. في تلك اللحظة، أدركت أنهم لم ينالوا منه أبدا. لقد نالوا من شحمه ولحمه لكنهم فشلوا في النيل من قلبه وروحه وجوهر الإنسان والمناضل الكبير داخله. لم يقل لي شيئا سوى صراخه بإسمي كما لم أقل له شيئا سوى النداء باسمه. البرهة التي سمح لي بمشاهدته فيها قبل أن يدفعه الجنود الى داخل القفص، أمضيتها في تأمل ابتسامته التي أطلت على مجددا من خلال شباك قفص العربة الصغير بعد إغلاق القفص عليه وكأنه يودعني. لكن ما قالت لي تلك الإبتسامة كان كثيرا وعميقا للغاية، لقد غيرت مفهومي للطريق من والى تلك المحكمة ومفهومي عن علاقات ومحددات القوة بين الضحايا والمجرمين ومفهومي عن قوة الإنسان الذي يحمل قضية إنسانية ووطنية حقيقية بصرف النظر عن إتفاقنا وإختلافنا معه في مواقفه وتعبيره عنها. إنه لا يقهر. بالقضية كنت سعيدا بدون حدود. وقد علمني المقالح يومها أن جوهر الإنسان خماسي الأضلاع: نبرة صوته، رنة ضحكته، إبتسامته، لمعة عينيه وإيمانه التي يحملها. لم يتمكن الخاطفون والمجرمون من سلبه نبرة صوته ولا رنة ضحكته ولا ألحقوا بابتسامته ولمعة عينيه والحظ إلى جانبنا ويمدنا بطولة عمر هذا الإنسان اليمني الصادق والنادر ندرة الإنسانية والهوية اليمنية في هذا البلد الغارق في الحزن والظلام أي خدش على الإطلاق، وكذلك الحال، بالنسبة الى إيمانه بقضيته. المقالح الذي اختطف وأخفي بسبب نشره صور مجزرة بشعة طالت عشرات الأطفال اليمنيين والنساء والعجائز جراء قصف الطيران السعودي لمنطقة في صعدة خلال الحرب السادسة خرج مؤمنا بقضيته أكثر وقد دافع عنها حتى الآن. اليوم، يرقد المقالح في غرفة العناية المركزة بأحد مستشفيات العاصمة صنعاء إثر جلطة في القلب داهمته منذ يومين. وإذا لم يلحق أحدهم الأذى بهذه الأضلاع الخمسة، فإنه لم يلحق بك الأذى أبدا حتى وإن سلبك جسدك كله. ليقف الله. عن صحيفة " ألأولى"