تابعت حلقات من برنامج " شاهد على العصر " الذي أدلى فيه الأستاذ " عدنان الباجهجي " بشهادته عن أحوال العراق. والأستاذ عبد الصمد القليسي الباجهجي لمن لا يعرف هو: سياسي عراقي مخضرم َمثَّل العراق لدى الأممالمتحدة بعد قيام الثورة أيام حكم عبد الكريم قاسم؛ ثم عُين وزيرا للخارجية على عهد عبد السلام عارف. وهو موضع احترام لدى كثرة من العراقيين بما فيهم الرئيس الراحل صدام حسين. وكان قد غادر العراق إلى بريطانيا كمعارض قبل صعود البعث إلى الحكم، ثم عاد إلى البلاد مع الغزوة الغربية العربية. وقد أدلى في شهادته ببعض الحقائق؛ وتجنب الإدلاء بالبعض الآخر؛ وحاول في بعض الأحيان أن يتخذ موقفا وسطا بين الحقيقة والضلال. إلا أن ما لفت نظري من ذلك كله؛ هو رده على أحد المتداخلين العراقيين؛ الذي أراد منه المقارنة بين عراق ما قبل الغزو وما آل إليه حاله بعد الغزو، فكان جوابه أنها مقارنة بين سيئين. ولا أدري لماذا خالجني شعور بأنه كان يريد أن يقول شيئا غير ذلك. وظننت أنه كان الأجدر به أن يقول أنها مقارنة بين السيء والأسوأ؛ ما لم ينصف ويقول أنه لا وجه للمقارنة بين الحالين. لكنه بالقطع لا يحبذ إدانة نفسه بلسانه، كونه عاد إلى العراق مع الحملة الاستعمارية؛ وشَغَل منصب رئيس مجلس الحكم المؤقت؛ أثناء إدارة الحاكم العسكري الأمريكي " بول بريمر " للعراق. وأظن أن تفضيله العودة للعيش حيث كان في بريطانيا؛ إجابة وافية عن حال عراق اليوم؛ وعدم تفاؤله بالقادم. وسأضع نفسي موضع القائلين بأن نظام البعث وصدام كان نظاما سيئا؛ من حيث أنه كان عنيفا وشديد القسوة. وأفعل ذلك تجنبا لشبهة التعصب الحزبي؛ وعبادة الأصنام البشرية من جهة؛ ومن جهة أخرى؛ فإن هذا الموقع يسمح لي أن أضع أمام القارئ بعض الأسئلة التي تتيح مقارنة منصفة بينما كان؛ وما هو قائم. والسؤال الأول هو: كم عدد القتلى والجرحى والمعوقين الذين كانوا ضحية لنظام تجاوز عمره أكثر من أربعين عاما؛ وعدد أمثالهم من ضحايا الغزو خلال عشر سنوات لا غير؟ وسيعترضني هنا سؤال حتمي وهو: كم عدد ضحايا الحروب التي خاضها النظام؟ وردي أن كل حرب خاضها كانت بدفع أميركي؛ ودعم عربي واسع النطاق؛ كان هدفه الأول والأخير تحطيم قدرات العراق؛ واستنزاف ثرواته؛ وليس استبدال نظام بنظام. على أنهم نفضوا أيديهم عن العراق بعد أن تحقق لهم ما أرادوا.
وشاهد الحال أن الغزوة البربرية حطمت فيه كل شيء؛ وأوفت بما وعدت؛ وهو إعادة العراق إلى العصر الحجري. إذ لا ماء ولا كهرباء ولا صحة ولا فرص عمل ولا دخل يسد حاجة أغلب السكان. وفوق كل ذلك أن المواطن في بلاد الرافدين لم يعد آمناً ولا مؤتمنا. ولنا أن نتصور أن شعب العراق الذي يمتلك الثروات الهائلة؛ ويبيع المتنفذون نفطه بالمليارات؛ أصبح يستعطي المعونات الغذائية من الصليب الأحمر الدولي، وهو ما لم يفعله خلال ثلاثة عشر عاما من الحصار المحكم عليه. وأفظع من كل ذلك أن دويلات عرقية وطائفية بدأت تتخلق في الكيان الوطني؛ ما ينتهي بالعراق أن لا يعود عراقا! والمعادون للنظام السابق لا يذكرون له حسنة واحدة؛ رغم أن القسوة كانت تترافق مع تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وبشرية واضحة للعيان.
والسؤال الثاني هو: هل أن الحزم الذي بلغ حدود القسوة كان طبيعة في ذلك النظام؟ أم أن ضرورات موضوعية فرضته فرضا؟ وبرأيي؛ وحسب ما أثبتته وتثبته الأحداث التي جرت منذ الغزو حتى الآن؛ أن الحزم كان ضرورة يقتضيها الواقع العراقي. وما زال كلام الأستاذ محمد الصحاف الذي كان وزيرا للإعلام إبان غزو العراق يرن في إذني؛ منذ أن حاول برامجي خليجي في مقابلة أجراها معه؛ أن يستدرجه لإدانة النظام الذي كان جزءا منه؛ فلم يزد في إجابته على القول: أنصح أن لا تحكموا على نظامنا بالسلب ولا بالإيجاب حتى تروا ما سيليه.
أعرف بعد ما قلت أن الأخوة الإيرانيين سيغضبون ولهم بعض الحق في ذلك. وستتجه أصابع اتهام الكثيرين من الديمقراطيين الجدد نحوي؛ معتبرة أنني من أنصار الديكتاتورية. والحق أقول؛ أنني ضد أية ديمقراطية تتيح الفوضى؛ وتبيح التشرذم. كما أنني وبالمطلق ضد دكتاتورية تحيل الأوطان إلى بقرة تصب حليبها في جفنة حفنة من رجال الأعمال الأجانب؛ والمتنفذين المحليين، أو ما أصبح يُعَرَّف باطلا بالشراكة العربية الأوربية؛ أو الشراكة العربية الأميركية ... وما شاكلها!