تصاعدت حدة الجرائم الإرهابية التي شهدتها البلاد، طوال السنوات الثلاث الماضية، ووصلت ذروتها باختراق قوى التطرف والإرهاب للمؤسسة العسكرية والأمنية كنتيجة طبيعية لسياسة المحاصصة وأخونة الدولة والجيش والأمن تحت مسمى إعادة هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. وبالنظر إلى الأضرار السياسية والاقتصادية والأمنية والبيئية التي ألحقها الإرهاب ببلادنا، وما زالت تداعياتها وآثارها تفرض ظلالاً ثقيلة على عملية التسوية السياسية والاقتصاد الوطني والسلام الاجتماعي، وعلى علاقات اليمن بمحيطه الإقليمي والعالمي، أصبحت مواجهة هذا الخطر مهمة وطنية تستلزم مواجهة شاملة من قبل الدولة والمجتمع، بعيداً عن المكايدات السياسية والحسابات الضيِّقة وتقاسم السلطة. صحيح أن ثمة تجاذبات حزبية وسياسية أحاطت بطرق تناول خطر ثقافة العنف على وعي وسلوك الذين تأثروا بالثقافة التكفيرية التي تجسَّدت في أشكال مختلفة من التعبئة الخاطئة لبعض الشباب عبر الخطاب الديني المتعصب ومناهج التعليم المتخلفة، بيد أن هذه الثقافة المشوهة لا تنحصر فقط في الخطاب الديني الذي تورَّط فيه بعض رجال الدين والدعاة المشتغلين في البيئة السياسية للمجتمع، إذ أن هؤلاء يمارسون نشاطاً سياسياً وحزبياً بامتياز، رغم محاولة التماهي مع أيديولوجيا دينية لا تحظى بإجماع كافة قوى المجتمع المدني، خصوصاً وأن الضالعين في توظيف الدين لأغراض سياسية بحتة، يمارسونه من خلال أطر حزبية في ظل نظام سياسي تعددي، يتيح لكافة قوى المجتمع وفاعلياته الحزبية والفكرية والثقافية فرص التمتع بكافة الحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية التي يكفلها الدستور القائم حالياً للمواطنين، وفي مقدمتها حرية الصحافة والحق في تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، واستخدام الآليات الديمقراطية للتعبير عن أفكارهم وبرامجهم السياسية، وتداول السلطة أو المشاركة فيها سلمياً من خلال الانتخابات المباشرة والحرة التي تشارك فيها الأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات غير الحكومية والمواطنون والمواطنات عموماً. ولمّا كان قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية يمنع قيام أي حزب أو تنظيم سياسي على أساس الادعاء باحتكار تمثيل الدين أو الأمة أو الوطن، انطلاقاً من حرص المُشرِّع على سلامة الممارسة الديمقراطية، ومراكمة المزيد من التقاليد والخبرات التي تصون مرجعية الأمة كمصدر للسلطة، فإن أي ادعاء باحتكار تمثيل الدين أو استخدامه لممارسة وصاية غير مشروعة على الدولة والمجتمع، يعدُّ تجاوزاً خطيراً للدستور الذي ينظم قواعد الممارسة السياسية، وانتهاكاً خطيراً لمبادئ الديمقراطية وقيمها، الأمر الذي يلحق ضرراً بالأسس الدستورية للنظام السياسي القائم في البلاد، ويفسح الطريق لمزيد من زعزعة الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والأمن والاستقرار. إن مستقبل الديمقراطية الناشئة في اليمن يتوقف على مدى النجاح في إنضاج المزيد من شروط تطورها اللاحق، عبر مراكمة خبرات وتقاليد تؤسِّس لثقافة سياسية ديمقراطية، وتمحو من ذاكرة المجتمع رواسب الثقافة الشمولية الموروثة عن عهود الاستبداد والتسلُّط، بما تنطوي عليه من نزعات استبدادية تقوم على الإقصاء والإلغاء والتكفير والتخوين والزعم باحتكار الحقيقة، وعدم قبول الآخر ورفض التعايش معه، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف إلى تسويق مشروع استبدادي غير قابل للتحقيق بالوسائل الديمقراطية، ويبرِّر بالتالي العدوان عليها من خلال استخدام العنف بوصفه الوسيلة الناجعة للإقصاء والانفراد. مسؤولية الجميع لا ريب في أن أطرافاً سياسية بعينها تتحمَّل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدَّى إلى انتشار التطرف لدى بعض المتأثرين بهذا الخطاب، وأنتج من بين صفوفهم بعضَ القتلة والمجرمين القُساة الذين تورَّطوا في ارتكاب جرائم إرهابية وحشية، بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة إلى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف، وبقايا نزعات الاستبداد والإقصاء والإلغاء والانفراد والأحادية، ليست حكراً على طرف سياسي دون آخر، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب. بوسعنا القول إن ثقافة الاستبداد في مجتمعنا اليمني والمجتمعات العربية امتلكت أجهزتها المفاهيمية من خلال طبعات مختلفة للأيديولوجيا الشمولية التي اشتغل مثقفوها على أدوات وأطر تتسم بالإفراط في تبسيط الظواهر والوقائع والإشكاليات والتناقضات القائمة في بيئة الواقع، والسعي إلى إخضاعها للأُطر الفكرية والأهداف السياسية للأيديولوجيا، بما هي منظومة جاهزة ونهائية من الأفكار والأهداف والرؤى والتصورات والآليات والتهويمات التي تسعى إلى السيطرة على وعي وسلوك الناس، وصياغة طريقة تفكيرهم وتشكيل مواقفهم واستعداداتهم ونمط حياتهم على أساسها. ولمّا كانت الأيديولوجيا سواء كانت ذات لبوس ديني أو قومي أو اشتراكي تنزع دائماً إلى ممارسة الوصاية على العقل، إذ تزعم باحتكار الحقيقة وتسعى إلى أدلجة المعرفة، فإنها تُعطِّل في نهاية المطاف دور العقل كأداة للتفكير والتحليل، حين ترى العلَّة في الواقع لا في السياسات والأفكار والتهويمات التي تؤثر على طريقة فهم الواقع والتفاعل معه.. بمعنى فرض سلطة الصنم الأيديولوجي، بصرف النظر عن لبوسه، وما يترتب على ذلك من افتقاد الموضوعية والعجز عن معرفة الواقع واكتشاف الحقيقة!! من نافل القول إن جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية وبدون استثناء تورَّطت خلال المرحلة الانتقالية بأشكال ومستويات مختلفة في إنتاج ثقافة العنف والتعصُّب، عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة استبدادية وإلغائية وإقصائية، تحت شعارات (التغيير) أضاعت فرصاً تاريخية لتطور المجتمع، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة، وخلقت جراحاً غائرة وطوابير من ضحايا الجرائم الإرهابية والحروب الأهلية والاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسياً وأيديولوجياً، سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية، أو بذريعة حراسة الدين ومحاربة الكفر، بما في ذلك فتوى ((التترس)) الدخيلة على الإسلام، والتي أطلقها الحرس الكهنوتي القديم لحزب التجمع اليمني للإصلاح (الذراع السياسي للإخوان المسلمين في اليمن) خلال حرب صيف 1994م، والتي أباحوا فيها قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط الطائفة المتعنتة، ويوفرون لهذه الطائفة ((المرتدة)) فرصة التترس.. والمثير للدهشة أن الذين روجوا لهذه الفكرة الفاشية زعموا بأن ((العلماء أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر الكفر عن دار الإسلام)) بدعوى أنهم سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم!! ضرورة المراجعة والتجدد لم يعد الإعلان عن رفع شعارات (التغيير) والإصلاحات السياسية والاقتصادية كافياً لدمج أي طرف سياسي في العملية الديمقراطية، ما لم يتم التخلص من الجمود العقائدي والتعصُّب للماضي القريب أو البعيد، والتوقف عن الهروب من الاعتراف بالأخطاء ومراجعة التجارب والأفكار والمواقف، تبعاً للمتغيرات التي تحدث في العالم الواقعي، وتستوجب بالضرورة تجديد طرائق التفكير والعمل، والبحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة التي تطرحها متغيرات الحياة، وإبداع أفكار جديدة وتصورات وحلول مبتكرة للقضايا والإشكاليات التي تفرضها علينا تحولات ومنجزات العصر ومتغيرات الحضارة المعاصرة، ولا يمكن معالجتها بوسائل وأفكار قديمة وماضوية. لعل أهم ما تميزت به تجربة الزعيم علي عبدالله صالح، عندما كان على رأس السلطة، هو إدراكه منذ وقت مبكر لخطورة الانغلاق والتعصب والأحادية والجمود العقائدي والإقامة الدائمة خارج العصر.. وقد تجسَّدت في سلوكه السياسي ميولٌ واضحة للتسامح مع خصومه ومعارضيه، والانفتاح عليهم، الأمر الذي انعكس على تراكم وتطور خبرته القيادية الطليعية، بفضل قدرته على المبادرة في مراجعة الصيغ المعيقة للتقدم، وعدم التعاطي مع قوالب التفكير والعمل الجاهزة، وقدرته على اجتراح المبادرات الجسورة، الأمر الذي شكَّل مساهمة فاعلة في تأسيس ثقافة سياسية جديدة تتجاوز ثقافة التعصب والانغلاق والأحادية. على هذا الطريق دعا الزعيم علي عبدالله صالح، رئيس المؤتمر الشعبي منذ تسليمه السلطة في فبراير 2012م، كافة القوى السياسية إلى مراجعة أفكارها ومواقفها، والمبادرة في تجديد أفكارها, مشاريعها، والتخلص من رواسب الثقافة السياسية القديمة، كما دعا دائماً إلى بناء اصطفاف وطني لمكافحة الإرهاب والتطرف. يقيناً أن ثقافة العنف والتعصب لا تنحصر في طرف سياسي بعينه أو طبعة محددة من طبعات الأيديولوجيا الشمولية التي عرفها المجال السياسي لمجتمعنا، بل تتجاوز ذلك بالنظر إلى مفاعيلها المتنوعة في البيئة الفكرية والثقافية والتعليمية والاجتماعية التي تعاني من تشوهات لا تحصى، بما في ذلك السيولة التي تتجسد في انتشار الأفكار والمفاهيم الفقهية المتطرفة، واستخدام السلاح تحت ذريعة المحافظة على الدين والعادات والتقاليد وحماية الخصوصية!! تأسيساً على ما تقدَّم يمكن القول بأن إجماع القوى السياسية على إدانة الجرائم الإرهابية التي يرتكبها تنظيم (القاعدة) ودواعشه برعاية أطراف نافذة في السلطة والمجتمع تستهدف توظيف الإرهاب لتصفية حسابات ضيقة، من شأنه أن يفسح الطريق لاستكمال عملية التسوية السياسية، وبناء اصطفاف وطني ضد هذا الخطر الماحق، وصياغة استراتيجية وطنية شاملة لتجفيف منابعه، وصولاً إلى بلورة مشروع وطني شامل لتحديث الدولة والمجتمع في مختلف ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والعلوم والإدارة والتعليم والإعلام، على طريق الخروج من فجوة التخلف والانقطاع عن إبداع الحضارة التي تهدد حاضرنا ومستقبلنا بأوخم العواقب.