عندما وصل الرئيس صالح إلى الحكم كانت هناك مراكز للقوى تفرض رؤاها الخاصة والضيقة على الحاكم وحتى على المتدخل العربي والأجنبي في الشأن اليمني, وهي كانت تستند إلى قوتها القبلية التي كانت حقيقية, لأن روؤس هذه المراكز كانت مرتبطة بقواعدها بقوة, فقد كانت معبرة فعلاً عن قواعدها ومندمجة بها, فشيخ القبيلة في حينه كان يعيش بطريقة لا تختلف كثيراً عن بقية أفراد قبيلته, وكان كريماً معهم (على الأقل بوقته ومواقفه ومجلسه). قام الرئيس صالح خلال سنوات حكمه ومن أجل بناء والحفاظ على سلطته بإستخدام المال و المناصب الحكومية لإضعاف مراكز القوى تلك, وتحويلها إلى مراكز نفوذ له, فأغدق عليهم من خزينة الدولة ومن سلطاتها ليتمكن من فصلهم عن قواعدهم و أن يجعلهم أدوات تستخدم من القيادة(الأعلى) بإتجاه القواعد (الأسفل) بعد أن كانت قوى تعمل مستندة للقواعد (الأسفل) بإتجاه القيادة (الأعلى). مراكز القوى القبلية تلك كانت تشكل عائقاً في طريق بناء الدولة, وتصادمت مع الرئيس الإرياني و من بعده الرئيس الحمدي عندما أرادا بناء دولة حقيقية, وقد نجح الرئيس صالح إلى حد كبير في التقليل من نفوذ هذه المراكز و من خطرها على السلطة, لكن ذلك لم يكن بدافع حرص الرئيس صالح على بناء الدولة بل بغرض حماية حكمة وسلطته, فهو لم يسع لإحلال نفوذ سلطات الدولة (الدستورية) محل الفضاء السيادي الشاغر الذي تركه إبتعاد شيوخ القبائل عن أداء دورهم السابق داخل قُبلهم وبين قبائلهم, بل ترك الفوضى تسود وقانون الغاب هو السائد في أغلب مناطق الدولة, لأنه لم يمتلك مشروعاً بديلاً للدولة, حتى ولو مشروع غير مدني, فلم يسع لإقامة دولة عسكرية ولا دولة دينية ولا دولة قومية ولا دولة أممية, فهو لم يسعى أو يفكر ببناء دولة إطلاقاً. عموماً,, إستطاع الرئيس صالح أن يجعل المنظومة القبلية (وحتى أغلب المنظومة الدينية وبعض التنظيمات الأيدولوجية) مرتبطة به و بعبثه معهم بالمال العام والوظيفة العامة, وبدلاً من أن يكون سعيهم في علاقتهم بالسلطة هو لتحقيق مطالب و تحسين أوضاع مجتمعاتهم التي يمثلونها, أصبحوا يلهثون وراء الأراضي و المناقصات والمقاعد النيابية والحقائب الوزارية أو حتى يتنافسون على مرافقة الرئيس صالح في سفرياته, مماجعلهم ينعزلون تدريجياً عن قواعدهم, فأصبحوا غرباء في مجتمعاتهم و أصبحوا يعيشون حياة تختلف تماماً عن حياة أفراد مجتمعاتهم ولم يعودوا يمثلونها, بل أصبحوا ممثلين للرئيس لدى هذه المجتمعات, وهذا جعل منهم مجرد مسئولين فاسدين و تجار نافذين يلبسون زي شيوخ القبائل الذي تخلوا عن مضمونه بإنجرارهم وراء ما حاكه الرئيس لهم. اليوم.. لم تعد للمنظومة القبلية والدينية تلك القوة ولم يعد لها ذلك التأثير, هي تحاول اليوم أن تصور نفسها أنها مازلت مراكز للقوى, وأنها قادرة على التهديد, وأن المستقبل لابد أن يمر عبرها, متناسية أنها خلال العقود الثلاثة الماضية باعت نفسها للرئيس على حساب مجتمعاتها, التي كانت ترى في هذا المراكز السند والدعم, فإذا بها تحولت تدريجياً إلى عبء ثقيل على كاهل مجموع أفراد هذه المجتمعات. وبغض النظر عن دوافع الرئيس صالح فهناك نتيجة أيجابية حقيقية لابد من أن يتم البناء عليها, وهي أن المنظومات التي كانت قادرة على إعاقة الدولة لم تعد قادرة اليوم, ولم تعد شيئاً يذكر وإن أظهرت عكس ذلك, وأن مشروع الدولة المدنية لا يعيقه الآن إلا مخاوف وهواجس بداخلنا لم تعد موجودة على أرض الواقع, فهذه المنظومات أصبحت عتيقة ومُستَهلكَة ولا يجب الإلتفات إلى مطامعها أو حتى الإهتمام بمراضاتها على حساب مشروع الدولة المدنية, لأن ذلك سيعيدها تدريجياً إلى الحياة بعد أن هلكت.